الإنسان يُحاول الطيران
يحاول الإنسانُ جاهدًا، منذ عصورٍ غابرة، تقليد باقي المخلوقات الّتي تشاركه الحياة؛ لهذا، فهو يقوم بدراسة وفهم البيئة الّتي تعيش فيها هذه المخلوقات، حيث يغوص في أعماق البحار
صورة للتوضيح فقط kafl- istock
مقلّدًا الأسماك ليكتشف كلّ مجهول، أو يحلّق في السماء مُقلّدًا الطيور.
وقد مرّ الطيران البشريّ بعدّة مراحل، لعلّ محاكاة الطيور هي من أوائلها. فقد اخترع الصينيّون والمصريّون القدامى الطائراتِ الورقيّة مقلّدين الطيور، ذات الأجنحة والذيول. وتروي الروايات أنّ الإغريقيّ أرخيتاس (428-347 ق.م) أوّل من قام ببناء آلة طائرة مدفوعة بالبخار، طارت لمسافة 200 متر، وسمِّيت بالحمامة. وتروي الأساطير أنّ إيكاروس، وهو ابن دايدالوس المعماريّ اليونانيّ الأسطوريّ، طار قبل حوالي 3400 عام مستعينًا بأجنحة من الشمع والريش ثبّتها على ظهره، وأنّه عندما اقترب من الشمس ذاب الشمع فسقط في البحر وغرق.
أجنحة متحرّكة
بعيدًا عن هذه الأساطير تعالوا بنا نعود إلى التاريخ المُدوّن حول الموضوع، وبالذات للتجارب التي أجراها الإنسان على نفسه. فالإنسان يقوم أحيانًا بإجراء التجارب على نفسه من أجل تحقيق الإنجاز العلمي. بدأت المحاولات الحقيقيّة لتقليد الطيور في العصر الذهبيّ للحضارة الإسلاميّة، وتمثّلت بالأجنحة المرفرفة المتحرّكة، لأول مرّة، حين قام العالم المسلم عبّاس بن فرناس (810-887م) بنفسه بتجربة طيران سنة 875م تكلّلت بالنجاح، إلّا أنّ الفشل كان أثناء الهبوط. كان عبّاس مخترعًا وفيلسوفًا ًاومُنجّمًا وفلكيًّا وكيميائيًّا وطبيبًا، قدَّم للبشريّة مجموعةً من الاختراعات والأدوات الّتي لا نزال نستخدمها حتّى اليوم؛ فهو أوّل من استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأوّل من قام بتجربة إنتاج عدسات الإبصار، وابتكر تقنيّة لتقطيع أحجار الكريستال الصلب، وصمّم أوّل ساعة مائيّة عُرِفَت باسم الميقاتة، وصنع آلة لرصد الكواكب والنجوم، كما أنّ إلمامه بعلوم الكيمياء أهّلَه لاختراع آلة الكتابة الّتي تطوّرت فيما بعد إلى قلم الحبر.
كان ابن فرناس يحلم في الطيران؛ ما جعله يدرس ويقوم بتشريح أجنحة الطيور لمعرفة كيفيّة طيرانها. وفي سنة 875م، بعد أن جمع الناس حول قصر الرّصافة في مدينة قرطبة في الأندلس (إسبانيا)، صعد إلى مكان مرتفع بعد أن غطَّى جسمه بالريش المصنوع من الحرير ومدّ له جناحَين وطار في الهواء مسافة بعيدة معتمدًا على قوّته وعضلاته الّتي كما يبدو لم تكن لتفي بغرض الطيران، فوقع على الأرض، وقال أهل زمانه إنّه وقع لأنّه لم يصنع ذيلًا ليستطيع الهبوط.
هذه التجربة في الطيران، بالإضافة إلى علومه في الفلك والرياضيّات والكيمياء كانت سببًا في قيام وكالة الفضاء ناسا بتكريمه وتسمية فوّهة قمريّة باسمه.
المحاولات تستمرّ
كانت بعد ابن فرناس محاولاتُ طيران قام بها العالِم واللغويّ إسماعيل بن حمّاد الجوهريّ (ت. 1003م) وهو بالأصل من فاراب التي تعتبر جزءًا من جمهوريّة كازاخستان اليوم. ففي سنة 1003م جَمَع الناس في الجامع القديم في مدينة نيسابور (في إيران اليوم) وصعد إلى سطح الجامع وضمّ إليه مصراعَي باب، وقال: "يا أيّها الناس إنّي عملتُ في الدنيا شيئًا لم أُسبَق إليه فسأعمل للآخرة أمرًا لم أُسبَق إليه وسأطير الساعة"، وقفز فسقط ومات.
كما أنّ الراهب إيلمر المالمسبوريّ قام بمحاولة طيران بين سنوات 1000-1010م، مثلما فعل ابن فرناس، إلّا أنّه فشل، وكان يقول إنّ سبب فشله هو نسيان وضع ذيل في الجزء الخلفيّ، تمامًا كما ادّعى الناس عندما فشل ابن فرناس في الهبوط.
وقد تأثّر العالم العثمانيّ هزارفن أحمد تشِلبي (ت. 1640م) بما قام به الجوهريّ، وقام بعدّة محاولات طيران شراعيّة، وفي سنة 1632م صعد إلى برج غلاطة في مدينة إسطنبول، وبعد أن كان جاهزًا بالأجنحة الاصطناعيّة استطاع الطيران من البرج ليصل إلى منطقة أوسكودار.
المنطاد والمحرّك
ومع اختراع المنطاد الذي يمكن دفعه للأعالي بالغاز الخفيف، استمرّ الإنسان في تجاربه. ففي تاريخ 1783/11/21م قام الفرنسيّ بيلاتر دي روزيير دي روزيير وصديقه الكونت دارلاند بالطيران بمنطاد الأخوَين جوزيف وأتيين مونجولفييه في غابة بولونيا بالقرب من باريس، حيث قطعا مسافة 8 كم.
استمرّت جهود العلماء في السير نحو فهم آليّات الطيران. ففي سنة 1799م وضع العالِم البريطاني البارون جورج كييلي، وهو من روّاد هندسة الطيران وأبو الديناميكا الهوائيّة، مفهومَ الطائرة الحديثة ثابتة الجناحَين، وقد صمّم أوّل طائرة شراعيّة حملت أوّل طيّار شراعيّ في برومتون ديل سنة 1853م. وهو الّذي اكتشف القوى الأربع الّتي تعمل على الطائرة وهي: الوزن، الرفع، السحب والدفع، وقد تنبّأ بطائرة تعمل بالمحرّك.
وكذلك المهندس الفرنسيّ كليمان آدر الّذي ابتكر طائرة على شكل خفّاش تعمل بمحرّك بخاريّ خفيف اخترعه هو أيضًا، واستطاع التحليق سنة 1890م في الجوّ لمسافة 50 مترًا.
وفي مطلع القرن الميلادي التاسع عشر، وبعد أن أصبح المحرّك جزءًا هامًّا في التقنيات البشرية الحديثة، استخدمه الإنسان في تطوير حلمه الذي راوده على مر الزمان. فقد قام الأخوان رايت (Wright Brothers) سنة 1903م بتجربة في هذا الصدد. كان أورفيل وويلبور رايت يعملان في متجر للدراجات في دايتون بولاية أوهايو الأمريكيّة، وكان أورفيل شغوفًا بالطائرات منذ صغره، وعندما كبر قرأ عن الألمانيّ أوتو ليلينتال (Otto Lilienthal) الّذي صنع في نهاية القرن التاسع عشر الميلاديّ طائرة بلا محرّك على صورة ورقة النبات، وكان اختراعه هذا مصدر إلهام للأخوَين رايت بعد أن علِما أنّه لا يمكن الطيران بلا محرّك. قام الأخوان رايت بعدّة تجارب طيران، وفي السابع عشر من كانون الأول سنة 1903م استطاعا التحليق بطائرتهما في الجوّ لمدّة 59 دقيقة.
نقاط زمنية هامة
يمكننا إجمال تاريخ تطوّر الطيران والمحاولات الّتي كانت في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين بما يلي:
1890/01/29 - أوّل طيران مع كليمان آدر / 300 متر.
1905/10/04 - أورفيل رايت طيران 33 دقيقة بارتفاع 37 مترًا.
1909/07/25 - لويس بلاريو يجتاز بحر المانش 38 كم ب 37 دقيقة.
شباط 1914 - أوّل خط طيران في التاريخ بين سان بيترسبورغ وتامبا- فلوريدا بقيادة أ. يانوس A.yannus
1919/06/15-14 - أوّل طيران عابر قارّات.
1919/07/25 – أوّل طيران عالميّ منظّم.
1927/05/21-20 – أوّل طيران بين نيويورك وباريس.
1927/10/14 – أوّل اجتياز للمحيط الأطلسيّ الجنوبيّ.
أيلول 1930 – أوّل طيران باريس نيويورك بدون محطات – مباشر.
1939/08/27 – أوّل طائرة نفّاثة صنعها هينكل Heinkel في ألمانيا.
1947/10/14 – أوّل طائرة تخرق جدار الصوت.
1976/01/21 – أوّل طيران تجاريّ لطائرة أسرع من الصوت – الكونكورد.
ولكن.. كيف تُقلع الطائرة؟
لم نتحدّث حتى الآن عن الفيزياء! كيف تتمكّن الطائرة من الإقلاع؟ تطرّق العالِم الإنجليزيّ السير إسحاق نيوتون 1642-1727م (Issac newton)، عندما صاغ قوانين الجاذبيّة، للإجابة عن هذا السؤال، قائلًا إنّه لكي تتمكّن أيّة طائرة من الطيران أو الارتفاع عن سطح الأرض يجب على قوّة الرفع فيها أن تتغلّب على قوّة الجاذبيّة، ويجب على قوّة الدفع أن تتغلّب على مقاومة الهواء. الأمر لا يحتاج بالضرورة إلى محرّكات، فهناك أجسام تطير بلا محرّك كالطيور والطائرات الورقيّة والشراعيّة وغيرها، وكما يبدو فإنّ ابن فرناس قد كان مُلمًّا بقانون الجاذبيّة الّذي صاغَه إسحاق نيوتون بعد قُرابة 850 عامًا، وإلّا لما استطاع التحليق في الجوّ. لكن لعلّ ابن فرناس لم يتخيّل أنّ ما قام به قبل حوالي 1150 عامًا قد يكون مصدر إلهام للمخترعين في القرن الحادي والعشرين الميلادي. فقد استطاع النمساويّ بيتير سالزمان - وهو رياضي القفز الجوّيّ- بالتعاون مع شركة بي أم دبليو آي bmwi أن يدخل موسوعة چينيس للأرقام القياسيّة سنة 2021م كأوّل شخص يكمل رحلة طيران ببدلة الجناح (wing suit) الّتي تعمل بالكهرباء، فقد ابتكر سالزمان بدلة الجناح وبمساعدة شركة بي أم دبليو أي استطاع الطيران مرتديًا البدلة المجنّحة.
كما استطاع الفرنسيّ فرانكي زاباتا - وهو مخترع اللوح الطائر النفّاث- الطيران على لوحه الطائر النفّاث المعروف بالفلايبورد وعبور المضيق البحريّ المانش بين فرنسا وبريطانيا بارتفاع 20 مترًا وبمدّة 20 دقيقة وقطع مسافة 35 كم.
وفي نوفمبر سنة 2019م، استطاع المخترع البريطانيّ ريتشارد براونينغ والمشهور بالرجل الحديديّ دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسيّة بعد أن طار ببدلته النفّاثة (jet suit) بسرعة 136 كم/ساعة.
شركات الطيران اليوم
بعد النجاح الّذي حقّقه الأخوان رايت، ظهرت عدّة شركات لتصنيع الطائرات، نذكر منها على سبيل المثال: شركة إرنست هاينكل الألمانيّة، وشركة لوكهيد مارتن الأمريكيّة الّتي صنعت الطائرة الحربيّة إف 16 فايتينغ فالكون، وشركة ماكدونيل دوغلاس الأمريكيّة وبومباردييه الفرنسيّة الّتي تُعتبَر ثالث أكبر شركة تصنيع طائرات في العالم بعد شركة بوينغ (Boeing) الأمريكيّة وشركة إيرباص (Airbus) الأوروبيّة، وغيرها من الشركات العالميّة.
تسيطر اليوم شركتا بوينغ وإيرباص على سوق الطائرات العالميّ، حيث دمجت شركة إيرباص الأوروبيّة جميع المصنّعين الأوروبيّين وفي المقابل استحوذت شركة بوينغ على منافسها الرئيس ماكدونيل دوغلاس؛ ولهذا فإنّ الشركات المصنّعة الصغيرة عاجزة عن منافسة هاتين الشركتين.
ولكنّ هذه السيطرة قد تتزعزع قريبًا، لأنّ شركة كوماك الصينيّة المملوكة للدولة على وشك الحصول على علامة تجاريّة بعد أن أنهت مهامّ الاختبار لبدء العمل في المجال التجاريّ لطائرتها الجديدة من نوع C919، وبهذا فإنّ مستقبل الطيران قد يدخل مرحلة جديدة من المنافسة الصينيّة الأمريكيّة الأوروبيّة.
الطيران المستقبليّ
الاختراعات في مجال الطائرات وتحسين قدراتها ما تزال مستمرة، ولن نحيط بها جميعًا في هذه المقالة. لكن لا بأس إطلالة سريعة على هذا العالَم من الاختراعات. فقد قامت شركة PHARCTYL لإنتاج الطائرات الكهربائيّة بتطوير طائرة تعمل بنظام "إقلاع وهبوط عموديّ تقريبًا" Near Vertical Take-Off and Landing ( NVTOL).، لحلّ مشكلة التنقّل البريّ والجوّيّ في إفريقية، والطائرة تشبه العصفور وتتسع لشخص واحد، تقطع مسافة 150 كم، بحمولة قصوى 150 كغم، وسرعة تصل إلى 180 كم/ساعة. ورغم أنّها لم تحظَ ببراءة اختراع حتى الآن فإنّها قد تكون قيد الاستخدام خلال الأعوام القريبة بعد التحقق من سلامة استخدامها، وقد يكون رجال الأعمال هم من أوائل من سيحصلون على هذه الطائرة. وهناك محاولات لإنتاج طائرات بدون أجزاء متحرّكة.
وقد استطاعت شركة BAE البريطانيّة المتخصّصة في المجال العسكريّ اختراع طائرة بدون طيّار "درون" أطلق المطوّرون عليها اسم "PHASA -35" تعمل بالطاقة الشمسيّة يمكنها البقاء في الجوّ لأشهر وهي أشبه بالقمر الصناعيّ، وقد تكون مُتاحة للعمل بحلول سنة 2025م. كما قامت شركة هيونداي بكشف النقاب عن سيّارة كهربائيّة طائرة مصنوعة من البلاستيك المُقوّى ومستوحاة من الفراشات، تحمل خمسة مسافرين وتستطيع التحليق في الجوّ، ومن المتوقّع أن تتوفّر في الأسواق بحلول سنة 2028م.
قد تكون محاولات الطيران الّتي قام بها العالم المسلم ابن فرناس قبل ما يقارب 1150 عامًا بدائيّة وبسيطة، لكنّها كانت مصدر إلهام للكثير من العلماء والمخترعين في عصرنا الحاضر الّذين قد اخترعوا طائرات متطوّرة بعد أن توفّرت لديهم الإمكانيّات والتكنولوجيا الحديثة. وقد تكون المحاولات الحاليّة مصدر إلهام للأجيال القادمة.
* معهد دافيدسون
من هنا وهناك
-
مقال: هل أمريكا العظمى في طريق الانهيار مثل الاتحاد السوفيتيّ ؟ بقلم : المحامي زكي كمال
-
هدنة الشمال : هل ستكون لغزة ‘ نافذة النجاة ‘ ؟ بقلم : علاء كنعان
-
التّراث الفكريّ في رواية ‘حيوات سحيقة‘ للرّوائي الأردنيّ يحيى القيّسي - بقلم : صباح بشير
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب في بانيت : حتى نلتقي - ممالك وجمهوريات
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
أرسل خبرا