‘ الفارس الأول ‘ - قصة قصيرة بقلم : ناجي ظاهر
عندما ولد ابنه الاول والوحيد، حمله فرحُهُ الى نافذة غرفة الولادة، وبينما هو ينظر الى العالم الفرح البسام، جاءه صوت زوجته من ورائه:
صورة شخصية - ناجي ظاهر
ماذا سنسميه؟
ارسل نظره الى المناظر الغناء المحيطة بالمستشفى، متابعا بنظره هناك عددا من الخيول تنعم بالحياة وسط الاعشاب الخضراء، توقف نظره عند حصان اسود غطس، فرد على زوجته دون ان يلتفت نحوها:
- ادهم.. سنسميه ادهم الغيهبي.
حمل المولود اسم الغيهبي، بعد يوم او يومين.. توجه به والداه الى بيتهما هناك نعم بالحياة السعيدة في غرفته المزينة الفريدة،.. وكان اول سؤال وجهه الى والديه، والدِه بالتحّديد، عن معنى اسمه، وعندما اجابه ابوه انه الحصان الاسود شديد السواد، لمعت عينا الصغير، وراح يمشي في الشارع مثل مهر حديث عهد بالحياة. ما لفت الانظار اليه وعزز في ثقته بنفسه، وجعله يحب الخيول، خاصة العربية الاصيلة، حبا يستعصي على الوصف، وكثيرا ما كان الغيهبي يحلم في الليالي الغافية حول سريره، بانه يعيش بين الخيول، ويركض وراء حصان اسود، يمسك بلجامه ويمتطيه جائبا الدنيا به طولا وعرضا. وكان الوالدان كلما لمسا ما في قلب ابنهما من مدى هذا الحب للخيول، لمعت عيونهما وارسل كل منهما نحو الاخر نظرة رضا ومحبة.
كبر حب الغيهبي للخيول ساعة اثر ساعة، يوما بعد يوم وسنة تلو سنة، وعندما بلغ السابعة من عمره، حدث ان تواجد مع والديه خلال لقائهما بصاحب حظيرة للخيول، فابتعد الغيهبي عن الجميع، واقترب من حصان اسود، ناسيا المحيطين به ومركزا في بؤرة باتت محط امله وطموحه. في الحصان. في هذه الاثناء اقترب الوالد من ابنه بخفة من لا يريد ان يقلق من قبالته، وسال ابنه:
-الى هذا الحد تحب الخيول؟
فرد الغيهبي وهو يركز نظره في الحصان وراء حاجز الحظيرة قبالته:
-هل يسمح لي صاحبه ان المسه؟
لمعت عينا الوالد فرحا بوليده، وتوجه الى صاحب الحظيرة ليطلعه على رغبة ابنه، ابتسم صاحب الحظيرة وهو يفتح الحاجز ليدخل جوان وليقترب من الحصان الاسود بخطى ولي عهد حظي بالعرش للتو، وراح يلامس الحصان بخفة مُحب يود ان يشبع من ملمس محبوبه.
في طريق العودة الى البيت، ظهر اهتمام الغيهبي الجنوني بالحصان الاسود واضحا جليا، فما كان من والده الا ان نوى ان يصطحبه في نهاية الاسبوع الى بلدة مجاورة ليتعلم هناك ركوب الخيل. وفي نهاية الاسبوع كان ابناء الاسرة الصغيرة الثلاثة، الغيهبي ووالده ووالدته، في حظيرة تأجير الخيول، وما ان اتفق الوالد مع صاحب الحظيرة على ان يستأجر الحصان الاسود مدة قصيرة من الوقت، حتى امسك الغيهبي بلجام الحصان وركض، به محاولا ان يمتطيه، فعل هذا وسط اندهاش والديه وصراخهما المكتوم، وحصل ما توقعه الوالدان، الحصان جمح راكضا ولم يتمكن الغيهبي من امتطائه ربما لقلة خبرته.. وربما لرغبته الجامحة المجنونة. بعد عدد من المحاولات، تمكن الغيهبي من امتطاء الحصان الاسود، وانطلق في المدى المفتوح امامه ما جعل الوالدين يمتلئان فرحا وحبورا، غير ان فرحهما توقف فجأة ليريا الحصان وقد اطلق صهلة غريبة.. انتصب على قائمتيه الخلفيتين واوقع فارسه.
النتيجة كانت ان يد الغيهبي قد كسرت، في اول فعل حصانيّ له، غير انه ما ان تشافى وتعافى، حتى نسي ما حدث، وتمكن من اقناع والديه المحبين ان ما حدث، ما هو الا امر طبيعي، بل انه استعمل كل ذكائه في اقناعهما بما قاله لهما، متوسلا حينا بوعي وآخر بغير وعي، بقصص واقعية واخرى متخيلة وقعت لأناس عرفهم حينا واخرين تخيلهم حينا اخر، كسرت أيديهم او ارجلهم خلال امتطائهم الاول للأحصنة.
مضت السنوات، بطيئة لدى الغيهبي، وسريعة لدى والده المشغول بتوفير الحياة السعيدة له ولابني اسرته الصغيرة، الغيهبي وامه، الى ان روى الغيهبي حكاية اختلقها من بنات خياله، وقرر ان تكون نافذته الى ما اراده وتمناه منذ اليوم الاول لتفتح وعيه، حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره. خلال احدى سهرات الشتاء الطويلة، روى الغيهبي لأبيه وامه خلال مداعبة الكرى لعيونهما، حكاية مفادها ان اثنين من اترابه عشاق الخيول العربية الاصيلة، تمكنا بمساعدة اهلهما من شراء حصانين رائعين، وهنا انتبه الوالد من غفلته وسال ابنه ما اذا كان يود ان يكون ثالث الاثنين المشار اليهما.. فهز الغيهبي راسه ان نعم. فما كان من العالم حول ابناء الاسرة الصغيرة، الا ان اهتز قليلا فمن اين يأتون بثمن الحصان، لا سيما ان الاحصنة خاصة عربية الاصل لها سوق.. وباهظة الثمن؟ غير ان العالم ما لبث ان عاد الى هدأته السابقة، كان ذلك عندما رسم الاب خطة مالية محكمة لشراء الحصان الاسود لابنه الغيهبي، ووقف في مركز هذه الخطة سؤال مركزي وجهه الوالد لنفسه ولابني اسرته الصغيرة، الغيهبي وامه، مفاد هذا السؤال هو اننا سنعيش في السنوات المقبلة حالة استنفار بانتظار ان نحقق حلم ابننا وحامل اسمنا الغيهبي.. بماذا يستطيع كل مما نحن ابناء الاسرة الصغيرة ان يساهم من اجل انجاز شراء الحصان الاسود.. وعندما ادلى كل من ابناء الاسرة بما يمكنه التنازل عنه: الاب سيتوقف عن التدخين وشراء السجائر مرتفعة الثمن، الام ستدخر كل ما بإمكانها ادخاره عبر خطة تدبير منزلية صارمة، الغيهبي سيكتفي بربع مصروفه اليومي.. عندما توصل ابناء الاسرة الصغيرة الى هذا الاتفاق، انتشرت الابتسامات الحقيقية على الوجوه.. لا سيما على وجه الغيهبي.
ابتدأ الجميع بتنفيذ هذه الخطة، وكانوا يجتمعون في نهاية كل سنة متسائلين عما توفر لديهم من المال لشراء الحصان الاسود الموعود. في نهاية السنة السادسة زف الوالد لأبناء اسرته انه تمكن من ادخار مبلغ اقل بقليل من المبلغ المطلوب لشراء الحصان، فساله ابنه الغيهبي عما ينوي فعله؟ فما كان من الاب الا ان قضى الليل مفتحا عينيه.. ضاربا الاخماس العربية بأختها الاسداس..، وتوصل الاب قبل صياح الديك، الى انه سيزور من فوره حظيرة الخيول وسوف يطلب من صاحبها ان يُقسّط له ما تبقى من ثمن الحصان الاسود. ما ان وصل الاب الى حظيرة الخيول حتى شرع صاحبها بالترحيب المبالغ به. وكان ان اتفق الاثنان، على ان يدفع الوالد ما ادخره من مال ثمنا للحصان الاسود على ان يقسط المبلغ المتبقي مدة سنة.
اقتاد الوالد الحصان الاسود وسار باتجاه بيته، في محاولة رائدة لمفاجأة ابنه الغيهبي بحلم حياته. عندما اشرف الوالد المبتهج على الوصول الى بيته، فوجئ بابنه الغيهبي بانتظاره خارج البيت. احتفل الاثنان بإنجاز حلمهما المشترك الكبير، بعد لحظات امتطى الغيهبي حصانه وانطلق به في الفضاء الرحب. تاركا والده وراءه يكاد يطير من شدة فرحه بابنه الفارس العربي الهمام.
انطلق الغيهبي بحصانه تاركا لها الحبل على الغارب، لتصل الى ما تحب وتود من امكنة، وراح الحصان يسابق الريح، فيما يملأ الفرحُ قلبَ فارسه ويفيضُ من عينيه.. وفجأة ظهر له جناحان فحلق بهما طائرا الى ان هبط قريبا من حظيرة تقبع في ظلام رومانسي شحيح..، توقف هناك الحصان، ليقترب من فرس تشبهه بصورة لم تركب على عقل صاحبه الغيهبي، حتى انه تساءل، من اين جاء كل هذا الشبه بين حصاني وتلك الفرس. دخل الغيهبي وحصانه الى حظيرة الفرس المحظوظة، لينعما بأجمل اللحظات بعيدا عن العالم وما فيه، وبعيدا عن الجميع.. بمن فيهم والداه المحبان.. المتيمان عشقا.
من هنا وهناك
-
‘شهيدة التخلف ‘ - بقلم : رانية فؤاد مرجية
-
‘أبو إسلام يحترف صنعة الدهان‘ - قصة قصيرة بقلم : محمد سليم انقر من الطيبة
-
الجيّد.. السيّء.. الأسوأ.. - بقلم : زياد شليوط من شفاعمرو
-
قراءة في ديوان ‘على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت‘: الجرأة والجمال - بقلم : د. أحمد رفيق عوض
-
زجل للزَّيتون - بقلم : أسماء طنوس من المكر
-
قراءة في الديوان الرابع عشر للشاعر سامر خير بعنوان ‘لا بُدّ للصّخر أن ينهَزِم‘
-
قصيدة ‘كُنتَ الفتى الأبيَّ المُهَاب‘ - بقلم : الدكتور حاتم جوعية من المغار
-
‘وذرفت العاصفة دمعة‘ - بقلم: رانية فؤاد مرجية
-
‘ الاستيقاظ مبكراً صحة ‘ - بقلم : د. غزال ابوريا
-
قصة كفاح - بقلم : رانية فؤاد مرجية
أرسل خبرا