الحكومة الإسرائيليّة الجديدة تزرع ريحًا فهل تحصد عاصفةً؟
لم نكن بحاجة للانتظار والترقّب كثيرًا، لاكتشاف نوايا الحكومة الإسرائيليّة الجديدة، أو حتى بعض نواياها خاصّة على ضوء هويّة منفِّذ هذه النيّة، وهو الوزير إيتمار بن غفير وزير الأمن القوميّ الإسرائيليّ،
المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت
كما لم نكن بحاجة لبذل أدنى جهد، لمحاولة قراءة رسائلها السياسيّة والعسكريّة والدينيّة والقوميّة المتطرّفة، أو حتى قراءة العنوان، انطلاقًا من القول الدارج إن الرسالة تُقرَأُ من عنوانها، بل أصرّت على كتابة العنوان على جدار السياسة العالميّة والإقليميّة والإعلام العالميّ عامّة والإسرائيليّ خاصّة بأحرف يأمل الجميع أن لا تكون من نار، وأن لا ينطبق عليها القول "سبق السيف العذل"، حتى جاءت زيارة إيتمار بن غفير الى الحرم القدسيّ الشريف صبيحة يوم الثلاثاء، الثالث من كانون الثاني، والتي رغم مدّتها الزمنيّة القصيرة، والتي استمرت 18 دقيقة، مخلّفة هزّات وارتدادات عالميّة خارجيّة عكستها وعبّرت عنها رسائل الشجب الأمريكيّة والأوروبيّة والعربيّة والإسرائيليّة الداخليّة يرافقها صمت من على رؤوسهم الطير في الائتلاف الحكومي الجديد. لا يمكن اليوم التنبؤ بمعانيها وتأثيراتها وأبعادها المستقبليّة التي قد تصل وفق تحذيرات مسؤولين أمنيّين كبار في إسرائيل حدّ القول المشهور"18 دقيقة غيَّرت مجرى التاريخ"، والتي تحدّثت عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وهدم مبنيي مركز التجارة العالميّ في نيويورك. وأقول هذا رغم الهدوء الحاليّ الذي يسود الضفة الغربيّة والقدس وغزة والدول العربيّة، وهو هدوء يدفع بالبعض إلى الاعتقاد والادّعاء ربما خطأً أن الزيارة تمّت، وأن الدنيا لم تقم ولم تنقلب رأسًا على عقب، وهي ادّعاءات ليست جديدة بمجملها ومعناها، وأقصد كونها تعكس أحيانًا كثيرة العمى الأمنيّ الإسرائيليّ، أو التقديرات الخاطئة الأمنيّة وغيرها. والأمثلة كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر التقييمات الاستخباريّة والأمنيّة الإسرائيليّة التي قالت ساعات قبل اندلاع حرب أكتوبر 1973 أن احتمالات نشوبها قريبة من الصفر، والأحداث الدامية والمواجهات التي شهدتها القدس والضفة الغربيّة عام 1996 عندما قرّرت حكومة إسرائيل، برئاسة بنيامين نتنياهو رئيسها اليوم، تدشين وافتتاح ما يعرف إسرائيليًّا بالاسم "أنفاق الهيكل"، ويعتبره الفلسطينيّون بداية انتفاضة الأقصى الثانية (انتفاضة النفق) في 1996/9/23، والتي شهدت مواجهات عنيفة راح ضحيّتها 51 فلسطينيًّا، وأصيب 300 آخرين ومقتل 18 جنديًّا إسرائيليًّا عقب إعلان سلطات الاحتلال عن فتح النفق المجاور للجدار الغربيّ للمسجد الأقصى يوم الإثنين 23.9.1996 استنادًا إلى " معلومات استخباريّة جزئيّة، وبشكل انتقائيّ مقصود ادَعَّت أن فتح الأنفاق لن يؤدّي إلى أي ردّ فعل ، وهو ما حصل خلال زيارة رئيس وزراء إسرائيل أرييل شارون المسجد الأقصى المبارك في 2000/9/28، بداية انتفاضة أكتوبر 2000 ومصرع 13 مواطنًا عربيًّا إسرائيليًّا برصاص الشرطة، وغيرها.
قد يقول قائل إن ما سبق فائت لأوانه، وإن الحديث يدور عن زيارة عابرة، وعن حكومة ما زالت تعاني مخاض الولادة ووزراء لم يذوِّتوا بعد الفارق الواضح والصارخ والمستوجب بين المسؤوليّة الوزاريّة والغوغائيّة الانتخابيّة وغير ذلك، فها هي الزيارة انتهت بهدوء وتمّت حتى دون مواجهات، وليس ذلك فحسب، بل إنها كانت "نجاحًا إسرائيليًّا تمويهيًّا" يؤكّد قدرة أجهزة الأمن الإسرائيليّة ومنها الشاباك والموساد على خداع الجميع وضمان توقيت مفاجئ، فهذا ما نقشه الموساد على رايته "دون التحايل سيسقط الشعب، ولن تنفذ حروبك، ولن تحقق فيها النجاح والخلاص"، وهو قول يعبّر عن أبسط تعبير عن رؤية ضيّقة للأمور والابتعاد عن الجوهر مكتفيًا بالقشور، واتّباع سياسة الانتظار فإمّا أن يموت الذئب أو تفنى الغنم، وهو فوق كلّ ذلك يشابه العمى الأمنيّ الذي يصيب أحيانًا كثيرة دولًا، أو حكّامًا يعتقدون أنهم الحاكم الأوحد، وأن سياساتهم والتي ربّما قوبلت بالصمت إلى حين، ستبقى كذلك متناسين القاعدة الفيزيائيّة البسيطة إن لكلّ فعل ردّة فعل مساوية له في المقدار معاكسة له في الاتّجاه. لكنّ هذا الادعاء في جوهره الخطير يشكّل تجاهلًا غير مقصود في أسوا الأحوال للأسئلة الحقيقيّة والخطيرة التي تطرحها هذه الزيارة، وتغاضيًا مقصودًا بل انتقائيًّا في أحسن الأحوال ينظر إلى الأمور بسطحيّة مقلقة، هي صفة أنظمة الحكم الدكتاتوريّة الشخصيّة، أو تلك التي تشكّل تعبيرًا عن المزج الخطير بين الأصوليّة الدينيّة والتطرّف في النزعة القوميّة، والتي تعتقد أن تنفيذ "الأوامر الإلهيّة" هو الهمّ وليأتي من بعدها الطوفان، ومن هنا فإن الأسئلة التي تثيرها هذه الزيارة خاصّة تلك على المدى البعيد، هي التي تحدّد خطورة الزيارة ، وما الردود العالميّة والإقليميّة الغاضبة إلا نذير على ذلك، فالأمر يتعدى "الحالة العينيّة الآنيّة" أي أنه يتجاوز الزيارة كحدث زمنيّ - وليس الجانب السياسيّ والدينيّ والعالميّ - ويطرح أسئلة كثيرة، أولها يستوجبه كلّ ما دار من مناقشات حول الزيارة بمشاركة الأجهزة الأمنيّة، ومنها الشرطة التي تحوّلت في ظلّ بن غفير كوزير للأمن القوميّ إلى مخلوق سياسيّ غريب عجيب. لم أعتقد للحظة واحدة أنه سيجرؤ بعد حملة الترهيب والتخويف التي عاشها قادته وبضمنهم المفتش العامّ كوبي شبيتاي، منذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانيّة، ورغم محاولات الاسترضاء والاستعطاف والتقرب والتزلّف، بأن يؤكّد خطأ الزيارة، بل خطورتها، فالوزير بن غفير هنا فيه الخصام وهو الخصم والحكم. والسؤال هنا هل ستتحوّل الشرطة، ويبدو أنها تحوّلت، إلى شرطة تخدم وزيرها وأجنداته التي يعكسها الاسم المبتكر لوزارته، والتي تحوّلت من "الأمن الداخليّ "، أي من وزارة للحفاظ على أمن كافّة مواطنيها الذين يعيشون داخلها ومنهم العرب أيضًا وفلسطينيي شرقي القدس، إلى وزارة تحفظ "الأمن القوميّ لليهود فقط" دون أيّ اعتبار لحقوق الغير من المواطنين، ودون أن تأبه لنتائج، أو تبعات تصرّفات وخطوات وزيرها الحاكم الوحيد الآمر الناهي الذي شرعنت له الكنيست الإسرائيليّ السيطرة السياسيّة على الشرطة، ومنحته حقّ اتّخاذ قرارات عملياتيّة كانت حكرًا حتى اليوم على المستوى والهيئات المهنيّة في الشرطة، إضافة إلى أسئلة عديدة أوّلها من هو صاحب القرار في الحكومة الجديدة، وهل هو إيتمار بن غفير- وهو ما سيكون على أغلب الظن- أم بنيامين نتنياهو الذي لم يكد يجفّ الحبر على لقاءاته الصحفيّة المكتوبة والمتلفزة، وكلّها بالإنجليزيّة، التي حاول خلالها طمأنة الراي العامّ العالميّ والإدارة الأمريكيّة والحكومات الأوروبيّة، أنه هو من سيحدّد تصرفات وتحرّكات وزرائه، وأن تصريحاتهم في المعارضة، أو خلال الحملة الانتخابيّة ستذهب أدراج الرياح، فلكل مقام مقال. وأن السياسة التي يحدّدها هو، ستكون ملزمة للجميع. يضاف إلى ذلك مقال بالإنجليزيّة لوزير الماليّة الجديد بتسلئيل سموتريتش حاول فيه العزف على نفس الوتر قائلًا للعالم:" لا تخافوا منا فنحن نتحلّى بالمسؤوليّة. امتحنوا أفعالنا وليس أقوالنا". وهو ما يتزامن مع مرور ثلاثين عامًا على نفس القول من رئيس الحكومة الإسرائيليّ إسحق رابين الذي قاله بعد انتصار حزبه في حزيران 1992:" أنا سأقرّر، أنا سأُحدّد السياسات، وأنا سأحدّد وجهة الحكومة وسأقود دفّتها"، ففعل ذلك رغم المعارضة الشديدة الداخليّة في حزبه والخارجيّة، وصولًا إلى اتفاقيات أوسلو التي لم تكتب لها الحياة رغم النوايا الطيّبة حولها، كما تطرح الزيارة أسئلة ربما لا تقلّ أهميّة إن لم تزِد، حول السقف الذي ستصل إليه إسرائيل في ضرب عرض الحائط القرارات الدوليّة والاتفاقيّات التي وقعتها هي، ومنها اتفاقيّة السلام مع المملكة الأردنيّة الهاشميّة التي تؤكّد الوصاية الهاشميّة الحصريّة والتامّة على الحرم القدسيّ الشريف والتزام إسرائيليّ برعاية أمريكا (اتفاقيّات وادي عربة) بمنع أيّ تغيير للوضع القائم في المسجد الأقصى، وهو نقيض ما فعله بن غفير، وما يعلنه من سعي إلى تقسيم مكانيّ وزمانيّ للحرم القدسيّ الشريف، ليصبح نسخة ثانية من الحرم الإبراهيميّ الشريف في الخليل حيث يقيم بن غفير في البؤرة الاستيطانيّة اليهوديّة هناك معلنًا تقديسه لباروخ غولدشتاين الذي قتل عشرات المصلين المسلمين خلال سجودهم في مذبحة الحرم الإبراهيميّ الشريف معتبرًا إيّاه شهيدًا وقدّيسًا. هذا ناهيك عن الأسئلة التي يجب أن تقضّ مضاجع كلّ إسرائيلي أولًا وقبل كلّ شيء، حول ما إذا كان نتنياهو المتورّط من عنقه حتى أخمص قدميه، بلوائح اتهام جنائيّة خطيرة، قادرًا بحكم ضعفه المذكور، وحاجته البائسة إلى بن غفير وسموتريتش لضمان ائتلافه وربما حبل نجاته من السجن، قادرًا على وضع الحدّ لنهم شركائه الائتلافيين الذين أثبتوا علو كعبهم عليه خلال المفاوضات الائتلافيّة، فحقّقوا كافّة مطالبهم، وأجبروه على سنّ القوانين التي يريدونها وكلّها شخصيّة تمّ تفصيلها بمقاسهم ووفق مواصفاتهم. وهل يدرك نتنياهو بحدسه السياسيّ المعروف بوضوحه وحدّته ذلك، أي هل يدرك أنه سيُقاد إلى حيث يريد الشركاء (وهم أقرب إلى الأعداء منهم إلى الشركاء)، وأنه لن يتمكن من القيادة، فإذا كان لا يدري فهي مصيبة، لكنّه يقينًا يدري ويوافق وبالتالي فالمصيبة أعظم.
"القادم أسوأ"
صمت أهل القبور السائد في الحكومة الجديدة، والذي ضرب أرقامًا قياسيّة غير مسبوقة، حيث لم يتطرّق رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو خلال جلسة الحكومة الرسميّة الأولى إلى الزيارة، وكأنها في عالم نتنياهو الافتراضيّ لم تحدث. وهو الذي كانت مصادر مقرّبة منه قد تباهت بأن بن غفير أجّل زيارته للحرم القدسيّ الشريف بناءً على طلب من نتنياهو (الكبير والعاقل) أما اليوم فتغيّرت الرواية ليدعي الليكود أنه بعد التشاور مع المسؤولين الأمنيين، لم يطلب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من بن غفير عدم دخول الحرم القدسيّ (هل طلب منه التحايل على العالم أو التذاكي وفق التعريف الإسرائيليّ المتبع) ، لتتم الجلسة بعد أن "اهتمّت" بأمور أخرى منها ضمان طواقم قضائيّة تستبدل المستشارة القضائيّة للحكومة، لتمثيل الحكومة أمام محكمة العدل لعليا في الالتماسات المقدّمة ضد تعيين أرييه درعي وزيرًا، رغم إدانته أكثر من مرّة بتهم جنائيّة تحمل وصمة العار، وتعهّده بالتنحّي من الحياة الوزاريّة مقابل الاكتفاء هذه المرّة بسجنه مع وقف التنفيذ، رغم سجنه في السابق 7 سنوات بنفس التهمة، وهي الرشوة وخيانة الائتمان ومخالفات ماليّة وضريبيّة وغيرها. وهي أمور يبدو أنها، استمرار لما سبق، وفي عرْف نتنياهو وحكومته، أهمّ من اقتحام الحرم القدسيّ الشريف بتبعات ذلك السياسيّة والدبلوماسيّة والأمنيّة والدوليّة والإقليميّة. وهي حالة تثير التساؤلات خاصّة على الساحة الدوليّة، حول مدى قدرته لقيادة إسرائيل في ظلّ التركيبة المخيفة والمتزمّتة دينيًّا وسياسيًّا وقومجيًّا لحكومته، وهو بذلك ربما كسر عصاته من أوّل غزواته،، بخلاف الساحة السياسيّة الإسرائيليّة الداخليّة التي اعتادت على أن نتنياهو كلّما وقع الفأس بالرأس يواصل التصرّف كالمعتاد، فهو في كلّ حالة كهذه كتمثال القرود الثلاثة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلّم، ولوائحه الجنائيّة وأمواله التي حصل عليها كقروض غير قانونيّة تشهد على ذلك وفوقها قضيّة الأموال التي حاولت عقيلته سارة الحصول عليها بشكل غير قانونيّ كمصروفات لمنزلها الخاصّ، وألزمتها المحاكم بإعادتها. وما ردود الفعل الدوليّة على خطوات الحكومة الجديدة وتصريحات وزرائها إلا الدليل على أن "أوّل الرقص حنجلة"، وأن "القادم أسوأ"، فها هي الولايات المتحدة التي عادة ما تنتهج الدبلوماسيّة والحذر في ردودها تؤكّد أن الزيارة غير مقبولة، وأنها تغيير للوضع الراهن في الحرم القدسيّ الشريف، وأنها تقوّض احتمالات حلّ الدولتين، وهو ما كانت الإدارة الأمريكيّة ممثّلة بوزير خارجيّتها أنتوني بلنكين وسفيرها في إسرائيل توم نايدس، قد أكّدته فور اتّضاح معالم الحكومة الجديدة، ومثله موقف فرنسا والدول الأوروبيّة وموقف الرئيس السيسيّ الذي أكّد أن الاقتحام هو خرق للوضع الراهن وخطوة مرفوضة، وهو نفس السيسي الذي كان هنأ رئيس الوزراء نتنياهو بمناسبة تشكيل الحكومة الجديدة معربًا عن رغبته بتعزيز العلاقات الثنائيّة المصريّة الإسرائيليّة على كافّة الأصعدة، بما في ذلك ما يتعلّق بالتطوّرات الحاصلة في الساحتين الدوليّة والإقليميّة، والترويج للسلام، والاستقرار والأمن لصالح الشعبين وكافّة شعوب الشرق الأوسط.
المملكة العربيّة السعوديّة التي قالت وزارة خارجيّتها إنها تدين هذه الممارسة الاستفزازيّة، واقتحام المسجد الأقصى ( الذي يتمنّى نتنياهو، بل يصلي إلى الله أن تنتقل رعايته من الوصاية الهاشميّة الشريفة إلى محمد بن سلمان، كما تم التخطيط لذلك ضمن صفقة القرن المشؤومة، وما تكشف بعدها من محاولات زعزعة حكم العاهل الأردنيّ الملك عبد الله الثاني). وهي نفس السعوديّة التي يُمني نتنياهو النفس بمصالحتها، وتوسيع دائرة اتّفاقيات ابراهام معها، وها هي الإمارات التي اختارها نتنياهو محطّة لأوّل زيارة رسميّة له بعد توليه منصبه الجديد، والتي أراد منها أن يواصل من حيث أنهى أو توقّف، تعلن تأجيل زيارته لها بسبب اقتحامات بن غفير، مؤكّدة ضرورة توفير الحماية الكاملة للمسجد الأقصى، ووقف الانتهاكات الخطيرة والاستفزازيّة فيه، مع ضرورة الانتباه هنا إلى تشابه، بل تطابق المصطلحات السعوديّة والإماراتيّة، ومثلها الأردنيّة التي جاء على لسان وزارة الخارجيّة فيها أنها "تدين بأشدّ العبارات زيارة بن غفير واقتحامه للمسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف".
المملكة الأردنيّة الهاشميّة كصاحبة الوصاية، والأولى المعنية بقضيّة القدس والأقصى لم تكتف بذلك، بل استدعت سفير إسرائيل فيها إيتان سوركيس لجلسة توبيخ رسميّة محذّرة إياه من مغبّة تكرار الاقتحامات، كما حدث مع بن غفير، بل إن الأردن كان مدركًا للحقيقة والواضحة وضوح الشمس التي لا تغطى بغربال، فالرؤية الثاقبة في هذا السياق من قبل العاهل الأردنيّ وفهمه الصحيح والواضح لمجريات الأمور كانت "واسطة العقد" في لقاءاته المتلفزة والصحفيّة الأخيرة خاصّة مع وسائل إعلام أوروبيّة وأمريكيّة، وكلماته أمام الهيئات الحكوميّة والبرلمانيّة وغيرها في الأردن، فقد حذّر الملك عبد الله الثاني من تجاوز الخطوط الحمراء في القدس، من قبل الجهات المتطرّفة ( وبن غفير كما يبدو في مقدّمتها)، ومن أيّ محاولة لإذكاء الصراع والعنف، مؤكّدًا المقدرة على التعامل مع هذا الأمر، مشيرًا ومحذّرًا بحكم تجربته ورؤيته الواضحة من أنّ استغلال القدس لأغراض سياسيّة يمكن أن يخرج الأمور عن نطاق السيطرة بسرعة كبيرة ، وخاصّة في مقابلة مع قناة "سي إن إن"، حيث جدّد التأكيد على أهميّة الوصاية الهاشميّة، بقوله: "نحن الأوصياء على المقدسات المسيحيّة كما الإسلاميّة في القدس"، معربًا عن القلق من وجود تحدّيات تواجه الكنائس إثر السياسات المفروضة على الأرض، ومن بوادر انتفاضة ثالثة، حذّر من أنها قد تقود إلى "انهيار كامل" مؤكّداً أنّ هذا الأمر لن يكون في صالح الإسرائيليّين ولا الفلسطينييّن، مضيفًا بتلميح أوضح من عين الشمس، إدراكه لما يحاك من محاولات للمسّ بالوصاية الهاشميّة والمسّ بالحرم القدسيّ الشريف، إذ قال :"ستجدين دومًا أشخاصًا يحاولون الدفع باتجاه ذلك، وهذا مصدر للقلق. ولكن لا أعتقد أن هؤلاء الأفراد تحت أنظار الأردن فقط، بل هم تحت أنظار المجتمع الدوليّ. كما تعرفين، وكما نعرف ونقول دومًا، نحن نعيش في منطقة صعبة، وهذا أمر اعتدنا عليه. إذا أراد جانب ما أن يفتعل مواجهة معنا، فنحن مستعدون جيدًا. ولكن أودّ دومًا أن ننظر إلى النصف الممتلئ من الكأس، وفي المقابل، لدينا خطوط حمراء، وإذا ما أراد أحد تجاوز هذه الخطوط الحمراء، فسنتعامل مع ذلك، ولكن ندرك أن الكثير من الجهات في إسرائيل تشاركنا القلق"، وهذا ما تؤكّده وثائق ودراسات تشير إلى أن حكومة نتنياهو وبموجب تصريحاتها المعلنة، ستسعى خلال عام 2023، إلى حسم معركة السيادة على المسجد الأقصى لصالحها، وسحب الوصاية الدينيّة عليه من الأردن.
"انتقادات الشركاء"
والشيء بالشيء يذكر ، فتصرّف بن غفير هذا، واقتحامه المسجد الأقصى أثار عليه، بشكل غير متوقّع من حيث السرعة، انتقادات الشركاء من حركة "شاس" التي يعتنق قادتها الدينيون مبدأ رفض دخول اليهود إلى الحرم القدسيّ الشريف، لكن حتى هذا لم يمنع بن غفير من غرز إصبعه في عين شركائه الائتلافيّين، كما لم تمنعه مواقف شركائه المتديّنين المتزمتين الرافضة للتوجّهات المثليّة( ومنهم يهدوت وديغل هتوراة ونوعام شريكته الدائمة حتى قبل أسبوع وحتى شاس) ، وبالتالي رفضهم العلني، أو قبولهم على مضض العبارات التي تفوّه بها رئيس الكنيست أمير أوحانا من الليكود، وهو مثليّ الميول حين تحدّث عن "شريك حياته وابنيهما" فأخفى الشركاء المتديّنون وجوههم بأيديهم خجلًا وامتعاضًا، ما دفع برفيق درب بن غفير، المتطرّف باروخ مارزل باعتبار مصافحة بن غفير لأوحانا ومعانقته بأنها "تدنيس لكلام الله"، في حالة تعكس حال الحكومة الجديدة، فهي حكومة يفهم جميع الشركاء فيها (مجبر أخوك لا بطل) أنّها فرصة سانحة، بل لقمة سائغة لتنفيذ مآربهم، وما على نتنياهو إلا القبول، وإلا سيكون مصير ائتلافه التفتّت والتمزّق إن لم يجد من طرف بيني غانتس من يسعفه، وبالتالي ستكون حكومة تشبه إلى حدّ بعيد تلك التي تشكّل في بعض الدول الأفريقيّة أو العربيّة، يخدم كلّ وزير فيها نفسه ومصوّتيه وليذهب الباقي إلى الجحيم. فها هي تقرّر رفض الانضمام إلى معاهدة إسطنبول الدوليّة لضمان حقوق النساء" لأن بتسلئيل سموتريتش وبن غفير يخشيان من أن يؤدي ذلك إلى تمكين نساء فلسطينيّات من اللجوء إلى إسرائيل بدعوى الملاحقة العقائديّة والجنسيّة والفكريّة"، أمّا حقوق النساء والتشدّق بمساواتها، وتوزيع صكوك الغفران على الدول العربيّة في ذات السياق، فلتذهب إلى حيث ألقت رحلها، وها هي تلغي الضرائب على المواد البلاستيكيّة لمصلحة اليهود المتزمّتين دينيًّا، ضاربة عرض الحائط بتعهّداتها للبيئة ومتجاهلة التأثيرات الصحيّة والماليّة، وكذلك قضية المشروبات الغازية المحلاة بكمّيات مخيفة ومرعبة من السكر، التي تمّ إلغاء الضرائب عليها، رغم التقارير الصحيّة الخطيرة حول كونها المسبب للسمنة والأمراض، فمصالح الأحزاب الائتلافيّة أهمّ من صحّة الجميع ، لأن مصلحة نتنياهو تتطلّب رضاهم، وبالتالي فهي الحكومة المثاليّة لأحزاب متديّنة ومتطرّفة تستغلّ ضعف نتنياهو وهشاشة وضعه من باب إدراكها أنها لن تحصل في المستقبل على ربع ما ستحصل عليه هذه المرة، وبالتالي فالغاية تبرر الوسيلة، ونتنياهو في اليد أفضل من غانتس، أو لبيد على الشجرة، ولكلّ حزب من أحزابها أن ينهش ما يريد، فهي الفرصة الأخيرة، وهنا السؤال الذي كانت الإجابة عنه واضحة منذ قيام دولة إسرائيل وحتى اليوم: ما مهّمة الحكومة الجديدة أيًّا كانت؟ ليكون الجواب: إحداث التغيير، لكنّ الحال يختلف هنا، فالحكومة الحاليّة كما تؤكّد اقتحام بن غفير للحرم القدسيّ الشريف وقراراتها الماليّة والسياسيّة والاقتصاديّة وصدامها مع الإدارة الأمريكيّة بما يتعلّق بالموقف من الأزمة الأوكرانيّة، والتي كان موقف الحكومة السابقة منها مناوئًا لروسيا متقاربًا مع الموقف الأمريكيّ، ليأتي وزير الخارجيّة الجديد إيلي كوهين، ومن أول غزواته، ليجري اتصالًا هاتفيًّا مع وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف، ما اعتبره الأمريكيّ أنتوني بلينكن اتّصالًا مع من يرتكبون مجازر حرب، وموقفها من الجهاز القضائيّ، وعدم دعوة المستشارة القضائيّة للحكومة للجلسة الرسميّة الأولى خلافًا لكافّة البروتوكولات، والحرب المعلنة على وسائل الإعلام خاصّة من وزير الاتصالات الجديد شلومو كارعي، الذي لم يخف رغبته في إغلاق هيئة البث الرسميّة، لأنها لا ترقص وفق معزوفاته، وكذلك الحرب الشعواء التي يخطّطها وزير القضاء الجديد ياريف ليفين على الجهاز القضائيّ، وطريقة انتخاب القضاة التي يريدها أن تصبح خاضعة للسياسيّين، ووقف الميزانيّات للمواطنين العرب، ووقف مشاريع المواصلات العامّة وغيرها وغيرها، تشير إلى أنّ هذه الحكومة لم تأت لتغير، بل تحديدًا لتدمر ما سبق، وما اتخذته الحكومة السابقة وحتى الحكومات السابقة من خطوات وقرارات، أشبه ما يكون بانقلاب شبه عسكريّ يريد للحكومة السابقة والتي انتخبت ديمقراطيًّا أن تكون أثرًا بعد عين.
"اندلاع نار كبيرة"
هذا هو الخطير فهو يشرعن اتّخاذ كلّ خطوة مهما كانت لمجرد أنها عكس ما أرادت الحكومة السابقة، وإلغاء كلّ خطوة ممتازة مهما كانت اتّخذتها الحكومة السابقة لمجرد أنها كذلك، وإذا ما أضفنا هذا إلى اقتحام بن غفير إلى الحرم القدسيّ الشريف يوم الثلاثاء 3.1.2023، فالسؤال الضروريّ، بل المصيريّ هنا هو: هل هي تعثّرات حكومة حديثة الولادة أم أن أول الرقص حنجلة والقادم أخطر؟، أم أنها كالحرب تبدأ أحيانًا باستخدام أقسى ما تملك من عتاد لإنزال أكبر ضربة استباقيّة ممكنة، أو أنها تبدأ بجسّ نبض يليه الانفجار الكبير، ويبدو أن كافّة المعطيات تصبّ نحو الاحتمال الثاني ما ينذر باندلاع نار كبيرة، هي للأسف الصفة الملازمة لحكم نتنياهو منذ عام 1996 ملخصها الصمت والاستهانة حتى تقع الفأس بالرأس ويبدأ تعداد الضحايا، وإذا كان هذا الحال في حكومات نتنياهو عندما كان في ذروة قوّته، فإنّ القادم هذه المرّة ونتنياهو ضعيف أسير شركائه وطريد قضائه الخائف من قضبان زنزانته، داخليًّا وخارجيًّا وإقليميًّا، حالك وشائك ومرعب، عملًا بقول سعد الدين التقي:" من يزرع الريح يحصد العاصفة"، وإذا كانت هذه البداية وهي عاصفة، فهل ستكون النهاية عاصفة من نار لا تبقي ولا تذر؟ أم أنه تبقت للسياسة والمصالح العالميّة والإقليميّة القوة للتأثير حتى على دولة تحكمها حكومة تشكّلها أحزاب هي مزيج خطير من الزيت والنار، من القوميّة المتطرّفة والنزعة الدينية المتزمّتة والمنفلتة، وفق نصوص توراتيّة يفسّرها حاخامات ويعتبرون أن اليهود الشعب المختار والعالم كلّه، عدوّ لا يريد لكلمة الله (رب اليهود) أن يتم تنفيذها في دولة اليهود؟
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]
من هنا وهناك
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
أرسل خبرا