بين المدّ والجزر ينقسم البيت على ذاته
على الرغم من كون المظاهرات الاحتجاجيّة على التشريعات الأخيرة، التي وصلت أوجها في إقرار حجّة الأرجحيّة، أو المعقوليّة، حالة تعيشها إسرائيل منذ ثمانية أشهر فقط. وهي فترة قصيرة للغاية
المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت
في حياة الشعوب والدول، ورغم اختلاف التسميات حولها، وتفسيراتها بين من يعتبرها خطوات تنفّذها حكومة يمينيّة متطرّفة تشارك فيها أحزاب تحرّكها معتقدات دينيّة متطرّفة وسياسيّة متزمّتة، تعمل مع سبق الإصرار والترصّد على إفراغ العمل السياسيّ الجماهيريّ العامّ والحكوميّ من مضمونه، وتحويله إلى عمل لمصلحة أجندات ضيّقة وحزبيّة وشخصيّة، تعني إفراغ السياسة من محتواها، وتقزيم الديمقراطيّة وأجهزتها وصولًا إلى حكم توراتيّ فردانيّ دكتاتوريّ، ربما بغطاء قانونيّ وبعمليّة تشريعيّة، وإن كانت نتائجها معلومة سلفًا قوامها "تصويت قبليّ قطيعيّ وانضباط ائتلافيّ" يحيِّد التفكير، ويلغي القرار الشخصيّ، ويغلِّب الموقف الجمعيّ، ينتهي إلى الإضرار بالديمقراطيّة-وهي نتيجة مشابهة لنتائج الانقلابات العسكريّة- ومفاقمة أزمة المواطنة والمساواة والتمثيل، كما اتّضح من خلال سياسات الحكومة الحاليّة (حكومة نتنياهو السادسة ) التي تزيد من وتيرة التشريعات البرلمانيّة، وتحصل على دعم الأغلبيّة (64 مقعدًا للائتلاف الحكوميّ)، التمييز ضدّ الأقلّيات السياسيّة والعرقيّة والميول الجنسيّة والاجتماعيّة، رغم أنهم يزعمون أنهم يدافعون عنها، وفي كثير من الأحيان يدّعون أنهم مؤيّدون للديمقراطيّة والمساواة، وتمثيل مساوٍ وملائم لكافّة فئات المجتمع، وتحسين أوضاعها الاقتصاديّة والاجتماعيّة من خلال خطاب شعبويّ، ودون أن تكون لهم أيّ خطط، أو خطوات واضحة وعمليّة ملموسة، بما يتعلّق بالأزمات الاقتصاديّة، وانعدام الأمن والأمان في حالتنا الحاليّة على الصعيد الداخليّ، والخطر الإيرانيّ والصراع مع الفلسطينيّين، وحالة التوتّر المتصاعد والمتزايد، والذي يهدّد بجولة أخرى من الصدام المسلّح، أو الانتفاضة، والخطر على الحدود الشماليّة مع حركة حزب الله (سنعود إليها لاحقًا) ، وبين من يعتبرها ضرورة قصوى تعني إصلاح غبن تاريخيّ لحق باليهود الشرقيّين والمستوطنين والمتديّنين واليمينيّين، نتيجته إقصاؤهم من جهاز القضاء، ومواقع القرار وتكديس القضاة المعتدلين، أو اليساريّين (في نظر اليمين) في المحكمة العليا، لضمان سيطرة اليسار والليبراليّين وأنصار الرئيس السابق للمحكمة أهارون براك، رغم ما سبق وما سيليه من قرار لمحكمة العدل العليا إلغاء لقانون حجّة الأرجحيّة، أو قانون التعذّر الذي يتعلّق بعدم تمكّن رئيس الوزراء من تأدية مهامّه، أو اكتفاء القضاة بتأجيل سريانهما باعتبارهما تعديلين منطلقاتهما شخصيّة تتعلّق ببنيامين نتنياهو ومحاكمته، أو استمرار للتشريعات, كما قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، عبر سن تعديل لقانون أساس التشريع يضمن تغيير توليفة وتركيبة لجنة اختيار القضاة يتمّ بعده وقف عمليّة التشريعات، أو عدمه ما يعني استمرار الاحتجاجات والتوتّرات والانقسامات. في هذا الخضم هناك بعض الحقائق التي باتت واضحة، يمكن الإشارة إليها بوضوح ودون تردّد، رغم الحذر المعتاد من الإسراع في صياغة استنتاجات مرحليّة تتعلّق بتطوّرات سياسيّة وحزبيّة اعتدنا وصفها بأنها ديناميكيّة وغير متوقّعة، بل مفاجئة، وأوّلها إن ما كان لن يعود، وإن ما فات مات، بمعنى أن إسرائيل لن تعود إلى سابق عهدها من حيث اللحمة الداخليّة (حقيقية كانت أو وهميّة)، ومن حيث وحدة المصير والترابط الداخليّ والتكافل السياسيّ والأمنيّ خاصّة في أوقات الشدّة، وهي الخطر الماثل أمام إسرائيل جرّاء التوتّر متعدّد الساحات والجبهات، وجرّاء الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي خلفتها نشاطات الانقلاب القضائيّ - الدستوريّ حتى لو توقّفت اليوم، وما خلّفته من مشاعر الكراهية والعداء والعداوة، وما كشفته من هشاشة الرباط الإسرائيليّ الداخليّ، حتى يكاد البعض يجزم صدق وصف حسن نصر الله زعيم حركة "حزب الله" من أن إسرائيل أوهى من خيوط العنكبوت، وربما في نفس الوقت زيف الادّعاء حول كون دولة إسرائيل بوتقة تنصهر فيها الاختلافات، وتذوب فيها الفروقات وتتحوّل الطوائف والفئات والمجموعات إلى " شعب واحد"، وربما حان الوقت لنعود مرة أخرى، إلى خطاب رئيس الدولة السابق رؤوفين ريفلين المعروف بخطاب الأسباط، الذي ألقاه عام 2015، وشدّد فيه على أن خلافات الإسرائيليّين الداخليّة أشدّ خطرًا من التهديدات الخارجيّة ومن قنبلة إيران، خاصّة وأنها كما يتّضح اليوم وبفعل الانقلاب القضائيّ، تؤكّد أن إسرائيل تعيش اليوم مرحلة خطيرة تشكّل النقيض لما كانت عليه عام 1948 والسنوات التي تلتها، والتي تحوّلت فيها من قبائل إلى شعب، إلى حالة معاكسة تتحوّل فيها من شعب إلى قبائل، تتّسم العلاقات بينها بالخصومة التي يزداد عمقها وخطورتها وشدّتها، تجعلها تقترب من حرب أهليّة في إسرائيل، تتجاوز الحدّ الطبيعيّ لأيّ خلاف طبيعيّ على السلطة ضمن الديمقراطيّة، وتتجاوز معايير الاختلاف السياسيّ والحزبيّ المشروعة، فضلًا عن أنها لن تعود إلى سابق عهدها كديمقراطيّة، حتى لو كانت محدودة وجزئيّة، بل ستتحوّل إلى دولة دكتاتوريّة، أو على الأقل ديمقراطيّة للمستوطنين والمتديّنين وديمقراطيّة أقلّ لليهود الآخرين، ودكتاتوريّة للأقلّيات الأخرى وخاصّة المواطنين العرب، والدليل الساطع هو قرار وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، عدم تحويل ميزانيات للسلطات المحليّة العربيّة تعّهدت الدولة (الحكومة ووزارتا الداخليّة والماليّة في الحكومة السابقة) بتحويلها إلى البلدات العربيّة بحجّة وجود أولويّات مختلفة للحكومة الحاليّة (تمويل المستوطنات والطلاب في المعاهد الدينيّة). ووقفه تحويل ميزانيات بقيمة 200 مليون شيقل لتمويل مشروع لتمكين الشبان العرب من شرقي القدس للوصول إلى الدراسة الجامعيّة والانخراط في سوق العمل، بادّعاء أن هؤلاء الطلاب يحملون مواقف متطرّفة ومعادية لإسرائيل.
الأدلّة على ذلك كثيرة، أوّلها الحرب العلنيّة والمعلنة بين الحكومة الحاليّة ومحكمة العدل العليا، والتي بلغت ذروتها برفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خلال لقاءاته الصحفيّة والتلفزيونيّة، والتي تقتصر فقط على شبكات الإعلام والتلفزة الامريكية وباللغة الإنجليزيّة في ظاهرة غير مسبوقة عالميًّا يرفض رئيس وزراء دولة ما الحديث إلى مواطنيه والردّ على إجابات الإعلام، رفضه التعهّد بالانصياع لقرارات محكمة العدل العليا، حتى لو قرّرت إلغاء قرار البرلمان حول حجّة الأرجحيّة، أو المعقوليّة، أو قانون التغيّب، أو تعذّر تأدية مهامّ رئيس الوزراء، بينما يواصل وزراؤه وأعضاء ائتلافه التصريح، ومن على رؤوس الأشهاد، أن لا صلاحية للمحكمة العليا لمراقبة عمل البرلمان، والنظر في قراراته حتى لو كانت تشكّل تغييرًا لقوانين الأساس، أو تشكّل تشريعات "خاصّة تمّ تفصيلها "على مقاس رئيس الوزراء، أو أحد وزرائه ومقرّبيه، وحتى لو جاءت لتكريس سيطرة سياسيّة على الشرطة والوزارات ومناصب المستشارين القضائيّين وغيرهم، أو لتفضيل المستوطنين وطلاب المعاهد الدينيّة على غيرهم من حيث الامتيازات الماليّة، أو تجذير وتعميق مظاهر إقصاء النساء والمواطنين العرب من أماكن العمل والسكن وغيره، وفرض تعاليم التوراة وتعزيز دور المحاكم الدينيّة اليهوديّة. وهي تصريحات تأتي رغم أنه من الواضح لي، حتى ولو قرّرت محكمة العدل العليا، شطب قانون أساس، لن يكون نهاية المطاف فالائتلاف الحالي بأعضائه الـ 64، سوف "ينتفض" ضدّ قرار المحكمة باعتباره بالنسبة له، تحطيمًا لكافّة القواعد وتجاوزًا لكافة الحدود والخطوط الحمراء، وبالتالي سيكون ردّ الحكومة والائتلاف تشريعات واضحة وصريحة تمنع محكمة العدل العليا من التدخّل ومراقبة قرارات المشرعين والوزراء ورؤساء السلطات المحليّة وغيرهم من المسؤولين، وليس ذلك فقط، بل تمنعها من إصدار أيّ تعليمات للوزراء بما فيها ربما محاولة إلزام وزير القضاء ياريف ليفين بعقد جلسات للجنة اختيار القضاة، وهو الأمر الذي أعلن ليفين أنه لن يفعله، بمعنى إن ما سيحدث هو دخول إسرائيل حلقة مفرغة قضائيًّا ودستوريًّا ، يُشَّرع البرلمان فيها قرارات ويسنّ القوانين، فيلجأ المعارضون إلى محكمة العدل العليا التي تشطب وتلغي هذه التشريعات، ليعود الأمر إلى البرلمان ، ليسنّ قوانين جديدة تتلوها التماسات وشطب وهكذا دواليك، في تأكيد لحالة دولة إسرائيل التي تدهورت خلال فترة قياسيّة من دولة مزدهرة وديناميكيّة، اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا ومستقرّة أمنيًّا وسياسيًّا، رغم انتخاباتها المتكرّرة، إلى دولة تقف قاب قوسين أو أدنى من حرب أهليّة وانقسام لدولتين، واقتراب بخطى سريعة للغاية من تجاوز خطين أحمرين تصل الدولة بعدها حربًا أهليّة، وهما اغتيال سياسيّ يشمل، ليس فقط اغتيال شخصيّة سياسيّة، بل أيضًا يشمل مقتل واحدٍ من معارضي الانقلاب القضائيّ المتظاهرين كلّ أسبوع، وحدوث حالة تمرّد داخل الجيش الإسرائيليّ تبدو معالمها واضحة، ربما في عرائض تشمل أسماء مئات من الطيارين المتطوّعين وضباط الاحتياط الذين أكّدوا أنهم يرفضون مواصلة تأدية مهامّهم في الجيش بقطاعاته المختلفة، خاصّة إذا ما أضيفت إليها مواقف أرباب الصناعات التكنولوجيّة المتقدّمة الذين يؤكّدون أن الانقلاب القضائيّ سيشكّل ضربة مميتة للصناعات المتقدّمة والاستثمارات العالميّة في إسرائيل، ومئات الأطباء الذين أعلنوا أنهم سيغادرون إسرائيل بحثًا عن أماكن عمل في دول العالم المختلفة، ومنها الإمارات العربيّة المتحدة، وهذه كلّها أمور تؤكّد الطبيعة الحقيقيّة للصراع الدائر حاليًّا في إسرائيل، وأنه في الحقيقة ليس صراعًا قضائيًّا، أو حتى صراعًا سياسيًّا، بل إنه صراع حول تقاسم القوى أو بشكل أوضح، تقسيم القوى بين المجموعات المختلفة، بل المتناقضة التي تشكِّل المجتمع الإسرائيلي: اليمين واليسار، الجماعات المتديّنة مقابل العلمانييّن، المحافظون والمتزمّتون مقابل الليبراليّين، المتديّنون المتزمتون- الحريديم-الذين يرفضون تأدية الخدمة العسكريّة مقابل العلمانيّين ، الطوائف اليهوديّة الشرقيّة مقابل اليهود الغربيين الأوروبيين ( الأشكِناز) ، العرب مقابل اليهود، وفوق كلّ ذلك، بل الأهم أنه صراع بين الرعيل القديم من الجماعات ذات السيطرة على مواقع اتّخاذ القرار، ومعظمها من اليهود الغربيّين والعلمانيّين وأصحاب رؤوس الأموال، والذين ينادون بحلّ سياسيّ للنزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وبين المجموعات الجديدة الطامحة إلى السيطرة على مراكز القوى، ومنها اليمين والمستوطنون واليهود الشرقيّون، وكلّها صراعات قديمة كانت " بمثابة تيّارات تحت أرضيّة" منذ إقامة دولة إسرائيل، لكنّها انفجرت بكامل قوّتها وخطورتها في الأشهر الأخيرة، وتحديدًا منذ أعلنت الحكومة الحاليّة ( حكومة اليمين بالكامل يمين- يمين) سنّ تشريعات تقزِّم الجهاز القضائيّ، وتكرس سيطرة السياسيين من اليمين والمتديّنين على المحاكم والتعيّينات ومراكز اتّخاذ القرار، إضافة إلى تشريعات تمّ تفصيلها على مقاس رئيس الحكومة المتورّط حتى العنق في محاكمة جنائيّة، ومقاس وزراء تمّت إدانتهم بتهم جنائيّة تحمل وصمة عار تمنعهم حسب القانون الحاليّ من العودة إلى استلام مناصب وزاريّة، لكن حكومة نتنياهو تريد إعادتهم فعملت على تغيير قواعد اللعبة بشكل أحادي الجانب، وعبر دوس المعارضة والجهاز القضائيّ، وجعل السلطتين القضائيّة والتشريعيّة مطية لأهواء السياسيّين، دون أن يكون للقضاء كلمته.
الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ، بل إن ما يجري من تصرّفات للحكومة الحاليّة، يأتي تعبيرًا عن مرحلة جديدة تعيشها إسرائيل، ملخصها محاولات لتحويل الصهيونيّة والتي كانت حركة علمانيّة أقامت دولة أرادتها عصريّة وديمقراطيّة ومتقدّمة، إلى حركة دينيّة بحتة، بعد 75 عامًا تراوحت إسرائيل فيها بين الديمقراطيّة اليهوديّة. وهي حالة تكون الدولة فيها مؤسّسة تعمل لصالح كافّة مواطنيها على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم، ودون أيّ اعتبار للانتماء العرقيّ والمدنيّ والآيديولوجيّ والسياسيّ، أو اليهوديّة الديمقراطيّة وصولًا إلى اليهوديّة ودولة اليهود فقط، وهي دولة تحكمها الشريعة وتعاليم التوراة تميِّز ضدّ الأغيار، بل ضدّ من لا يتبع تعاليم التوراة من اليهود أنفسهم، ومن لا يعتنق التوجّهات اليمينيّة المسيحانيّة الخطيرة والمتزمّتة، ومن لا يؤمن بأن أرض إسرائيل بما فيها الضفة الغربيّة، وربما غزة وبعض الدول العربيّة هي هبة من الله للشعب اليهوديّ، وإن على إسرائيل أن لا تهتم بما يقوله الغير، حتى لو كانت دولًا صديقة وحليفة، ومنها الولايات المتحدة، وهو ما جاء جليًّا في حديث لأحد أقطاب اليمين الاستيطانيّ اليمين المتديّن هو عضو البرلمان السابق موشيه فيجيلين قائد حركة المعارضة للانسحاب من طرف واحدٍ من قطاع غزة عام 2005، وحركة "هذه بلادنا" (زو أرتسينو بالعبرية)، قال فيه إن إسرائيل تعيش اليوم مرحلة جديدة أسماها مرحلة" تنفيذ وتطبيق الأهداف"، أي مرحلة إيجاد المسوّغات للوجود القوميّ والوطنيّ وصبّ المضامين فيه، وإقامة دولة اليهود في أرض إسرائيل التوراتيّة، بما في ذلك الاستيطان في كلّ بقاع البلاد والضفة الغربية، وتطبيق تعاليم وشرائع التوراة، واقتصار خيرات البلاد على اليهود، وهي مرحلة تعني أن إسرائيل تخلّصت من إملاءات العالم ومن محاولة بعض الدول " فرض صيغة ما عليها وتعريف هويتها" ، وذلك بعد أن كانت منذ إقامتها عام 1948 في مرحلة " صراع البقاء" أي الرغبة في بناء الدولة، لتقف على قدميها بكلّ ما يعنيه ذلك من " أخذ بعين الاعتبار" لمواقف الدول في العالم وقرارات المؤسّسات الدولية وغيرها، وهي حالة تغذيها الحقيقة الواقعة أن إسرائيل هي دولة تفتقر إلى " الإرث أو الميراث الديمقراطيّ والسياسيّ"، فهي دولة حديثة العهد، كما أنها دولة ينعدم فيها الدستور ، كما أنها دولة أقيمت دون أن تتّفق الفئات المشاركة في إقامتها على صيغتها المرجوة، وربما اخفت بعض المجموعات نواياها الحقيقيّة دينيّة كانت أم سياسيّة توراتيّة مسيحانيّة متزمّتة، أم اقتصاديّة قبلت الاشتراكيّة على مضض، لكنها كانت طوال السنين تضمر في نفسها السعي نحو الرأسماليّة والسوق الحرَّة، كما تغذيها التصرّفات العنجهيّة، أو " الاستقواء الأعمى" الذي يميِّز الحكومة الحاليّة. وهي حكومة متزمّتة دينيًّا متطرّفة سياسيًّا، مسيحانيّة التوجّهات. وهي عوامل تعني بالنسبة لجماعات المركز واليسار الدليل على أن الحكومة الحاليّة تريد كسر التفاهمات واجتياز الخطوط الحمراء، وهدم أسس النظام الديمقراطيّ، وتحويل إسرائيل إلى دولة توراتية منغلقة، تعمل القوى الظلاميّة فيها على ابتلاع كافّة الموارد، وتحديد السياسات والتوجهات ودوس أصحاب التوجّهات اليساريّة، أو حتى المركز وإحداث كارثة ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، وهو ما دفع هذه الفئات إلى الوقوف منذ ثمانية أشهر في وجه الحكومة والتشريعات والتظاهر أسبوعيًّا ضدّها وما دفع بعض قادتها، من العسكريّين السابقين والأكاديميّين، إلى تأكيد تأييدهم للحركة الاحتجاجيّة، التي ترفض التشريعات وتؤكّد أنها تلحق بإسرائيل، كما قلّت كارثة اجتماعيّة، وتحولها إلى دولة طوائف وفئات يفصلها من الخلافات والاختلافات والعداوات الكثير الكثير ما قد يوصلها إلى " أن يرفع الأخ يده ليضرب أخاه"، أي إلى حرب أهلية ، أكثر ممّا يجمعها من عوامل كشعب واحد فتتته الحكومة الحاليّة إلى مذاهب ومجموعات وطوائف متعادية متناحرة.
" الاختلاف الطائفيّ والدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ"
وفي خضم الخلافات الداخليّة الإسرائيليّة حول الانقلاب القضائيّ، وفي محاولة للتحذير من أخطاره، يتكرّر ذكر اسمي دولتين أوروبيّتين شهدتا انقلابات قضائيّة مشابهة، وهما بولندا وهنغاريا (التي يحكمها فيكتور أوربان، الصديق المقرب لبنيامين نتنياهو)، ولكن من يكرّر هذه الأسماء يتناسى حقيقة واقعة وهامّة قوامها الاختلاف، أو التناقض الكبير والتنوّع السكانيّ والطائفيّ والدينيّ والأيديولوجيّ في إسرائيل، وبالتالي فإن إيراد اسم بولندا، أو هنغاريا، كنوعٍ من رفع رايات التحذير لا يعكس الصورة الحقيقيّة، فهناك ورغم الاختلافات لم تواجه أيّ من الدولتين خطر التفكّك، أو الانقسام الداخليّ إلى دولتين أو أكثر، فالروابط هناك كثيرة دينيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، أمّا إسرائيل فهي دولة يسودها الاختلاف الطائفيّ والدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، خاصّة بين العلمانييّن الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الدولة ومَن أسّسها، فهم أصحاب رأس المال والشركات والمؤسّسات، وهم العمود الفقريّ للجيش الذي يحمي هذه الدولة، والذي يخلو من المتديّنين، الذين ، بحسب رأيهم، يستنفدون خير البلاد، ولا يقدّمون شيئًا، وفق رأي العلمانيّين ، بينما المتديّنون في المجتمع الإسرائيليّ يدّعون أنهم هم سبب وجود هذه الدولة، فالقاعدة التي قامت عليها الدولة وفق إيمانهم هي الكتب الدينيّة، التي يدرسها هؤلاء المتديّنون ، وهم الأحقّ في الدولة التي يريدونها أن تعتمد الشريعة التوراتيّة، ومثلهم اليمين الاستيطانيّ من التيار الصهيونيّ المتديّن الذي يشغل مؤيّدوه مناصب مرموقة مثيرة للغاية في السلطة عامّة والجيش عامة، كما أنهم يعتبرون أنفسهم فوق الشرعيّة والقانون ، ومن حقّهم إعادة صياغة قوانين الدولة وفق قناعاتهم، ما دام أنّهم يمثلون الأغلبية، وبالتالي فإن الشرخ الذي تشكّله الخلافات العميقة حول الانقلاب القضائيّ، يحتِّم إيجاد مقاربة أكثر واقعيّة أي إيجاد دولة قد تصل إسرائيل إلى ما وصلت إليه الدولة الأخرى، كما قال الصحفي الأمريكيّ الشهير توماس فريدمان الذي أقام في إسرائيل لمدّة أربع سنوات وولدت ابنتاه في مستشفياتها في مدينة القدس، الذي يقول إن المقارنة لا يجب أن تكون مع بولندا وهنغاريا، بل مع دولة مجاورة لإسرائيل هي لبنان، ولها قواسم مشتركة كبيرة مع إسرائيل من حيث التعدديّة الطائفيّة وتعدّد الانتماءات والولاءات، ناهيك عن كونهما دولتين صغيرتي الحجم والتعداد السكانيّ، وبالتالي يمكنهما فقط أن تعيشا بسلام داخليّ، إذا تمّ تطبيق المبدأ القائل:" عش كما تريد ودعني أعيش كما أريد "، لكن ما يحدث في إسرائيل اليوم هو النقيض لهذا المبدأ ، بل إنه حالة يمكن تلخيصها بأن الائتلاف الحالي بكلّ مركّباته يتصرّف وفق مبدأ" الآن حان وقتنا كي نلتهم " ، فرغم أن الحكومة الحاليّة وصلت الحكم بفارق 30000 صوت فقط، إلا أنها تحمل أجندة ملخّصها أنهم يريدون التهام السلطة والوظائف والميزانيات وغيرها، وهي أجندة تؤدّي في دولة صغيرة الحجم إلى زعزعة بل هدم المؤسّسات وأجهزة الحكم والسلطة بالكامل، حتى لو كان الثمن تفكيك أواصر الدولة وتقسيمها وشطرها إلى دولتين ( إسرائيل ويهودا كما يقترح البعض)، أو مناطق نفوذ لا تحترم السلطة المركزيّة، بل تتحوّل إلى عدّة كيانات وأكثر من سلاح واحد، كما يحدث في لبنان، ويختتم قائلًا:" الخطر هو أن تنقسم إسرائيل، وأن تتحوّل إلى لبنان. لنتذكر هنا ما هو اسم الحزب الذي يتحمّل في لبنان أكثر من غيره مسؤوليّة الانقسام الداخليّ الطائفيّ والسياسيّ والجمود، أو حتى الشلل الدستوريّ، أنه "حزب الله" فما هو الاسم الذي يمكن إطلاقه على الأحزاب بين بن غفير وسموتريتش واليهود الحريديم المتزمتين. "إنهم حزب الله"...كما يقول توماس فريدمان.
ما سبق يتّفق وما جاء في رسالة تحذير وجهها الملياردير رون لاودر رئيس الكونغرس اليهوديّ العالميّ الذي قال إن إسرائيل تواجه أخطارا خارجيّة ثلاثيّة الأطراف هي إيران وحزب الله والنزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، لكنها تواجه ثلاثة أخطار داخليّة لا تقلّ خطرًا، بل ربّما تزيد، وهي الانقلاب القضائيّ والاعتماد أو التعلّق التام بالأحزاب الائتلافيّة المتطرّفة قوميًّا ودينيًّا، وهو ما يمنع رئيس الوزراء- كما يقول لاودر- من تنفيذ توجّهاته المحافظة والمعتدلة، والثالث هو التوتّر والعداء بين المجموعات والأسباط في إسرائيل، والذي يتحوّل إلى شرخ عميق، يدفع بإسرائيل إلى دوامة من الخلافات والمواجهات والعداوات الداخليّة لم تشهدها منذ عام 1948، تقترب من الحرب الأهليّة، وللتأكيد يستشهد لاودر بالقول الشهير للرئيس الامريكي أبراهام لينكولن حول الحرب الأهليّة الأمريكيّة حين قال:" لن يتمكّن البيت المتصدّع داخليًّا من الصمود أمام الأخطار الخارجيّة"، في رسالة واضحة مفادها أن إسرائيل المنقسمة داخليًّا لن تتمكّن من مواجهة الخطر الخارجيّ، مطالبًا اليهود في الشتات وإسرائيل تعلّم العبر من الماضي المأساويّ للشعب اليهوديّ، والسعي إلى وحدة وطنيّة تكون الضمان للتغلّب على الخطر الوجوديّ متعدّد الجهات، بدلًا من "خراب البيت الثالث"، وهو التعبير المتبع إسرائيليًّا ويهوديًّا لوصف انهيار الدولة اليهوديّة، والذي حدث مرّتين في التاريخ، ويحذّر كثيرون من تكراره ثالثًا.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]
من هنا وهناك
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
أرسل خبرا