حرب أكتوبر 2023 وكشف المستور
وتأبى الحرب الحاليّة، حرب أكتوبر الثانية، إلا أن تكشف المستور، وأن تميط اللثام عن الوجوه والسياسات والتوجّهات والدوافع والمنطلقات، وأن تكشف الحقيقة الساطعة، حتى لو كانت مؤلمة.
المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت
وهي كذلك فعلًا في حالتنا هذه، وأن تؤكّد لمن ساوره الشك، ولو للحظة، أن لا حدود فاصلة بين الحرب والسياسة، وأن السياسات بمعناها الواسع، بل الفضفاض الذي تختلط فيه وتمتزج المصالح الفئويّة والحزبيّة والشخصيّة، هي التي تحرّك آلة الحرب، أو وفق العبارة الأمريكيّة السائدة "الذيل الذي يحرك الكلب"، وتحدّد أهدافها ومخرجاتها وحجمها وحدّتها. وهذا صحيح في هذه الحرب بالنسبة لطرفيها، دولة إسرائيل التي تعيش حدثًا معقّدًا ومركّبًا، تحاول فيه تحقيق عدّة أهداف في آنٍ واحد معًا، تبدو متناقضة، أو من الصعب تحقيقها بالتزامن، وهي إحراز النصر في الحرب ضد "حماس" في قطاع غزة، وهي حاجة يستوجب تحقيقها، أوّلًا وقبل كلّ شيء، إيضاح أهدافها والنهاية المنشودة ، وصياغة الشكل النهائيّ لها، أو ما يتم تسميته بفترة ما بعد الحرب، دون أن تفعل الحكومة الإسرائيليّة ذلك، وهويّة الجهة التي سوف تسيطر على القطاع بعد انتهاء الحرب، والعلاقة بين إسرائيل وقطاع غزة الذي سيبقى ، قائمًا وموجودًا في مكانه الجغرافيّ، وإن ضاقت رقعته، بخلاف الحديث عن رغبات دفينة ملخّصها نقل، أو ترحيل، أو تحريك، أو تهجير، وليسمّها كلّ كما يشاء، إلى سيناء ومصر، وكذلك جوانب سياسيّة إقليميّة وعالميّة أخرى، وقبلها جوانب سياسيّة إسرائيليّة داخليّة، إضافة إلى ضرورة الحفاظ على الهدوء والسكينة على الحدود الشماليّة، ومنع "حزب الله" ربما بإيعاز من إيران، من فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل. أما حركة "حماس" فذلك يندرج عليها أيضًا، فما اتضح حتى اليوم يؤكّد أن السياسة هي التي تحرّك الآلة العسكريّة، وأن اجتياز الشريط الحدوديّ واقتحام المستوطنات في غلاف غزة، كان محاولة لتحقيق أهداف سياسيّة، فالأهداف العسكريّة محالة مع فارق القوّة والعتاد والتسليح، وهو ما زاد وضوحًا بعد أن اتضحت معالم تصرّفات المسلّحين الذين دخلوا المستوطنات، من اختطاف للأطفال، أو النساء والمسنّين المدنيّين، وقتل بعضهم وغير ذلك من أنباء عن حوادث تنكيل كان ضحية إحداها مواطن عربيّ من منطقة النقب انتشرت وقائع التنكيل به بشكل وحشيّ من قبل مسلحي "حماس" رغم تكراره التأكيد على أنه عربيّ ومسلم، قبل إطلاق النار عليه من مسافة صفر، فإنها التعبير عن أن السياسة، وهذه المرّة سياسة الانتقام التي حرّكت أفعال المسلّحين، وحالت دون رسم حدود لهم، وبالتالي كان ما كان.
وهكذا تجد إسرائيل نفسها اليوم مرة أخرى، أمام إثبات ودليل ساطع على أنها لم تتعلّم العبر، وأن ما كان هو ما سيكون، أي أن السياسة هي التي تحرّك العسكر وتحدّد قرارات ومواقف القادة، وهو ما كان في حرب لبنان الأولى عام 1982، أو بمسمّاها الإسرائيلي" حرب سلامة الجليل" التي دخلتها إسرائيل متذرّعة بتحقيق أهداف عسكريّة أهمّها إبعاد المسلّحين من المنظّمات الفلسطينيّة مسافة 40 كيلومترًا عن الحدود الإسرائيليّة، كما قال وزير الدفاع في حينه أريئيل شارون، بعد أن فشلت العملية العسكريّة "حملة الليطاني" عام 1978، في تحقيق هذا الهدف عبر إبعاد هؤلاء المسلّحين إلى ما خلف نهر الليطاني في الجنوب اللبنانيّ، ولكن سرعان ما سيطرت السياسة على حجم وطبيعة وحدود العمليّات العسكريّة في حرب لبنان الأولى، ليصل القتال إلى بيروت تحقيقًا لأهداف ودوافع سياسيّة وضعها أريئيل شارون منها محاصرة المنظّمات الفلسطينيّة، وربما اغتيال قادتها وفي مقدّمتهم ياسر عرفات، ومساعدة حلفاء إسرائيل من القوّات المسيحيّة برئاسة وقيادة بشير الجميل الذي تم اغتياله عام 1982 بقنبلة انفجرت في مقرّ حزب الكتائب في حيّ الأشرفيّة، وتمكينهم من تحقيق النصر في الحرب الأهلية التي دارت رحاها في لبنان، والتي سبقتها وتخلّلتها اتصالات ولقاءات بين قادة حزب الكتائب ومسؤولين إسرائيليّين تمهيدًا لعلاقات بين إسرائيل ولبنان، لتتواصل سيطرة السياسة على الحرب، حتى بعد أن اتضح أن الأهداف السياسيّة سابقة الذكر للحرب غير قابلة للتحقيق، بفعل التدخل الأوروبيّ عامّة والأمريكيّ خاصّة، الذي انتهى إلى اتفاق نصّ على إخلاء مسلّحي حركة "فتح" من بيروت بحرًا الى تونس، والبقية معروفة، وهو ما كان في حرب لبنان الثانية التي انطلقت شرارتها باختطاف الجنديّين إيهود غولدفاسر وإلداد ريغف، وقرار حكومة إسرائيل القيام بعمليّة عسكريّة لتخليصهما سرعان ما تحوّلت إلى عمليّة عسكريّة استمرت أكثر من شهر، حاولت الحكومة فيها برئاسة إيهود أولمرت وعمير بيرتس في وزارة الأمن، تحقيق أهداف سياسيّة عامّة وخاصّة، منها إضعاف نفوذ حزب الله، ومنع تموضع إيران قرب الحدود الإسرائيليّة، وربما محاولة ترتيب الأوراق في لبنان مجدّدًا، ناهيك عن تحقيق أهداف سياسيّة ربّما ضيّقة أرادها رئيس الوزراء إيهود أولمرت الذي كان في خضم سلسلة من التحقيقات الجنائيّة معه حول قضيّة الرشوة.
وهو ما دفع رئيس المعارضة في حينه بنيامين نتنياهو ، وهنا يعيد التاريخ نفسه بترتيب معكوس، بالمطالبة باستقالة رئيس الوزراء الذي لا يمكنه أن يؤدّي مهامّه على أحسن وجه، بينما يخضع لملفّات جنائيّة، وأنه من الممكن أن تسيطر السياسة على قراراته العسكريّة بسبب ذلك، وأهداف سياسيّة لحزب كاديما بعد أن تيقّنوا أن انتخابات برلمانية للكنيست الثامنة عشرة ، هي في عداد المؤكّد حيث جرت ستّة أشهر بعد انتهاء الحرب التي أوقعت عشرات الضحايا بين المدنيين في إسرائيل، وهو ما تكرّر في الحملات العسكريّة المتعاقبة ضدّ قطاع غزة، ومنها الحملة عام 2014، التي قال عنها وزير الأمن الحالي يوآف غالانت، إنه كان على عتبة إخضاع حركة "حماس" لكنّ المستوى السياسيّ منعه من ذلك، مشيرًا إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي تمسّك بتوجهات سياسيّة ملخّصها محاولة "حماس" كجسم موازٍ للسلطة الفلسطينيّة عبر السماح لدولة قطر بدعمها بمبلغ 30 مليون دولار شهريًّا، وهو التوجّه الذي حدّد موقف نتنياهو من عمليّة إطلاق سراح 1027 سجينًا أمنيًّا فلسطينيًّا عام 2011 مقابل الجندي المختطف جلعاد شاليط ، منهم يحيى السنوار رئيس الجناح العسكريّ لحركة "حماس" ، وكذلك في الحملات العسكريّة المتوالية والتي انتهت بهدنة، أو بوقف لإطلاق النار أو تهدئة، تضمن تحقيق أهداف سياسيّة للطرفين، بمعنى رسم صورة نهائيّة للحرب يمكن تفسيرها من قبل حكومة إسرائيل و"حماس" على أنها نصر وانتصار، ترجمته حكومات إسرائيل إلى أجندة قوامها أن "حماس" خائفة ومرتبكة، وبالتالي لن تقدم على ما يغير قواعد اللعبة هنا، وهو الأمر أيضًا بالنسبة للسياسة ونهاية الحرب، فإسرائيل ولأسباب سياسيّة تجد نفسها تتخبّط في صياغة الصورة النهائيّة للحرب، فها هي تتراوح في صياغاتها لهذه النهاية بين تناقضات تشكّل ربما الاعتراف بأن الموجود حتى في الحرب الحاليّة يختلف عن المنشود، وأن ليس كلّ ما يتمنّى المرء يدركه، فالحديث يدور حول إبادة "حماس" وبين القضاء على قوّته العسكريّة والسلطويّة، وبين خلق حزام أمني على شاكلة ما كان في جنوب لبنان حتى الانسحاب الإسرائيلّي في أيار من العام 2000 إبان رئاسة إيهود براك للحكومة، وبوجود جيش لبنان الجنوبيّ بقيادة أنطوان لحد، وبين إعادة احتلال غزّة بكاملها وربما العودة للاستيطان في منطقة "غوش قطيف" ، وبين سيطرة أمنيّة تشبه تلك في المناطق المصنّفة "ب" في الضفة الغربيّة، وبين سيطرة أمميّة أو عربيّة، أو ربما بسط سيطرة السلطة الفلسطينيّة على غزة، ما يعيد إلى الواقع حلّ الدولتين الذي حاولت إسرائيل وأده عبر توسيع الاستيطان ومحاولات الضمّ.
والسياسة التي تحكم العمل العسكريّ، وعدم استخلاص إسرائيل العبر حولها، يصل حدّ السياسة الإقليميّة وحتى الدوليّة، فحكومات إسرائيل لم تتعلّم أن التأييد السياسيّ الدوليّ لحقّها في الدفاع عن النفس، هو شيك أو حوالة محدودة الضمان والتوقيت، وأنها حتى وإن كانت أمريكيّة سبقتها وغذّتها تصريحات حول دعم تامّ، وتحريك لحاملات طائرات وسفن حربيّة وغوّاصات نوويّة، وزيارات مكوكيّة، وأن تأثيراته ومفعوله مؤقّت، وأنه منوط بتغيّر مواقف الشعوب والجماهير، أو بكلمات أخرى، تآكل أو تراجع الدعم العالميّ لإسرائيل، وهو الذي بدأت ملامحه تظهر، بفعل مظاهرات تأييد لغزة الشعب، وليس لحماس ومطالبة بوقف إطلاق النار ووقف المسّ بالمدنيّين على اختلاف أعمارهم وأماكن تواجدهم، ومنع عمليّة نقل المواطنين من شمال القطاع إلى جنوبه، خاصّة في أوروبا التي أعلنت دولها التأييد التامّ لإسرائيل فور السابع من أكتوبر، وعبر زيارات بعض المسؤولين الكبار إليها، ومنهم رئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك، ومستشار ألمانيا ووزراء آخرين، لكنّها تشهد اليوم مطالب بوقف إطلاق النار وتزويد غزة بالموادّ الطبيّة والتموينيّة والوقود وغيرها، وعدم قصف المناطق المأهولة.
وهو الأمر كذلك في أمريكا التي أعلن رئيسها جو بايدن دعمه المطلق لإسرائيل، وهو ما منح العمليّات العسكريّة الزخم الكبير من جهة، وجعل المستوى السياسيّ في إسرائيل، وخاصّة نتنياهو يشعر بأنه تمّ إطلاق يده، وأنه يملك حريّة العمل والتصرّف، ليتغيّر الأمر إلى ضغط أمريكيّ يتزايد كلّ يوم على إسرائيل لتخفيف الضربات الجويّة والقبول بهدنة إنسانيّة وغير ذلك. وهو تغيّر يعزوه البعض إلى ما انكشف عليه الرأي العام الأمريكيّ من حجم الدمار اللاحق بقطاع غزة، والمظاهرات التي يشارك فيها عشرات الآلاف في واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس وغيرها، وإعلان مجموعات كبيرة من الديمقراطيّين من أصول عربيّة وإسلاميّة نيّتهم عدم المشاركة في الانتخابات الرئاسيّة عام 2024، وهي ضربة كبيرة لجو بايدن، إضافة إلى نتائج استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن نحو نصف الشباب في الولايات المتحدة يعتبرون تأييد بايدن لإسرائيل بشكل مطلق نوعًا من الخطأ، والمقابلة المتلفزة التي أجريت مع الرئيس باراك أوباما، قبل أربعة أيام، والتي تحدّث بها عن الأزمة الإنسانيّة في غزة، وغير ذلك، وهذا إضافة إلى أن الدوافع السياسيّة، والتي تستوجب تشديد الحرب على غزة، تتناسى، وعلى مذبح السياسة الإسرائيليّة المحليّة، التأثيرات السياسيّة العالميّة. وبكلمات أخرى، تأثيراتها على اليهود في العالم، وهو ما أكّدته الحقائق والوقائع التي تشير إلى ازدياد كبير في مظاهر العداء لليهود في العالم، إذ أكّد تقرير نشرته صحيفة" جيروزاليم بوست" أن مظاهر العداء لليهود في العالم تضاعفت نحو عشر مرّات، بل أكثر خلال الشهر الماضي منذ بداية الحرب، وفي نفس السياق يجب الإشارة إلى موقف بعض الدول العربيّة، وخاصّة المملكة الأردنيّة الهاشميّة التي أعادت سفيرها في إسرائيل إلى عمان، وكذلك مملكة البحرين، والبرود الذي تبديه الإمارات العربيّة المتحدة، وإعلان السعوديّة وقف الاتصالات الهادفة للتطبيع مع إسرائيل، هذا إضافة إلى أن هناك من يلمح، أو يعلنها صراحة استمرار الحرب لأسباب سياسيّة داخليّة يريد منها نتنياهو استعادة تأييد الجماهير له، وإعادة التمركز في الوعي الجماهيريّ على أنه القائد العسكريّ الكبير خاصّة على ضوء المطالبة باستقالته اليوم، أو فور انتهاء الحرب، رغم ما يحمله ذلك من تأثير سلبيّ على الاقتصاد الإسرائيليّ، والدليل هو انخفاض قيمة العملة الإسرائيليّة، الشيقل، مقابل الدولار ومئات الآلاف من العاطلين عن العمل، ونحو مئتي ألف مواطن اضطروا لإخلاء منازلهم، وشركات أوقفت عملها وفرع الزراعة الذي يكاد ينهار، وهو ما اضطرّ كبار رجال الاقتصاد لمطالبة نتنياهو ووزير ماليّته بتسلئيل سموتريتش ، بوقف تحرير الأموال الائتلافيّة، وهي تلك التي يتمّ تحويلها للأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكوميّ اليمينيّ الحاليّ، وتحويلها لدعم المتضرّرين من الحرب. وفوق كلّ ذلك امتناع نتنياهو ولأسباب سياسيّة وحزبيّة داخليّة وضيّقة جدًا عن إعلان مسؤوليّته عن الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر، والتي تجعل الحرب وأهدافها أمرًا تثور الأسئلة حوله، بل يثير الشكوك، خاصة على ضوء فشلها في مواجهة نتائج الحرب الاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة، وتوفير المأوى للمدنيّين الذين أخلوا منازلهم.
"أسباب سياسية"
حركة "حماس" دخلت الحرب الحاليّة منذ السابع من أكتوبر لأسباب سياسيّة في معظمها ، خاصّة على ضوء ازدياد الأزمة الاقتصاديّة التي يعانيها القطاع والضغوط السياسيّة الدوليّة عليها، وازدياد الحديث عن احتمال توسيع رقعة التطبيع العربيّ عامّة والخليجّي خاصّة مع إسرائيل، وهو ما كان سيؤدّي إلى اسدال الستار على أيّ إمكانيّة لحلّ النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، خاصّة وأنه تزامن مع اقتراب الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة عام 2024، ومع تحسّن واضح في العلاقات التركيّة الإسرائيليّة، واستمرار التوتر في العلاقات بين إيران وأمريكا، وعدم توقيع اتفاق نوويّ جديد، إضافة إلى الرغبة في الحفاظ على غزة كمعقل لحركة دينيّة تنتمي إلى حركة " الإخوان المسلمين" ، والتي فقدت تأثيرها وتأييدها في العالم العربيّ بدءًا من مصر مرورًا بتونس وليبيا والعراق وغيرها، وبالتالي من الواضح أنها دخلت الحرب لدوافع سياسيّة محليّة، أو ربما خدمة لأهداف وأجندات سياسيّة إقليميّة تحرّكها إيران، وربما عالميّة تدعمها موسكو التي استقبلت وفد "حماس" قبل نحو أسبوعين، وتناست العبر التي كان عليها استخلاصها من أحداث مشابهة بدءًا بحملة "السور الواقي" التي طالت الضفّة الغربية ردًّا على مقتل نحو 40 إسرائيليًّا جرّاء عملية تفجير في فندق "بارك" في مدينة نتانيا، والتي استمرت عدّة أشهر تخلّلتها محاصرة مقرّ الرئاسة الفلسطينيّة في رام الله بشكل أمكن للقيادة الفلسطينيّة رؤية المدرّعات الإسرائيليّة من شباك المقاطعة، وتوقّفت عند ذلك الحدّ لأسباب سياسيّة في مقدّمتها الضغط الدوليّ والعربيّ وهو ما لا نجده اليوم، كما تناست أن غزة باقتصادها ومائها وغذائها بيد إسرائيل، وهو واقع لم تغيره "حماس" رغم 17 عامًا من السيطرة التامّة على القطاع، وذلك أيضًا بدوافع سياسيّة ملخّصها مواصلة العلاقة الجدليّة مع السلطة الفلسطينيّة ككيان سياسيّ فلسطينيّ بديل ومنافس ربما، ومع الدول العربيّة وتركيا ككيان يحتاج ويطلب الدعم الماليّ والبنى التحتيّة، كما تناسوا أن العالم تغيّر، وأن فظائع "داعش" في العراق وسوريا، وازدياد التطرّف الدينيّ بين الجاليّات المسلمة في أوروبا، وما يرافقه ورافقه من اعتداءات في بلجيكا وفرنسا وغيرهما، يشكّل عاملًا سيحدّد مواقف الدول الأوروبيّة وأمريكا، من الحركات الإسلاميّة خاصّة في العالم العربيّ، وكذلك في الدول ذاتها، وأن هذه الدول ومعها الدول العربيّة، والتي تضاءل دورها السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ في العالم، رغم نفطها، وذلك بفعل الربيع العربيّ الذي أحرق الأخضر واليابس، وتأثيرات اعتلاء حركة الإخوان المسلمين على مصر ومواقف دول الخليج منها، والدور الذي لعبته إيران في سوريا واليمن ، وسيجعل العالم أقلّ قبولًا وتفهّمًا لأيّ عمل عسكريّ يشمل المسّ بالمدنيّين تنفّذه "حماس" ومثيلاتها من الحركات الإٍسلاميّة الأصوليّة. ومن هنا لم تلق الاهتمام الكافي واللازم لمنع المسّ بالمدنيّين، والاكتفاء بتحقيق إنجاز عسكريّ قوامه احتلال معسكرات والسيطرة على مستوطنات ولو لأياّم قليلة، دون فظائع تقيم على غزة غضب العالم كلّه دون استثناء، وتجعل العالم يطلق أيدي إسرائيل ، التي نشرت في العالم الصور وأشرطة الفيديو التي حصلت على بعضها من مسلّحي حركة "حماس" لتبرير أعمالها وضمان الدعم الدوليّ اللا - محدود لها، والصمت العربيّ وهو صمت من يعرف أنه كان سيردّ بنفس الطريقة والقسوة، لو ارتكبت حركة ما الفظائع ذاتها ضد المدنيّين فيها، كما نسي قادة "حماس" ولمنطلقاتهم السياسيّة الضيّقة، وكثيرون منهم خارج قطاع غزة، أن المدنيّين الفلسطينيّين سيدفعون الثمن مرة أخرى، ليست الأولى وربما لن تكون الأخيرة، والدليل هذه المرّة أوضح وأقسى تؤكّده أعداد القتلى والضحايا بين المدنيين في القطاع، والتي تفوق الآلاف من القتلى، والدمار الذي لحق بالمنازل والمستشفيات والمؤسّسات المدنية الأخرى، بينما قادة "حماس" داخل أنفاقهم، وبالتالي فإن الاعتبارات السياسيّة التي دفعت إلى هذا الاجتياح، ومنها محاولة تسجيل إنجاز بتحرير الأسرى الفلسطينيّين من السجون الإسرائيليّة، ومبادلتهم برهائن من العسكريّين، لم تمنع الأعمال المتطرّفة التي غذّتها سياسة الانتقام، والتي انقلبت إلى وبال على القطاع، سينتهي إلى إعادة سكانه كافة عشرات السنوات إلى الوراء، وسيجعلهم أشدّ فقرًا وأكثر حاجة إلى دعم وتبرّعات العالم ووكالة الغوث بمعنى تكريس لجوئهم وعجزهم وضعفهم، مع إلغاء الخيار العسكري من غزة إلى الأبد، أو على الأقل لقرون عدّة.
"خيارات محدودة"
وانطلاقًا ممّا سبق، فإن خيارات الطرفين محدودة للغاية، فإسرائيل أمامها واحد من خيارين، فإما انتصار تامّ ، أي القضاء نهائيًّا على حركة "حماس" ، كما تقول إسرائيل متناسية ومتجاهلة، أنه لا يمكن القضاء على فكر وتوجّه دينيّ أصولي بمعنى اجتثاثه من العقول والقلوب، وهو انتصار يجعل غزة منزوعة السلاح بشكل تامّ، ويضمن تحرير جميع الرهائن من العسكرييّن والمدنيّين، كما يشكّل رادعًا للفلسطينيّين في الضفة الغربيّة من مغبّة التفكير بانتفاضة ثالثة، والقبول بحلول تفرضها إسرائيل بفعل ما انتهت عليه الحرب في غزة وربما تتعلق بالقدس والضمّ والمسجد الأقصى وغيره، ناهيك عن النتائج الداخليّة للنتيجة التي تضمن القضاء على "حماس" والتي سيستغلّها اليمين عامّة ونتنياهو عامّة للبقاء في السلطة، وتثبيت موقعه وسيطرته على مقاليد الحكم في أي انتخابات مقبلة ولسنوات طويلة، أما الخيار الثاني فهو وقف إطلاق النار بضغط دوليّ، وما يعنيه ذلك من بقاء "حماس"، ولو على نار هادئة ،أو بطبعة مخفّفة شاحبة، وربما بقاء أو إبقاء بعض السلاح في غزة، والتفاوض على الأسرى والرهائن، وهو نتيجة سيعتبرها الإسرائيليّون هزيمة ستزيد من معاناة نتنياهو السياسيّة، وبالتالي نعود إلى البداية، وإلى ما قلته من أن السياسة هي التي تدير الحرب الحاليّة من جانب إسرائيل، أما خيارات "حماس" فأضيق وأصعب، فإمّا الهزيمة بكلّ ما يعنيه ذلك من إسقاطات على الشعب الفلسطينيّ بكامله وتحديدًا وأد أي إمكانيّة لحلّ سياسيّ للنزاع الإسرائيليّ الفلسطينّي يشمل كيانًا فلسطينيًّا أيًّا كان شكله، أو اسمه أو مضمونه، أو "النصر" أي بقاء الحركة بشقيها السياسيّ المدنيّ والعسكريّ، وهو ما يعني ولو بعد حين تحويلها إلى القوة الأولى في المجتمع الفلسطينيّ، وهو ما يؤكّده تواجدها المدنيّ والعسكريّ في مناطق الضفة الغربيّة خاصّة قلقيليّة ومخيم جنين، وصاحبة القول الفصل، أو على الأقل الكلمة المسموعة بكلّ ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، وما سيرافق ذلك من إعلاء لشأن إيران ومكانتها في المنطقة وضد التواجد والتأثير الأمريكيّ وتعزيز مكانة روسيا أيضًا، وتركيا والصين، وإبطاء عجلة التطبيع بين إسرائيل والسعوديّة، والذي سيواجه الحروب المتتالية .
الخلاصة، إن سيطرة الاعتبارات السياسيّة على العمل العسكريّ، أو ما سبق ووصفته بأنه تسييس العسكر، هو خطر كبير، لأنه يعني تجيير العمل العسكريّ، لخدمة أهداف سياسيّة واسعة، أو ضيّقة وبالتالي المسّ بالحدّ الفاصل بين الاعتبارات المهنيّة العسكريّة، وتحديد الأهداف بدقّة، وبين جعل الجيش مطيّة لسياسيّين يهمّهم مصلحتهم، وربما إنقاذ حياتهم السياسية، بمعنى أنهم يجعلون الحرب سياسة ساخنة، وهذا لا يقلّ خطورة عن عسكرة السياسة، أي سيطرة الاعتبارات العسكريّة على السياسة، أو سيطرة جنرالات الجيش المتقاعدين على مقاليد السلطة السياسيّة باعتبارهم، في أعين الناس، الأقدر والأجدر دون أيّ إثبات لذلك، ورغم أن هذا يجعل من السياسة حربًا باردة ، وكلاهما حالتان قد تؤدّيان إلى إسراع في الضغط على زناد الحرب ما يوقع الخسائر ويدفع ثمنه البسطاء، أو إطالة أمد الحرب حتى يحقّق العسكر أهداف السياسيّين، ويبقى السؤال هل ستكون نتائج هذه الحرب مغايرة، أي هل ستضمن مهما كانت نتائجها الهدوء والسلام والطمأنينة، أم أن حال هذه المنطقة سيبقى كما هو اليوم، ليس البحث عن سلام دائم، بل هدنة بين حرب وأخرى؟؟
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]
من هنا وهناك
-
هدنة الشمال : هل ستكون لغزة ‘ نافذة النجاة ‘ ؟ بقلم : علاء كنعان
-
التّراث الفكريّ في رواية ‘حيوات سحيقة‘ للرّوائي الأردنيّ يحيى القيّسي - بقلم : صباح بشير
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب في بانيت : حتى نلتقي - ممالك وجمهوريات
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
أرسل خبرا