‘الإنسان بين الجسد والعقل: قراءة فلسفية في رمزية السقوط والمعرفة‘ - بقلم: سليم السعدي
تتناول هذه الدراسة العلاقة الجدلية بين الجسد والعقل في الإنسان، انطلاقًا من لحظة السقوط الأولى كما وردت في النصوص الدينية، حيث يُفهم أكل الإنسان من الشجرة المحرّمة بوصفه تحوّلًا في مركز الوعي من المعرفة العقلية الروحية
إلى المعرفة الحسية المادية. وتفترض الدراسة أن انشغال الإنسان بجسده وإهماله لعقله هو أحد أبرز مظاهر الانفصال عن الحكمة الإلهية، وما ترتب عليه من نتائج وجودية كالموت والمرض والاغتراب عن الذات.
منذ القدم، شغلت ثنائية الجسد والعقل الفكر الإنساني في ميادين الفلسفة والدين والعلوم الإنسانية. وقد ارتبطت هذه الثنائية بما يُعرف في اللاهوت الإبراهيمي بـ"سقوط الإنسان"، وهو الحدث الذي مثّل منعطفًا حاسمًا في الوعي البشري، إذ تغيّر إدراك الإنسان لذاته وللكون من حالة الوصل الروحي إلى حالة الفصل المادي.
وعند مراجعة الرواية التوراتية والقرآنية عن الأكل من الشجرة، نلحظ أن أول وعي طرأ على الإنسان بعد المخالفة كان وعي الجسد: "فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان".
إن هذه اللحظة تمثل من الناحية الفلسفية نقطة الانزياح من الوعي العقلي إلى الوعي الجسدي، ومن إدراك الكليات إلى انشغال بالحواس والغرائز.
أولًا: الجسد والعقل في التصور الديني
يُظهر النص القرآني أن الإنسان خُلق في "أحسن تقويم"، أي في توازن بين المادة والروح. الجسد لم يكن عورة في الأصل، بل وعاءً للروح الإلهية.
وحين أكل الإنسان من الشجرة، لم يفقد المعرفة، بل استبدل نوعها؛ فبدل أن يعرف بعقله وحكمته، عرف بحواسه وغريزته. ومن هنا جاء الخجل والاختباء، كرمزين لانفصال الوعي عن مصدره الأعلى.
هذا الانفصال هو الذي مهّد لدخول الإنسان في دائرة الموت والمرض، لأن الجسد حين ينفصل عن العقل يفقد توازنه الحيوي والنفسي والروحي.
ثانيًا: التحليل الفلسفي للسقوط
من منظور فلسفي، يمكن تفسير السقوط كتحوّل في "مستوى الإدراك". فقد انتقل الإنسان من العقل الكلّي إلى الوعي المحدود، ومن الحرية الروحية إلى العبودية الحسية.
يقول الفيلسوف أفلاطون إن النفس حين تلتصق بالمادة تُصاب بالنسيان، وحين تتطهّر بالمعرفة تستعيد ذاكرتها الأزلية. وهذا ما يؤكد أن المعرفة الحسية هي التي كبّلت الإنسان بالمادة، بينما المعرفة العقلية كانت طريقه نحو الخلود.
أما في الفلسفة الحديثة، فقد حاول ديكارت إعادة الاعتبار للعقل بقوله: "أنا أفكر إذن أنا موجود". لكنه في الوقت ذاته فصل العقل عن الجسد، مما عمّق الانقسام بدل تجاوزه.
أما الإنسان المعاصر، فقد انحدر أكثر، فصاغ معادلة جديدة تقول ضمنيًا: "أنا أمتلك إذن أنا موجود". وهكذا أصبح الوجود يقاس بالمظهر والمادة، لا بالفكر والمعنى.
ثالثًا: الأبعاد النفسية والعلمية
تشير الدراسات الحديثة في علم النفس العصبي إلى أن الحالة الذهنية تؤثر بشكل مباشر في وظائف الجسد. فالعقل المرهق يولد جسدًا مريضًا، والعقل المتوازن يعزز المناعة والحياة.
وبناءً على ذلك، يمكن النظر إلى الموت والمرض ليسا فقط كنتيجة بيولوجية، بل كامتدادٍ لسقوطٍ معرفي قديم: حين غابت الحكمة وحضر الانفعال، وحين قاد الجسد العقل بدل أن يقوده.
رابعًا: نحو استعادة التوازن
إن التحرر من سطوة الجسد لا يعني إنكاره، بل إعادة العقل إلى موقع القيادة. فالعقل هو المفسّر والمعيار والموجّه للغريزة، كما أن النهي الإلهي في قصة الشجرة لم يكن حرمانًا من المعرفة، بل توجيهًا نحو النوع الصحيح منها.
ومن ثمّ، فإن خلاص الإنسان المعاصر يبدأ من استعادة وعيه العقلي – لا العقلي المجرد فقط، بل العقلي الأخلاقي المتصل بالروح.
حينها يعود الجسد إلى طهارته الأولى، ويتحقق التوازن الذي أشار إليه النص القرآني: "ولقد كرّمنا بني آدم"، أي كرّمه بالعقل والإدراك لا بالشكل والمظهر.
الخاتمة
إن انشغال الإنسان بجسده هو انعكاس لسقوطه الأول في عالم الحس، وإن خلاصه يكمن في عودة وعيه إلى أصله العقلي والروحي.
فالإنسان الذي كشف عورته يوم أكل من الشجرة لم يدرك أنه في الوقت ذاته أخفى عقله.
وحين يرفع العقل من جديد فوق الغريزة، يشفى الجسد من المرض، وتستعيد الروح صفاءها الأول.
فالخلود ليس استمرار الجسد، بل استنارة العقل، وبه وحده يستعيد الإنسان مكانته بين الأرض والسماء.
Stock-Asso - shutterstock
من هنا وهناك
-
فضلات الجار: الاقتصاد الدائري في المجتمع العربي
-
‘من حكم الانتداب إلى وصاية ترامب‘ - بقلم : أحمد سليمان العُمري
-
قراءة في كتاب ‘الدواء والشفاء‘ - بقلم : صفوان أبو لاشين
-
مقال: القرار الرئاسي الفلسطيني بتعيين الشيخ، الدلالات والتوقيت! بقلم: د. سهيل دياب - الناصرة
-
‘ضياع الشباب بين طرفة بن العبد وجون كيتس‘ - بقلم : إبراهيم أبو عواد
-
مقال: الثابت الوحيد هو المتغير: جدلية التحول الدائم في العلاقات الدولية - بقلم: د. عمر رحال
-
‘الانتخابات طريقنا لإصلاح الواقع‘ - بقلم : الكاتب اسعد عبدالله عبدعلي
-
‘هل انتهت الحرب العسكريّة.. فبدأت الحرب السياسيّة !!‘ - بقلم: المحامي زكي كمال
-
‘ أولوية التعافي وإعادة الإعمار في ظل الدعوات إلى التهدئة‘ - بقلم : الكاتبة لارا أحمد
-
‘ إعادة إعمار غزة بين التهدئة ونزع السلاح: موقف دولي موحد‘ - بقلم : لارا أحمد





أرسل خبرا