اتّفاقيّة أوسلو: تراجيديا سياسيّة أم ولادة غير طبيعيّة؟
15-09-2023 10:14:31
اخر تحديث: 15-09-2023 13:22:00
هي ثلاثين عامًا ويومين بالتمام والكمال منذ ذلك الاحتفال الذي شهدته ساحة العشب الأخضر في البيت الأبيض في واشنطن، في الثالث عشر من أيلول 1993، اجتمع خلاله على منصّة تاريخيّة واحدة
المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت وقناة هلا
أولئك الذين أقسم الجميع أغلظ الأيمان أن لا مكان، ولا وسيلة ولا خيار لجمعهم على منصّة واحدة، وكم بالحريّ أنها منصّة سلام.. ياسر عرفات رئيس منظمّة التحرير الفلسطينيّة، والذي كانت إسرائيل قبل عقد من ذلك اليوم، قد دفعت إلى إخراجه من لبنان بعد حرب لبنان الأولى عام 1982، متوجّهًا إلى تونس حيث أقامت منظّمة التحرير الفلسطينيّة مكاتبها ومقرّاتها وسفارتها، ومن هناك أدارت الانتفاضة الأولى عام 1987، كما قال البعض عبر بيانات الانتفاضة الأولى، أو ركبت موجتها كما قال آخرون، وهي الانتفاضة التي كان إسحق رابين قد اشتهر بقوله عنها إنه يجب تحطيم أيدي وأرجل المشاركين فيها، والمناظر ما زالت ماثلة أمام الجميع، والتي تلاها موقف فلسطينيّ مؤيّد لاجتياح العراق للكويت وحرب الخليج الأولى خلافًا لمواقف عشرات دول العالم والدول العربيّة، لكنّه لقاء جعل البعض يؤكّدون بل يقسمون بنظرة غير متفحّصة مردّها فرحة اللحظة، أو الشعور بأن أجنحة التاريخ تعزف لحنًا جديدًا، وإن كان فيه بعض النشاز ، سيقود المنطقة والعالم إلى جنّات سلام ينتهي معها النزاع وتتحقّق مقولة عرفات:" لا حرب ولا سفك دماء بعد اليوم"، وتتحقّق فيها كلمات رئيس الوزراء الإسرائيليّ إسحق رابين الذي ردّد في خطابه هناك جملة:" نحن الجنود الذين جئنا من ساحات المعارك وثيابنا تقطر دمًا، نحن الذين جئنا من بلاد يدفن الآباء فيها أبناءهم، نحن الذين حاربناكم أنتم الفلسطينيّين، جئنا لنقول لكم اليوم بصوت واضح وجليّ: كفى للدموع والدماء، كفى. جئنا محاولين وضع نهاية للكراهية، كي لا يدفع أبناؤنا وأحفادنا أكثر ثمن الحروب والإرهاب والعنف"، نحو عهد جديد من السلام، وأقسموا حينها أن السياسة ، بتوقيع اتّفاق السلام بين إسرائيل والفلسطينيّين الذي تمّ الاتفاق على تسميّته" اتّفاق أوسلو" لم تعد فنّ الممكن بل وصلت مرحلة " فنّ المستحيل وغير الممكن"، وهي كانت السمة السائدة عندها، فالفلسطينيّون الذين رفضوا قبل عقد من ذلك وأكثر بقليل اتّفاق كامب ديفيد والحكم الذاتيّ ضمن اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر، واعتبروه خيانة عظمى ليؤيّدهم في ذلك "العالم العربيّ" الذي قاطع مصر ونبذها، ها هم يقبلون ، بخيار غزة وأريحا أولًا وهو خيار أقلّ بكثير من الحكم الذاتيّ، وها هي إسرائيل التي تراوحت مواقفها من منظّمة التحرير الفلسطينيّة وقياداتها بين اعتبارهم منظّمة إرهابيّة لا مجال للحديث معها إلا عبر فوهة البنادق وتصفيتهم الجسديّة، كما حدث أكثر من مرّة، وبين مجموعة تنتفي عنها صفة الإنسانيّة، كما قالت غولدا مئير " الرجل ذات الشعر على الوجه"، توافق على التفاوض والتوصّل إلى اتّفاق سلام أو بداية له، لكنّ المتتبّع لخبايا الأمور وتفاصيلها الصغيرة التي يقال عنها أن الشيطان يختفي بداخلها، لم يكن باستطاعته، حتى لو رفض الاعتراف بأهميّة ما شاهد على منصّة التوقيع، ولو للحظة واحدة قصيرة، أن يتجاهل لحظة هامّة أكّدت أن ما كان لم ينته، وأن ما هو قادم لا يعني أن ما فات مات، وأن الجميع مقتنع دون شكّ أن ربيعًا قد أتى، خاصّة تلك اللحظة التي حاول فيها إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيليّ، الامتناع قدر الإمكان عن مصافحة ياسر عرفات والحديث إليه وجهًا لوجه، بخلاف شمعون بيرس وزير الخارجيّة الإسرائيليّ الذي كان متحمّسًا للاتّفاق والتوقيع، وهي لحظة اتّفق الجميع حينها ومن باب الخطأ، على عدم أهميّتها وأعطوها من التفسيرات ما جعلهم يفوتون معناها الحقيقيّ، وهو أنها كانت تعبيرًا ولو في تلك اللحظة فقط، عن أن إسرائيل وقّعت اتّفاقًا لا يريده رئيس وزرائها ووزير أمنها رابين الذي نقلوا عنه خلال الحفل قوله لشمعون بيرس أن عرفات غرّر به وجعله يصافحه حيلة وتغريًرا، ولا يريده وقادة الجيش الذين كما اتّضح اليوم، وبعد كشف الوثائق السريّة من أرشيف الدولة، حيث اتّضح أن رابين وخلال جلسة شهدتها الحكومة أسبوعين بالتمام والكمال قبل التوقيع، أعلن تحفظاته من الاتّفاق مؤكّدًا، أن إسرائيل تقدّم بموجب الاتّفاق أكثر ممّا تحصل عليه من الفلسطينييّن، وأن الاتفاقيّة ليست بسيطة، بل إنها غير وديّة لإسرائيل، مقابل موقف وزير الخارجيّة الإسرائيليّ آنذاك شمعون بيرس القاضي أنه لا يوجد طرف فلسطينيّ يمكن لإسرائيل التعامل معه رسميًّا باستثناء منظّمة التحرير الفلسطينيّة، مشدّدًا على ضرورة دعم الرئيس الفلسطينيّ الراحل، ياسر عرفات، عبر تشكيل السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، وهو ما ردّ عليه رئيس أركان الجيش الإسرائيليّ في ذلك الحين إهود باراك، قائلًا إن الاتّفاق يضع أمام إسرائيل، مشاكل وتحدّيات أمنيّة كبيرة للغاية.
وإذا كانت هكذا البداية، فالنهاية تتّفق والقول الشائع" الرسالة تقرأُ من عنوانها"، بل إنه كان من الواضح إنها رسالة قصيرة المدى، بل رسالة فضفاضة اعتقدت أنه من الذكاء بمكان أن يتم الحديث في العموميّات وأن يرفع الطرفان راية السلام دون تعريفها كاملةً، فرابين وكما يمكن الجزم حينها وأكثر اليوم لم يكن وفق تصريحاته، قد حسم أمره من نتيجة المحطة النهائيّة لتلك المفاوضات، وفيما إذا كانت ستؤدّي لإنهاء الاحتلال وكيف ستؤدّي إلى إنهاء الاحتلال والسماح بإقامة دولة فلسطينيّة، ولم يحدّد حتى في قرارة نفسه طبيعة وهويّة هذه الدولة وحدودها وصلاحيّاتها، وذلك رغم مقولته الشهيرة: "نواصل المفاوضات، وكأنه لا يوجد ما يسميه إرهابًا، ونواصل مواجهة هذا الإرهاب، وكأنه لا توجد عمليّة سياسيّة". وهو تعبير عن تخطيط لفترة قصيرة للغاية وافقه عليه الطرف الفلسطينيّ الذي اعتقد أن من الحكمة بمكان إبقاء النقاط الساخنة ومنها الحلّ النهائيّ والقدس وقضيّة اللاجئين والعودة دون تحديد موعد زمنيّ ملزم لها يمكن لراعيي عمليّة السلام فرضه على إسرائيل، وبالأحرى اكتفى الفلسطينيّون بالاتّفاق والرعاية الأوليّة دون تكريسها، ووضع هيكليّة عمل واضحة لها، وآليّة تنفيذ فاعلة وناجعة، ما جعل الاتّفاق فضفاضًا مطّاطًا، وما خلق حالة ، أخطأ الطرفان تقديرها، فهي لم تؤول إلى جهد مخلص ومشترك من الطرفين لتسريع وتسهيل التوصّل إلى الحلّ النهائيّ، أو خطواته وتمهيد الطريق إليه، بل إن الانتظار وبعكس القول الدارج :"في التأني السلامة" كان وسيلة استخدمها الطرفان الإسرائيليّ والفلسطينيّ وتحديدًا من عارض الاتفاق من الطرفين، أيّ اليمين الإسرائيليّ الاستيطانيّ وحركة "حماس" سيفًا مسلطًا على الاتّفاق وديمومته، فالعمليّات الانتحاريّة التي نفّذتها حركة "حماس" محاولةً من خلالها إثبات قدرتها على تحصيل الأحسن، كانت واضحة النتائج، بل مؤكّدة النتائج، وملخّصها أن كلّ عمليّة منها تزيد من استحالة أوسلو وتدفع احتمالات التسوية إلى الوراء دون أيّ أفق واضح، وتؤكّد المقولة أن لا طرف فلسطينيًّا للحديث معه، وهو ما يشكّل تكرارًا مأساويًّا لمراحل من التاريخ الفلسطينيّ تغلب فيها الخلاف الداخليّ الضيّق على الرؤية الواضحة، أمّا إسرائيليًّا فقد استغلّ اليمين عدم وجود جدول زمنيّ لتسريع الاستيطان والضغط على الحكومة وإصدار فتاوى الحرمان والتخوين والتهديد، وصولًا إلى اغتيال رابين عام 1995، وبعدها حزب العمل بقيادة بيرس خسر الانتخابات لصالح الليكود وبنيامين نتنياهو، وهو ما أعاد إلى القيادة السياسيّة في إسرائيل أتباع الليكود ومناحيم بيغن صاحب اتفاق كامب ديفيد، والخطة الأصليّة التي تكتفي بحكم ذاتيّ فلسطيني للأبد، ترافقه إدامة السيطرة الإسرائيليّة على الضفة الغربيّة ومنع أيّ إمكانيّة حتى لو كانت ضئيلة أو نظريّة على الأقلّ لكيان فلسطينيّ، سواء كان دولة أو حكم ذاتيّ أو غيره، وهو ما تؤكّده الوقائع على الأرض، والتي تتسارع نحو جعل الحلّ يتراوح بين دولة ثنائيّة القوميّة، أو دولة واحدة سمّتها الأبارتهايد.
"حالة منفصلة"
من باب الخطأ وربما عدم النزاهة الأدبيّة والتاريخيّة والأكاديميّة حتى محاولة النظر إلى اتفاقيّات أوسلو على أنها "حالة منفصلة"، أو اتفاق انتهى إلى ما انتهى إليه مرحليًّا أو نهائيًّا، فالحديث يدور عن نزاع ، وإن لم يكن قد انتهى، ويبدو أنه ما زال بعيدًا عن ذلك، إلا أنه شهد تعرجات كثيرة وغريبة كان أحد أسبابه أنه يدمج وما زال يدمج بين التاريخ، أي أسباب النزاع، والرواية أيّ الاختلاف حول المجريات والملابسات وخاصّة في رواية النكبة وقيام دولة إسرائيل، وعن العوامل التي ساقت إلى تصعيده ومنها نتائج حرب الأيّام الستة، واحتلال شرقي القدس والضفّة الغربيّة والجولان وسيناء، ومن ثمّ الانتفاضات والمستوطنات ومصادرة الأراضي الفلسطينيّة، وصولاً إلى المفاوضات ، وكذلك فإنه حالة خاصّة هي الماضي والحاضر والمستقبل، ومن هنا ربما الرغبة في بحث العوامل ، رغم الكشف عن بعض البروتوكولات فقط من الجانب الإسرائيليّ، دون غيرها، التي تقف وراء ما حدث، ليتّضح أن " خصوصية أوسلو" التي شرحناها سابقًا وسنعود إليها بالتفصيل ، لم تسعفه ولم تعفه من مصير ما سبقه من اتفاقيّات تاريخيّة ما زال النقاش حولها قائمًا حتى اليوم ابتداءً باتفاق سايكس بيكو واستسلام الإمبراطورية العثمانيّة، وانتهاءً باتفاقيّات انتهاء الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وهي اتّفاقيات ما زال المؤرّخون والسياسيّون وخبراء العلاقات الدوليّة يناقشونها ، لتظهر في كلّ حالة ممّا سبق وكما هو معتاد، وفق القول المعروف "أن للنجاح مئة أبٍ وأب أمّا الفشل فهو يتيم" ، كثير من الأصوات التي تُنسب هذا النجاح لها، وتصرّ على أنها هي التي مهَّدت لإنجاز هذا النجاح، أمّا في حالة الفشل التامّ أو الجزئيّ، فإننا لا نكاد نجد من يعترف بالمسؤوليّة، ولا نجد للفشل أبًا أو مسبّبًا يعلن بأنه هو الذي يقف وراء هذا الفشل، ورغم ما سبق فإنّ أوسلو، وهذا واحد من سماته التراجيديّة التي تؤكّد أنه تمّ وأده عمليًّا ومن قبل كافّة الأطراف ذات العلاقة، وهي ليست الفلسطينيّين وإسرائيل فقط، بل الفلسطينيّين على تقسيماتهم الداخليّة بين حركتي "فتح " و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" ( الانشقاق والمصالحة المتعثرة وسيطرة "حماس" على قطاع غزة واقامة كيان فلسطيني مستقل هناك ينعم باستقلاليّة ربما أكثر من مناطق السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، ويحظى بدعم ماليّ واقتصاديّ وسياسيّ دوليّ دائم وقبول إسرائيليّ) ، وإسرائيل ( بيمينها الذي استغلّ ضبابيّة الاتفاق وأطال عمره بشكل مفتعل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة)، والدول العربية كلّها تقريبًا التي باركت الاتفاق لكنّها إضافة إلى ذلك لم تفعل أيّ شيء ، باستثناء المملكة الأردنيّة الهاشميّة صاحبة الولاية الهاشميّة في مدينة القدس التي كانت مع السلطة قلبًا وقالبًا، وواجهت وحيدة بسياسة قيادتها كافّة محاولات تغيير الوضع القائم هناك، بل منعتها بنجاح يستحقّ التقدير، مقابل البعض الآخر الذي حاول تحويل هذه الوصاية إلى سلعة سياسيّة يريدها من إسرائيل مقابل تنازلات يعرفها الجميع، كانت بوادرها واضحة في اتّفاقيّات الصلح بين إسرائيل والدول الخليجيّة والمعروفة باسم اتفاقيّات أبراهام، والتي اعتمدت أوسلو أساسًا، بل ذريعة للمصالحة، فإذا كان الفلسطينيّون قد اعترفوا بإسرائيل فما الضير في اعترافهم هم، في تكرار لسيناريو شهده التاريخ العربيّ عامّة والفلسطينيّ خاصّة من " تمسّك بالعناوين والشعارات دون الحقائق والحيثيّات" ، بمعنى الاكتفاء بالدعم الماليّ والسياسيّ، دون إتمام الدور المطلوب والضروريّ من حيث المساعدة والتوجيه والمراقبة، وبناء آليّة تضمن أن تكون النتائج كما يُراد أو قريبة من ذلك، فأموال الدعم العربيّ والدوليّ (الدول المانحة) ، وهذه واحدة من أسباب الفشل التي تتحمّل السلطة الفلسطينيّة وخاصّة أولئك الذين تتمّ تسميتهم" قيادة تونس أو قيادة الخارج"، مسؤوليّتها التامّة والكاملة دون رتوش ومماطلة، كانت في واقع الأمر سيفًا ذا حدّين، أو حالة تمّت إساءة استخدامها، وتم الاكتفاء بالنصف الأول من المعادلة، وهي ضمان ميزانيّة السلطة وتنفيذ مشاريع البنى التحتيّة على المدى القريب، دون التفكير في المدى البعيد، وخاصّة الاقتصاديّة ، فما ترتّب على ذلك الاتفاق من نتائج اقتصاديّة وحياتيّة يوميّة، على مدار السنوات السابقة لم يكن مثلما يأمل الشعب الفلسطينيّ، فالآمال التي كانت معقودة على الاتّفاق ، كانت كبيرة وربما غير واقعيّة غذّتها شعارات القيادة حول تحويل الضفة الغربيّة إلى سنغافورة، وإقامة كيان واقتصاد مستقلّ يتخلّص من قيود الاحتلال وبشكل فوري وسريع ،كما اعتقد كثيرون يفتح الاتّفاق الأبواب أمام اقتصاد فلسطينيّ حرّ ومزدهر، واستثمار كبير تأسيسًا لدولة فلسطينيّة سريعة ، لكن تبيّن سريعًا أن الاقتصاد الفلسطينيّ كان دون مقومّات، وأن أوسلو لم يسعفه، وهنا خطأ من وقّعه من الفلسطينيين، وربما أرادوا من "باب السذاجة والتطمين واستعجال النتائج"، أو من باب من يمنّي النفس بالنتائج النهائيّة، وأن يفصّلها على مقاسه الشخصيّ، أو الفصائليّ، بل إنه كان وما زال محاصرًا في سجن إسرائيليّ، يعاني ضعفًا وعجزًا في الميزان التجاريّ، وهيمنة المنتجات الإسرائيليّة على السوق الفلسطينيّ، ومواصلة إسرائيل التحكّم بالحدود والمنافذ ، ناهيك عن أن السلطة الفلسطينيّة قبلت مضطرة وربما غير واعية تغييب استثمارات عربيّة ودوليّة في قطاعات إنتاجيّة مختلفة، واكتفت بقطاع الخدمات أو القطاع العام، بما في ذلك ملحق باريس الاقتصاديّ، الذي وُقّع في نيسان 1994 في باريس، يعدّ جزءًا من اتفاق أوسلو ويرتكز على الجوانب الاقتصاديّة.
اتّفاق أوسلو وبعد ثلاثين عامًا من توقيعه، وربما لحظات قبل وأده نهائيًّا وفعليًّا بعد وأده عمليًّا وسياسيًّا على الصعيدين الدوليّ والإقليميّ وكذلك الفلسطينيّ والإسرائيليّ، خاصّة وأن أيًّا من الأطراف لم يعد يتحدّث عن كيان فلسطينيّ ودولة فلسطينيّة مستقلّة، بل "تسوية مقبولة وعادلة" ، خلق حالة ربما غير مسبوقة يسود فيها الاتفاق على أنه مُني بالفشل، الجزئيّ أو التامّ، دون أن يستطيع أحد من الإسرائيليّين أو الفلسطينيّين تحديد الجهة التي أفشلت، أو على الأقلّ، دون اتفاق، والمسؤولة عن أسباب الفشل، رغم الإقرار بوصوله لهذه النتيجة، أو العثور على البديل المناسب لإيجاد حلّ لهذا الصراع بين الجانبين ، ورغم ذلك ومن الطرف الفلسطينيّ يمكن الإشارة إلى أن ما حدث كان نسخة من الماضي، بمعنى قيام القيادة الفلسطينيّة على مرّ العصور والأجيال، باتّخاذ قرارات معيّنة دون العمل على تسويقها وشرحها وتعليلها، ووضع النقاط على الحروف، بمعنى شرح الميزات بمعنى الإيجابيّات والسلبيّات والاحتمالات والتهديدات ، ووضع الصورة الحقيقيّة أمام الجميع دون رتوش، ما يضمن أو يساعد في وضع الأمور في نصابها، ما خلق حالة، كانت معالمها واضحة وبادية، خلاصتها ربما بشكل غير مبرّر، رفع سقف توقعات الفلسطينيّين من نتائج الاتفاق إلى حدّ غير معقول، ودون أن يحاول أحد رفع" رايات الحذر أو التحذير"، فقد توقّع الشعب الفلسطينيّ عقب توقيع اتّفاق أوسلو في سبتمبر 1993 أن يطرأ تحسّن كبير على ظروفه الاجتماعيّة والاقتصاديّة والحياتيّة والسياسيّة في المدى القصير، واعتقد الجميع أنها ستصل إلى النهاية المرجوة من إقامة لكيان فلسطينيّ خلال خمس سنوات، على أكثر حدّ لتلخيص بعد استكمال قضايا الحلّ النهائيّ، وهذا ما لم يحدث بسبب العمليّات العسكريّة التي نفّذتها حركة "حماس" ، من جهة واغتيال رابين ووصول اليمين وبنيامين نتنياهو إلى سدّة الحكم، رغم توقيعه اتّفاق "الخليل" فتأخر التنفيذ وساءت الظروف وهذه جعلت اتفاق أوسلو مع الفلسطينيّين يصل لطريق الفشل، أما السبب الثاني لفشل اتّفاق أوسلو فقد تمثّل بتغير موازين القوى الدوليّة خاصّة بعد تضاؤل، بل انعدام وزن الاتحاد السوفييتّي وبعدها روسيا، لتتحوّل الرعاية الدوليّة من "راعيين" هما أمريكا والاتّحاد السوفييتي، يجد كلّ منهما من قوة وانحياز الطرف الثاني إلى رعاية أمريكية واحدة كان من الواضح أنها ستؤدّي، بل أدّت إلى انحياز تامّ لمواقف إسرائيل، دون أن تنجح القيادة الفلسطينيّة في مواجهة ذلك سياسيًّا عبر ابتكار صلات تفهم اللعبة السياسيّة الدوليّة، وتأخذ بالحسبان عدم وجود دولة ثالثة تلعب دور الجهة التي تضمن تنفيذ الاتّفاق، خاصّة وأن أمريكا كانت مشغولة، والصحّ أنه تمّ اشغالها بحروب الخليج وبعدها أفغانستان بعد الحادي عشر من أيلول.
هكذا هو الحال اليوم، فالواقع يؤكّد حقيقة فشل أوسلو من وجهة نظر فلسطينيّة، فحتى صُنّاع الاتّفاق ومؤيّديه ومن أرادوا منه أن يكون بداية للحلّ النهائيّ بكلّ تعقيداته، وهذا ما يقرّه الجميع، ابتداءً من المبادرين إليه ومنهم الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس، ومن معه من الوزراء سواء كانوا ممّن عادوا من تونس، أو ممّن تمّت حينها تسميتهم قيادة الداخل ، وبالتالي لا بدّ من وقفة صادقة فلسطينيّة على الأقل لا تكتفي بتعليق مبرّر وصحيح وله ما يؤكّده، لأسباب هذا الفشل على طبيعة النظام السياسيّ في إسرائيل، والذي لم يُقرّ يومًا بحقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره، ولا بأيّ من حقوقه الوطنيّة الثابتة كما أكّدتها قرارات الأمم المتحدة، بل ماطل واستغلّ " الصياغات لصالحه" كما في قرار 242 والذي تمّت صياغته بالفرنسيّة، ليسود النقاش حول ما إذا كان يطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي تم احتلالها عام 1967، أو من أراضٍ تمّ احتلالها والفارق شاسع، بمعنى أن القيادتين الفلسطينيّة والإسرائيليّة بقرارهما إبقاء القضايا الهامّة والنهائيّة وخاصّة قضيّة القدس والاستيطان والحدود النهائيّة والعودة، دون جدول زمنيّ ملزم، أو حتى افتراضيّ، بخلاف ما كان مثلًا في اتّفاق كامب ديفيد الذي حدّد الجدول الزمنيّ للقضايا الهامّة، ولم يتركها " لحسن النوايا " ، وحتى قضية فندق " لاروم" في طابا، كان في رأيي واحدًا من الأسباب الرئيسيّة للفشل، فهو قرار جعل من أوسلو" اتّفاق نوايا يحمل معاني تصريحيّة" تمامًا كقرارات الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، أي أنه صاغ الإطار العام دون التفاصيل الدقيقة، وأهمّها أن إسرائيل ووفق كافّة الوثائق المتعلّقة بالمفاوضات لم تعترف، ولم تقرّ بضرورة إنهاء الاحتلال، وأنكى من ذلك كيفية إنهائه، مكتفية بالتصريح بأن لها مصلحة جديّة بأن يعيش الفلسطينيّون في ظروف مريحة، ليس من باب الحرص على مصالح الفلسطينييّن واستقلالهم، بل كي لا يذهبوا نحو خيار إشعال المنطقة، ليتبيّن للفلسطينيّين سريعًا أنهم أمام عمليّة طويلة الأجل دون نهاية واضحة، ما ساعد على انتشار أجواء الإحباط واليأس في صفوفهم، ليتّضح أن أوسلو لم يكن في الواقع اتّفاقًا حقيقيًّا قابلًا للحياة ، وهذه حقيقة مؤلمة يجب الاعتراف بها، بل كان تعبيرًا عن اتّفاق خضع دون نقاش، لميزان قوى إقليميّ ومحليّ وعالميّ، حال دون أن يستفيد الشعب الفلسطينيّ من إنجازات الانتفاضة، ودون أن يستفيد المواطن العادي من ذلك، بمعنى أن الاتفاق والذي يجب هنا الاعتراف وبشجاعة بالأخطاء التي رافقته فلسطينيًّا (سنأتي على الجانب الإسرائيليّ لاحقًا) ، فوَّت منذ اللحظة الأولى فرصة ذهبيّة لإعلاء صوت المواطن العاديّ والبسيط والمحليّ بكافّة شرائحه وقياداته، والتي عايشت الاحتلال 26 عامًّا حتى توقيع الاتفاق، فعرفت إمكانيّات مماطلته ونقاط ضعفه، وخاصّة من اعتاد الكثيرون الحديث عن تسميتهم" قيادة الداخل والقيادة الفلسطينيّة المعتدلة" وخاصّة الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس الذي كان قد أعلن وبشجاعة حينها أنه يدرك بأنه وإن كان من صفد، فإنه لن يعود اليها، فجاءت المفاوضات والنتائج على مقاس قيادة الخارج التي نقل عنها وعلى لسان الرئيس الفلسطينيّ ياسر عرفات أن الحلّ لن يأتي إلا باتّفاق مع قيادة "فتح تونس"، وهي رغم عدم الشكّ في مصداقيتها، بعيدة عن نبض الشارع وعن فهم الطرف الثاني من المعادلة، أي إسرائيل وحالتها الداخليّة وما سيواجهه هذا الاتّفاق، وتأثيراته وأبعاده على الضفة الغربيّة وإسرائيل والمواطنين العرب داخل إسرائيل، ما حال دون الحذر الكافي لضمان البداية السلسة لتنفيذ الاتّفاق، لتصرّ قيادة تونس على أن لا اتّفاق بدون "منظمّة التحرير الفلسطينيّة"، وكأنها بقرارة نفسها فهمت بما لا يقبل الشكّ من أن الانتفاضة الأولى كانت الدليل على بدء تبلور قيادة داخل تفهم الواقع والسبل الناجحة لمواجهة إسرائيل وكسب الرهان على الرأي العام العالميّ، عبر انتفاضة شعبيّة (ليس عمليات عسكريّة ضدّ مدنيين إسرائيليّين كما فعلت حماس بعد أوسلو)، ليكون الردّ بدلًا من الدعم والمرافقة والتعويل عليها رغم مشاركتها الفعليّة في المفاوضات، إصرارًا على أن يكون في المرتبة الاولى ، هم قيادة الخارج انتزاع شرعيّتها حتى لو كان على حساب غموض يلفّ قضايا جوهر الصراع والمتمثّلة بالأرض والاستيطان والحدود واللاجئين، متناسية أن إسرائيل لم تكن لتفكر بمفاوضات سريّة، أو علنيّة مع الفلسطينيّين لولا ما أنجزته الانتفاضة والسؤال الكبير الذي طرحته وأشغل بحقّ وحقيق المجتمع الإسرائيليّ، حول كم يمكن للاحتلال أن يستمر في مصادرة حريّة شعب يرفض الاحتلال.
" الحضاريّ واليوميّ"
ميزان القوى الذي تجاهلته قيادة الخارج، بسبب بعدها " الحضاريّ واليوميّ" عن إسرائيل وسبل تنفيذ سياساتها وصراع القوى السياسيّ والدينيّ والاستيطانيّ فيها، يقودنا إلى إسرائيل فهي وصلت أوسلو مرغمة بفعل الانتفاضة، وسيل دول العالم التي اعترفت بالدولة الفلسطينيّة بعد إعلان الاستقلال عام 1988، فاليمين الإسرائيليّ الذي رفض الاتفاق منذ بداياته وشنّ حملة من المظاهرات والاحتجاجات، يرى اليوم، وهذا ما قاله قادته منذ اللحظة الأولى، أن السبب في فشل الاتفاق يعود إلى أن الزعيمين الإسرائيليّين السابقين إسحق رابين وخاصّة شمعون بيرس اعتقدا أن تسليم الفلسطينييّن مساحات من الأراضي في الضفة الغربيّة وقطاع غزة، سيغيّر من مواقفهم ليتوقّفوا عن دعم العمليّات المسلّحة ضد إسرائيل، وان لم يكن هذا كافيًا فإن سياسات إسرائيل التي تلت الاتّفاق عملت بوضوح على تقويضه عبر استغلال الثغرات التي لم يتطرّق إليها الاتّفاق الأوليّ، ومن باب الراحة وهو الخطأ الفادح، كاللاجئين والذين كانت إسرائيل ورغم إنكارها قد تعهدت في المؤتمر متعدّد الأطراف الذي شهدته العاصمة التونسيّة في أكتوبر 1993، بمشاركة الدكتور يوسي بيلين نائب وزير الخارجية آنذاك، بإعادة نحو 50 ألفًا منهم كبادرة حسن نيّة لا تعني الاعتراف تاريخيًّا بالمسؤوليّة عن النكبة واللجوء، والقدس التي جاءت نتيجة الاتفاق ومن نفس الباب، باب " عدم إدراك وفهم العدو" ليسمح لإسرائيل بإحكام سيطرتها على شرقيّ القدس المحتلة، أي أن إسرائيل استغلّت الاتّفاق وما رافقه من تحوّلات سياسيّة داخليّة، لتسريع وتثبيت مخطّطاتها في القدس نحو تحقيق هدف جعلها عمليًّا عاصمة للشعب اليهوديّ، دون أن يتمكّن الفلسطينيّون من الردّ ، فالقضية متروكة للحلّ النهائيّ، وهو ما فعلته إسرائيل بقيادة اليمين في قضيّة المستوطنات، فهي ترفض ورفضت تجميد الاستيطان، كما أنه اتّضح أن حكومات إسرائيل بعد أوسلو، أطلقت أيدي اليمين والمستوطنين خاصّة في المسجد الأقصى فالاعتداءات عليه ووتيرة الاستيطان زادت بعد اتّفاق أوسلو، وخاصّة بعد خسارة شمعون بيرس الانتخابات عام 1996، رغم محاولات العالم كلّه مساعدته عبر مؤتمر صانعي السلام في شرم الشيخ، ما يمكن تسميته بأنّه استغلال تامّ لحالة الضعف الفلسطينيّة، بل حالة الانقسام الفلسطينيّ الداخليّ، التي جعلت من السنوات التي تلت الاتفاق ، مرحلة حوَّلت نضال الشعب الفلسطينيّ من النضال من أجل التحرّر الوطنيّ بمفهومه الكامل والمتكامل إلى مسألة استقلال، أو كما قال كثيرون من قضية عودة إلى سيادة وسلطة، دون ضمانات دوليّة ودون خطّ رجعة، أما إسرائيل ولاعتباراتها الداخليّة، أو لمصالح قادتها الضيّقة فقد تفوّقت على نفسها في المماطلة والتسويف وربما بوحي من موقّعي الاتّفاق وخاصّة إسحق رابين الذي اعتبر أن لا مواعيد مقدّسة لتنفيذ الاتّفاق (فهل أراده فعلًا أم أنه وقّعه "مجبر أخاك لا بطل")، فهي لم تكتف بنقض التعهدات السياسيّة، بل امتنعت حتى عن تقديم الحقوق الاقتصاديّة للشعب الفلسطينيّ، وهكذا مع مرور السنوات وخاصّة وصولًا إلى اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 ، أغلقت إسرائيل الإمكانيّات أمام الفلسطينيّين الأفراد والشركات ومنعت العمال من العمل في إسرائيل، ، فضعف الاقتصاد وارتفعت مؤشّرات الفقر والبطالة، وزادت من حدّة ذلك استخدام إسرائيل للجانب الاقتصاديّ وسيلة ضغط دائمة، عبر تجميد أموال المقاصّة والضغط على الدول الداعمة لتقليص وتوقيف تمويلها متذرّعة بفشل السلطة في إدارة اقتصادها، وفي ذلك بعض الحقيقة فقد ظّلت السلطة تعتمد على المساعدات الدوليّة الخدماتيّة، وأغفلت الجانب التنموي وبناء المؤسّسات الاقتصاديّة والصناعيّة وحتى السياسيّة الديمقراطيّة ، مع التركيز على الجانب الأمنيّ ( ضمان السلطة) عبر تنوّع وتناقض الأجهزة من المخابرات والأمن الرئاسيّ والأمن الوقائيّ والقوّة 17، والشرطة وغيرها، على حساب قطاعات مهمّة مثل الزراعة والصناعة والصحّة والتعليم.
والسياسة في الطرف الإسرائيليّ وبدهائها المعهود وإمكانيّات تسويقها ولولبيّاتها الدوليّة والعالميّة وقوّتها الإعلاميّة والاقتصاديّة أدركت الحقيقة وهي أن الدمج ما بين حكم يمينيّ في إسرائيل واتّفاق أوسلو والعمليّات العسكريّة، إنما هو الفرصة المواتية- التي لم يفهمها الفلسطينيّون- لسدّ الأفق السياسيّ لحلّ الصراع، وبالتالي أصبح إبقاء السلطة ضعيفة وهزيلة وأسيرة مصلحة إسرائيليّة أكثر منها فلسطينيّة، لتتحوّل السلطة من مشروع استقلال أو حتى سيادة إلى "حالة مريحة" لإسرائيل، لا تؤدّي إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة فهي غير قادرة على ذلك أسيرة اتّفاقيات تعاون أمني وتعلّق اقتصاديّ وشخصيّ، فهي تسيطر على الأرض كما تريد إسرائيل ومتى أرادت إسرائيل، خاصّة في المناطق المصنفة " أ" ما يعني إخلاء مسؤوليّة إسرائيل عنها، رغم أن سكانها قابعون بالمفهوم اليوميّ والواسع والحقيقيّ تحت الاحتلال، ما خدم الرواية الإسرائيليّة في أنها لا تريد ضمّ الضفة الغربيّة، ولا تريد أن تتحوّل إسرائيل إلى دولة ثنائيّة القوميّة، بل إن لا شريك لها للتقدم في المسار، وهي لا تستطيع لضعف السلطة وعدم قدرتها على منع العمليّات العسكريّة وعدم وجود قرار فلسطينيّ واضح بنفي النضال المسلح نهائيًّا، إنهاء الاحتلال دون حلّ ودون طرف فلسطيني يمكنه تولّي المسؤولية ، ما جعل إسرائيل في نظر بعض الدول وخاصّة جهات متنفّذة في الولايات المتّحدة تتحوّل من محتلّ إلى ضحيّة..
"مصيدة للفلسطينيّين"
اتّفاق أوسلو شكّل مخرجًا لإسرائيل وصبّ في النهاية، وكما يتّضح اليوم في مصلحة أجنداتها وللعالم كلّه دور في ذلك، وكان مصيدة للفلسطينيّين لأنهم لا يفهمون جيّدًا اللعبة السياسيّة العالميّة، ولا الأقليميّة ولا العربيّة وطبعًا الإسرائيلية، فهو اتّفاق يصحّ فيه القول أن الطريق إلى جهنم مرصوفة بالنوايا الطيّبة، وإن تفاوتت درجاتها، كما يصحّ فيه القول أن الفلسطينييّن مرّة أخرى لم يفهموا ميزان القوى الدوليّ، وأن إسرائيل كعادتها أرادت اتّفاقًا يمكنها بسهولة إدارة عقارب ساعته وجعله لمصلحتها فهي الطرف الأقوى سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، وأن أوسلو كان كغيره اتفاقًا بين القيادات لم يتمّ تسويقه بتفاصيله، ليعتبره الفلسطينيّون " القشّة التي تنقذ الغريق"، وليعتبره الإسرائيليّون بمثابة اتّفاق تعطي إسرائيل فيه أكثر ممّا تأخذ، وهذه معادلة الخطّ الأحمر في السياسة الإسرائيليّة، فالسلطة الفلسطينيّة وقيادة الخارج أرادت من أوسلو موطئ قدم للعودة، دون التفكير المليّ في الحلّ النهائيّ، وإسرائيل أرادت منه استعادة للهدوء بعد الانتفاضة الأولى، وذلك دون تفكير مليّ بالحلّ النهائيّ، بل عبر تأجيل القضايا العالقة، دون أيّ تعهّد زمنيّ، أو من الرعاة الدولييّن، ليصبح تنفيذ الاتّفاق مرهونا بحسن النوايا، وهي سلعة معدومة في السياسة عامّة، والنزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ خاصّة.
هي حالة خاصّة يتّفق الجميع فيها على النتيجة ويختلفون على المسبّبات والعوامل، لكنّ الفارق هو أن أوسلو وفي حالة أكثر خصوصيّة، اتّضح فشله قبل أن يجتاز، كما هو متّبع في التقييمات، نصف الطريق المؤدي للنجاح، وفي ذلك اعتراف ضمني لوجود خطأ أساسي وجوهري ارتكبه طرفا المعادلة، وانه كان عليهما البحث عن صيغة اكثر وضوحًا للحل، تشمل الضوابط والدعم وجهات الحسم في الخلافات وهو ما لم يفعله الفلسطينيّون أكثر من مرّة معتمدين حسن النوايا وقدسيّة الاتّفاقيات والمواعيد، بينما تعتبر إسرائيل معظم التعهّدات الخارجيّة والداخليّة خاصّة في عهد نتنياهو مجرّد حبر على ورق في أحسن الأحوال (وحكومة غانتس- نتنياهو وغيرها وغيرها أفضل مثال) والسؤال هل بقي من الوقت متّسع؟؟ الجواب لا، فالواضح أن حجر الرحى القادم من الماضي، تاريخيًّا وسياسيًّا وعقائديًّا في الجانب الإسرائيليّ كان كفيلًا بخنقه، وأن التوجهات الاستيطانيّة حكمت عليه بالموت، أم أن الحقيقة أنه كان "ولادة غير طبيعيّة" وفق التعريف الطبّي؟ أم خسارة الفلسطينيّين بأنهم لم يتبنّوا مبادرة السلام للرئيس المصريّ الراحل أنور السادات .
مهما تكن الإجابات فأوسلو ونتائجه وملابساته والعودة اليوم إلى مربع الصفر، تؤكّد أن التاريخ قد يعيد نفسه، عبر حديث اليوم عن تطبيع إسرائيلّي سعوديّ بموافقة فلسطينيّة دون تعهّد إسرائيليّ بدولة مستقلّة، ودون دعم عربيّ ودوليّ، بل عبر حلّ يقبله الطرفان (والواضح مَن الطرف الأقوى) ، فهل سيعيد التاريخ نفسه إيجابًا، أم ستكون الإعادة كقول كارل ماركس إنّ "التاريخ يعيد نفسه في المرّة الأولى كمأساة، وفى المرّة الثانية كمهزلة"، أو ربما مأساة احتلال دائم وأبارتهايد، وفي هذا لي حديث لاحق.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]
من هنا وهناك
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
التعقيبات