‘ تشريعات المرور بينَ الحَلْبِ والكسب وغياب العدالة ‘ - بقلم : المحامي عماد زايد
تُظهر التجربة العملية الممتدة في ميدان قوانين السير وتطبيقها، وبالنظر إلى الواقع القضائي اليومي في محاكم السير، أنّ المشرّع — أو الجهات المنفِّذة للقانون — باتوا يدركون منذ زمنٍ بعيد أن تشريعات المرور وما يرافقها من منظومة غرامات
المحامي عماد زايد - صورة شخصية
تُشكّل موردًا ماليًا ثابتًا وسهلًا للدولة. وقد تحوّلت بعض هذه الإجراءات، عمليًا، إلى أدوات ذات طابع مالي أكثر من كونها أدوات تنظيمية تهدف إلى تعزيز السلامة المرورية، الأمر الذي يثير تساؤلات جدّية حول المقاصد الحقيقية لهذه القوانين وآليات تنفيذها.
ومن المفهوم ضمناً، وبحكم المبادئ العامة للقانون، أن من يخالف قواعد السير فعليًا بحيث يتسبب بضرر لنفسه أو للآخرين أو للممتلكات الخاصة أو العامة، وضمن إطار إجراء قانوني مهني، منصف وعادل—يجب أن ينال عقابه المستحق وفق معيار المسؤولية والعدالة. فهذه هي الغاية الطبيعية للتشريعات المرورية: حماية الأرواح وصون الممتلكات، وتحقيق الردع الحقيقي ضد السلوكيات الخطرة.
غير أن المعضلة تنشأ حين تُفرَض العقوبة ليس على سلوك خطر أفضى إلى نتائج ضارة، بل على مجرد مخالفة شكلية لم تُخلّف أي أثر فعلي على السلامة الخاصة أو العامة. وهنا يثور السؤال الجوهري:
ما هي المصلحة العامة التي تتحقق من فرض غرامة قاسية على سلوك لم يُسبب أي ضرر؟
إذا كانت الغاية المعلنة خلق الردع وحماية الأرواح، فهل يجوز للسلطة أن تتعامل مع المواطن وكأنه مصدر دخل يُجبى منه المال تحت غطاء الردع والحماية؟ بل إن من يرتاد جلسات محاكم السير يخرج بانطباع مؤسف مفاده أن الجلسة أقرب إلى سوق مساومة مالية منها إلى منصة قضائية لنصرة الحق وتحقيق مبدأي المسؤولية والإنصاف، مع التحفظ التام على التعميم والاحترام الكامل للقضاة. إذ يبدو أن من يصل إلى المحكمة “عليه أن يدفع” — مهما كانت ظروفه أو مبرراته — فالمحصلة النهائية هي تحصيل المبلغ لا أكثر.
ويبرز مثال اقتراح رفع الغرامة على استخدام الهاتف المحمول أثناء القيادة من 1,000 شيكل إلى 10,000 شيكل مع ما يرافقه من تشديدات على السائقين، بوصفه تجسيدًا صارخًا لهذا النهج الصارم وغير المتوازن.
الإطار القانوني وتحليل المشروعية
إن اقتراح مضاعفة الغرامة عشرة أضعاف دفعة واحدة، دون تقديم دراسة مهنية محايدة تبرر الحاجة الماسة والفعلية لهذا الإجراء، يثير تساؤلات عميقة حول مدى احترام مبادئ الضرورة والتناسب—وهما ركيزتان دستوريتان أساسيتان في المنظومة القانونية الإسرائيلية:
1. مبدأ التناسب يلزم السلطة الإدارية باختيار الوسيلة الأقل مساسًا بحقوق المواطن.
2. اللجوء إلى عقوبة بالغة القسوة دون إثبات فشل العقوبات السابقة، مع التحفظ على مشروعية وجودها، في تحقيق الردع، يُعدّ قرارًا تعسفيًا يفتقر إلى المهنية والموضوعية.
وفوق ذلك، فإن تركّز الرقابة في مواقع سهلة—مثل المفارق والتقاطعات—مقابل ضعفها في الطرق السريعة التي غالبًا ما تقع فيها الحوادث الكارثية، يكشف عن فجوة واضحة بين الهدف المعلن (السلامة والردع) والتطبيق الفعلي (التحصيل المالي). هذا التناقض يمسّ بمبدأ المساواة ويقوّض الثقة العامة بشرعية الإجراء.
كما أن فرض غرامة بهذه الضخامة على جميع السائقين دون أخذ القدرة الاقتصادية في الاعتبار يجعلها أقرب إلى ضريبة مقنّعة منها إلى عقوبة ردعية، بما يخالف روح العدالة التي تفترض تناسب العقوبة مع ظروف المواطن.
استغلال التعلّق الإنساني بالهاتف
ولا يمكن إغفال حقيقة أن الهاتف المحمول أصبح جزءًا عضوياً من الحياة اليومية للإنسان المعاصر، حتى بات التعلق به طبعًا إنسانيًا متجذرًا. واستغلال هذا الضعف الطبيعي من خلال رفع الغرامات بهذا الشكل الفاحش يجعل من العقوبة أداة تستفيد من ضعف بشري عام بدل أن تقوم على إصلاح السلوك أو توعية الجمهور، وهو ما يتعارض مع مبادئ التشريع الرشيد وأخلاقياته.
النتيجة
رغم الاعتراف الكامل بخطورة تجاوز قوانين السير وعدم اتباعها واستخدام الهاتف أثناء القيادة وضرورة الحد منها، إلا أن فرض عقوبات مالية ضخمة دون سياسة شاملة تشمل التثقيف، التوعية، تحسين البنية التحتية، وتعزيز الرقابة المهنية الإرشادية بالأساس وليس العقابية، سيؤدي إلى نتائج عكسية، منها:
* اهتزاز ثقة الجمهور بالمنظومة،
* تحويل العقوبة إلى وسيلة جباية بدل أن تكون أداة حماية،
* وإضعاف الشرعية الاجتماعية للقانون.
وعليه، يبدو أن الغاية من قوانين السير وتطبيقاتها العملية ليست دائمًا حماية الأرواح أو بسط الردع، بل قد يتداخل معها — وبشكل لا يمكن تجاهله — هدف تعظيم الإيرادات على حساب المواطن، ولا يخلو الأمر من استغلال ميول بشرية شتى، أبرزها الميل المتجذر تجاه الهاتف المحمول
من هنا وهناك
-
‘رسالة الى الشباب في البطوف وعموم مجتمعنا: إياكم والسوق السوداء‘ - بقلم : عاهد رحال
-
‘الحق يمشي ولو على رمشي‘ – بقلم : هادي زاهر
-
خطاب ديني إصلاحي ‘العودة إلى المشرّع الواحد… وإحياء الدين من منبعه الأول‘ - بقلم: سليم السعدي
-
حكايات نضالية قروية - الكاتب والكتاب | استعراض وتقييم هادي زاهر
-
مقال: نحن أبناء هذه البلاد، عرب مسلمون قبل كل شيء - بقلم : الشيخ صفوت فريج رئيس الحركة الإسلامية
-
قراءة نقدية مُعَمَّقة – بقلم: رانية مرجية
-
مقال: النص القانوني المقترح في الكنيست الاسرائيلي لحكم الاعدام يجعل العقوبه اقرب الى ‘ اعدام قانوني ‘
-
‘ الوحدة العربية والسياسة: بين الواقع والمأمول‘ - بقلم : مرعي حيادري
-
‘ حين يغيب الفعل ويعلو الصوت ‘ - بقلم : الاستاذ رائد برهوم
-
‘ الهوية الممزقة ‘ - بقلم: سليم السعدي





أرسل خبرا