يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - الانحراف المعياري
عالم الإحصاء والاحتمال مظلوم في واقعنا المعاصر، أذكر جيدًا كم تخيف دراسته الطلبة الأكاديميين ربما لأن الأمر يختلط على الناس فيظنون أنه جزء من الرياضيات، في الواقع فقط مجرد استعمال أسس وقوانين الرياضيات لا غير.
يوسف ابو جعفر - صورة شخصية
عندما درست " الكورسات " الأولى في عالم الإحصاء في كلية سابير حاولت جاهدًا فهم الموضوع وخصوصا مصطلحاته وتعريفاته، فسوى المعدل الذي يسهل على الطالب فهمه بسهولة، هناك عشرات المعادلات تفقد معناها، ربما لأننا كنا ندرس بالعبرية، ورغم ذلك وجدت صعوبة أكبر في محاولة ربط الموضوع بحياتنا اليومية، في معظم المحاضرات يربطون الإحصاء في عالم الاختبارات والأدوية ويبحثون من خلاله عن قوانين لتحديد مجالات التأثيرات السياسة واستطلاعات الرأي .
في الغالب لم استمتع بهذا الجانب حتى ألتقيت بروفيسور دبورا في جامعة هارفارد، لقد استطاعت وبجدارة ربط الموضوع في حياتنا ولذلك كنت أشاهد الطلبة الذين يستصعبون الرياضيات يتنافسون على الدخول لمحاضراتها . لقد أخذتنا من أسهل الأشياء والمضحكة في طرحها إلى الأكثر تعقيدًا، من يتكلم أكثر النساء أم الرجال؟ حوادث الطرق، التعليم، الزواج، وتدرجت بنا حتى كبرى المسائل المعقدة، وفي جميعها كنا نتساءل كيف غفلنا عن هذه الأمور في حياتنا.
شي واحد أصرت عليه بروفيسور دبورا افهموا جيدا Standard Deviation المختصرة في حرفي SD ، وما يطلق عليه بالعربية في عالم الإحصاء الانحراف المعياري. ما كنت لأقلق في الموضوع وأشغل بالكم في عالم الإحصاء لولا أن الأمر بسيط، تخيلوا أنكم تملكون قبضة من حبات الحمص وترمون بها في صحن كبير لتتناثر بهدوء، الانحراف المعياري هو كم تبعد حبات الحمص عن متوسط المسافة، بمعنى آخر كم حبات الحمص قريبة من المتوسط وكم منها بعيدة.
ما كنت لاشغل بالكم في الحمص وحباته ولكن تخيلوا معي للحظة أن هذه الحبات هي في المقام الأول اشخاص يحملون أفكار وإن شئت فقل قادة، والمتوسط هنا يمثل الرأي الاغلب والعام أو ما هو قريب من الإجماع، والسؤال المطروح بكل بساطة إذًا كم يبتعد أو يخرج القادة أو ينحرفون عن الخطوط والمبادئ الأساسية.
لقد عقدت الأمور بعض الشيء أليس كذلك؟
أعرف ذلك ولكي أبسطها، هل انحرف نيلسون مانديلا عندما بقي في السجن كل سنوات الفصل العنصري لجنوب أفريقيا؟ هل انحرف مهاتما غاندي عندما فاوض الإنكليزي؟ وهل يعتبر طريق أوسلو انحرافًا معياريًا في نظر الفلسطينيين والعالم العربي؟
لماذا انطلقت من العالم ثم وصلت إلى هنا؟ فقط لندرك أننا لسنا مركز العالم وهناك قبلنا كثير من التجارب، ولنعد إلى حبات الحمص، تلك الحبة التي تتدحرج رويدًا مبتعدة عن كل الحبوب في الصحن وربما تقفز خارجه لتسقط على الأرض، هل نستطيع حساب الانحراف المعياري لها؟ وهل يحق أكلها طبعًا بعد الغسل وربما إعادتها إلى الوسط وليس إلى الطرف؟ هكذا هو الواقع هناك قادة ينحرفون ويخرجون عن الاجماع ومنهم من يسقط خارج دائرة الإجماع كحبات الحمص التي تناثرت رويدًا وبعيداً.
قد يدعي البعض أنها حاولت أخذ بقية الحبات بعيدًا عن مطحنة الحمص لتصبح متحدة وتتحول إلى حبة فلافل لذيذة مقرمشة، لأن البعض يكره الفلافل، وهناك من يقول كلا لقد سقطت في المهمة الأساس .
ولذلك طالما أشغّل فكري كيف نقيس القادة وحبات الحمص في مجتمعاتنا بهدوء دون رونق، دون ضجيج مزعج، أقول لكم انظروا حولكم جيدًا واحذروا أن يصبح هَم القادة هو الانحراف ولو بحجة القيادة أو طرح البديل فقط لأن ضجيج حبات الحمص في الصحن وهي تقفز مودعة المجموعة قد يبدو موسيقياً ولكنه دون شك انحراف معياري كبير.
وحتى نلتقي، أفكارنا وحياتنا وقيمنا ليست حبات حمص ستصل المطحنة لتنتج رأيًا جديدًا، إن متوسط أفكارنا هو الإجماع وليس حبة فلافل، أنه المجتمع أنه غد أطفالنا، ولا يحق لأحد سلبه منا حتى ولو حاول إقناعنا أنه القائد الفذ، الانحراف المعياري الكبير هو جنوح كامل عن الطريق ولذلك انظروا حولكم ولا تعجبكم الكلمات المنمقة والكبيرة من بنى مجتمعًا؟ ومن يبني قيمًا غريبة بعيدة عنا ويحاول إقناعنا بأن قفزه خارج الحلبة هو قيادة وهو في الحقيقة انحراف معياري وخروج عن الصف، في النهاية اعتذر من القراء الذين يقرأون بصمت دون تعليق وأقول ربما تختلط الأمور على البعض ولكنها في نظري مرحلة مهمة لفحص ثوابت وإجماع المجتمع كل في عالمه، في النقب والمثلث والجليل والشرق الأوسط لمن يحب، المهم أن نفقه قوانين الإحصاء.
من هنا وهناك
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
-
وداعًا أستاذ فتحي - بقلم : أ. مأمون ادريس عبد القادر
-
‘ما بين التعليم عن بعد، الوجاهي والهجين - بقلم : د. غزال أبو ريا
-
مقال ‘عايشين العادة!‘ - بقلم : المحامي شادي الصح
-
مقال: ثلاثة مشاريع متصارعة لشرق اوسط جديد، ما هي السيناريوهات؟ بقلم : د. سهيل دياب
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ناقوس
-
المحامي زكي كمال يكتب في بانوراما وبانيت : الانتقال من حُروب الدُوَل إلى حُروب المِلَل
التعقيبات