مقال: قضايا تربوية – حول الأمل والوعي والإرادة والعمل
يكفي أحيانًا موقف واحد كي نعرف جوهر الانسان و"طينته". هذا ما كان مع الاستاذ عاهد فاعور ابن قرية العزير الجليلية الوادعة التي تقع على أطراف سهل البطوف
شرف حسان
وسفح جبل طرعان. هذا الموقف عرفني على انسان بسيط ومتواضع وراق في تعامله ومعلم مهني، ملتزم كل الالتزام لعمله ومخلص كل الاخلاص لطلابه لا يرضى بالظلم ولا يخاف أن يقول كلمة حق ولا يرضى أن يكون في موقع المتفرج حين تفرض الظروف عليه ذلك. عرفت بعدها انه أيضًا فنانًا تشكيليًا يرسم أروع اللوحات من أعماق ذاته ومن وحي الطبيعة والمجتمع. قام بعمل كبير قبل أربع سنوات حين كان معلمًا لموضوع الجغرافيا في مدرسة بئر المكسور الثانوية. خرج مؤخرًا للتقاعد ليبدأ مرحلة جديدة في حياته. أخصص هذا المقال للحديث عن ما قام به الأستاذ عاهد ليعرفها كل معلم ومعلمة وأي انسان في أي موقع يشغله وكي نتذكر ذلك ونتعلم من قصته ونسأل أنفسنا الأسئلة التي يجب أن تسأل المتعلقة بهذه القضية.
كان ذلك في حزيران من العام 2019، قبل حوالي الأسبوع من موعد امتحان الجغرافيا المحوسب الذي اجري بتاريخ 19.6.2019 حين رن هاتفي النقال وكان على الخط الاستاذ عاهد.
قال: وصلت اليك من خلال معلم المدنيات الذي يعرفك من خلال منتدى معلمي المدنيات العرب (المنتدى الذي أقامه معلمو مدنيات عرب بدعم من جمعية حقوق المواطن قبل حوالي 7 سنوات). رحبت به وبزميله فشرع بطرح الموضوع.
قال: يوجد مشكلة. امتحان الجغرافيا المحوسب يجري باللغة العبرية وهذا غير منصف اطلاقًا للطلبة الذين يأتون عادة في هذا التخصص من طبقات مستضعفة وهذا يشكل عائقا امامهم. كذلك هذا يتطلب من معلم الجغرافيا أن يخصص جزء من درسه ليعلم العبرية بدل الجغرافيا.
سألت، بعد أن أبديت موفقة على تحليله: وهل هذا جديدا؟
قال: في الواقع، لي الامر جديدًا فقد بدأت بتعليم موضوع الجغرافيا الموسع حديثًا، لكن هذا الوضع كان موجودًا قبل ذلك.
حينها تساءلت، بنفسي، لماذا لم يطرح أحد من المعلمين أو المسؤولين هذا الموضوع قبل ذلك. عرفنا بعدها من رد وزارة التربية على التماس قدمناه ان هذا الحال قائم منذ 15 عامًا.
مباشرة بعد هذه المحادثة، وبجهود جبارة ساهمت بها المحامية سناء بن بري والمحامية طال حسين من جمعية حقوق المواطن وغيرهما، تم الالتماس لمحكمة العدل العليا (رقم 4069/19 صالح ضد مدير عام وزارة التربية) بمطلب لترجمة الامتحان المحوسب للغة العربية وضمان حق الطلبة العربي بأن يمتحنوا بلغة الأم ولغة شعبهم (تعبير الذي ورد في قرار المحكمة). وافق الاستاذ أن يكون من الملتمسين وكانت احدى طالباته (هديل بلال صالح) من الملتمسات إلى جانب لجنة متابعة قضايا التعليم العربي وجمعية حقوق المواطن.
لقد كشف هذا الالتماس عن غبن كبير تعرض له الطلاب والمعلمين العرب في موضوع الجغرافيا الموسع على مدار 15 عامًا وأظهرت هذه الحادثة مجددًا مدى استهتار وزارة التربية بالعرب (طلابًا ومعلمين ومجتمع).
لم يترجم الامتحان المحوسب كون الالتماس قدم قبيل موعد الامتحان بثلاثة أيام فقط وكان موقفنا ضعيفًا خصوصًا أنه وعلى مدار 15 عاما الذي أجري فيه الامتحان بالعبري لم يقدم اعتراض على ذلك. لكن تعهدت الوزارة بإرفاق مفتاح للخرائط بالعربية للامتحان وكذلك زيادة وقت للطلاب والتزمت بترجمة الامتحان المحوسب في السنوات القادمة للعربية وأكد على حق الطلاب بالامتحان بلغة شعبهم لغة الأم العربية وكانت هذه التعهدات جزء لا يتجزأ من القرار.
ادعت وزارة التربية في ردها أن عدد الكلمات بالعبرية التي يحتاجها الطالب محدودة جدًا وهي ليست مركبة ولا يحتاج الطالب إلى فهم مقروء بالعبرية. الأمر الذي تبين انه لا يمت بصلة للواقع. فلقد زرت مدرسة بئر المكسور في يوم الامتحان للتأكد من أن وزارة التربية نفذت ما التزمت به في المحكمة. فعلًا تم إرسال ملحق للامتحان شمل مفتاحًا للخرائط وترجمة لكافة المصطلحات من العبرية إلى العربية. لكن المفاجأة كانت أن عدد صفحات هذا الملحق وصلت إلى حوالي 30 صفحة شملت مئات المصطلحات التي قد يحتاجها الطلبة في الامتحان المحوسب. هذا الملف كشف أن الوزارة لم تقل الحقيقة في ردها.
موقف أخر للأستاذ عاهد يدل على انسانيته والتزامه قد وصلني من زميلة له وهو متعلق بتعامله مع طالبة كفيفه اختارت أن تتعلم في تخصص الجغرافيا. لقد واجهت هذه الطالبة صعوبة في التعامل مع الأطلس ومع الخرائط خصوصًا أن الخرائط من مركز المكفوفين التي تعتمد على نقاط وخطوط ولغة برايل لم تف بالغرض ولم تلب احتياجات هذه الطالبة اضافة إلى اشكاليات اخرى متعلقة بجودة هذه الخرائط. لم يدع الاستاذ عاهد أمر هذه الطالبة جانبا ولم يكتف بالتعاطف وبمساعدة عادية، ففكر بسبل مساعدتا واجتهد في ذلك. محادثاته مع أصدقاء ومعارف له مكفوفين أظهرت له حب الاستطلاع الكبير لهذه الفئة من المجتمع. بعد أن درس المشكلة وفهمها أبدع حلًا خلاقًا مستغلًا مهاراته في عالم الفن. لقد بنى للطالبة أطلسا خاصا بها تمكنت من خلاله من قراءة الخرائط والتعرف على المحيط القريب والبعيد من خلاله.
هذا هو الاستاذ عاهد. يعمل بهدوء ولكنه يترك بصمات لا تنسى. يستحق كل التقدير وقد قامت لجنة متابعة قضايا التعليم العربي بتكريمه في مؤتمر المعلمين العرب الثاني الذي انعقد في عرابة البطوف وكان تتويجا لنشاطات "عام اللغة العربية والهوية". أتمنى له كل الصحة والخير والابداع في مرحلة تقاعده.
كن مثل الاستاذ عاهد فاعور
قصة الاستاذ عاهد فاعور مع موضوع الجغرافيا أشغلتني كثيرًا وأثارت لدي الكثير من الأسئلة. لماذا لم تطرح مشكلة موضوع الجغرافيا من قبل؟ ربما طرحت بين معلمي الموضوع انفسهم لكن لم تكن محاولات لمعالجتها من خلال مؤسسات حقوقية أو طرحها على لجنة متابعة قضايا التعليم وأطراف "خارجية".
عندما نتأمل تفاصيل هذه الحالة نعي معنى أن يعيش الإنسان واقعًا يتعامل معه كأنه أمر الطبيعة فلا يعي أن هناك خلل ما أو انه يذوّت ان هذا الخلل لا مجال لتغييرة فيكون الصمت سيد الموقف فيتعامل مع الواقع كما هو بالذات عندما يكون في وضعية مستضعفة من حيث علاقات القوى وبانه متعلق كل التعلق بالمؤسسة فربما يكون ثمن للكلام.
هذه القصة تؤكد أهمية الوعي الناقد عند المعلمين/ات الذي يساهم في فهم الواقع واكتشاف الخلل والغبن الذي فيه وهذا اساسيا للانطلاق لتغيير الواقع. لكن الوعي لوحده لا يكفي فقد يتوفر الوعي دون أمل بالتغيير فيعيش المعلم في حالة بائسة من الاغتراب واليأس التي تؤدي في النهاية إلى الصمت والرضوخ واستمرار الوضع القائم.
تغيير هذا الواقع المبني على علاقات قوى ليست لصالحنا ليس بالأمر السهل ولا يتم بعمل ساذج يفترض عدالة المؤسسة والقوى المهيمنة فيها فتبقى الامور "داخلية" بين المعلمين. فالحالة هي حالة صراع ونضال مستمر. التغيير يتطلب من المستضعف أن يعمل على بناء قوته ليكون له دورًا فعالًا في وضعية الصراع وفي عملية النضال لتغيير الواقع.
تجربة تأطير معلمي المدنيات العرب (والتي تبعها تأطير لتربويين من مجالات وقطاعات أخرى) لمواجهة المشاكل الكثيرة والمتنوعة في موضوع المدنيات، كانت نموذجًا ملهما لبناء قوى للمعلمين. فعندما يكون المعلم جزء من تنظيم فهو لا يشعر بأنه يواجه لوحده وامكانيات العمل المتاحة أمام المجموعة هي أكثر بكثير من الامكانيات المتاحة أمام الفرد. فبناء مجتمع معلمي المدنيات العرب كان جزئ من بناء حصانة هذه المجموعة.
والحقيقة أن ما حدث في المدنيات قد ألقى بظلاله أيضا على مواضيع أخرى وما حدث في الجغرافيا هو خير مثال على ذلك. فتجربة معلمي المدنيات وانتظامهم ونشاطات المنتدى الذي أقاموه وعلاقة هذا المنتدى مع مؤسسات مجتمع مدني وخصوصا جمعية حقوق المواطن ولجنة متابعة قضايا التعليم العربي أثبتت أنه يمكن احداث تغييرات معينة هامة بل وضرورية لنا في بعض الاحيان اذا خضنا نضالا وعملا منظما ومهنيا. لذلك كان لحديث معلم المدنيات المطلع على ما يجري في ساحة موضوع المدنيات أثرا على مجرى هذه القصة.
في الختام، أقول للمعلمين/ات، كونوا مثل الاستاذ عاهد فاعور. لا تقبلوا بالظلم واسعوا للعدل ولا تتنازلوا عن حقوقكم.
عندما يكون لدينا معلم مثقف وواع ومسيس ومهني وملتزم، لا قلق فبإمكانه ان يفعل الكثير حتى لو كانت مناهج التعليم وكتب التدريس هي الأسوأ، فهو قادر على ان يحول أسوأ نص إلى فرصة ذهبية لعمل تربوي عميق وناقد فيقلب السحر على الساحر.
ونحن مقبلون هذا العام نحو مؤتمر المعلمات والمعلمين العرب الثالث نسعى إلى تحقيق خطوات اضافية في مشروع تأطير المعلمين/ات العرب في منتديات والتشبيك بينهم وتعميق دور المعلمين في المجتمع بما في ذلك المتقاعدين منهم.
في العمل التربوي وفي النضال لتغيير الواقع يجب أن نأخذ زمام المبادرة ونرى بالمعلمين والمعلمات حلقة اساسية في استراتيجية التغيير.
من هنا وهناك
-
التّراث الفكريّ في رواية ‘حيوات سحيقة‘ للرّوائي الأردنيّ يحيى القيّسي - بقلم : صباح بشير
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
أرسل خبرا