‘حين يقترب الميلاد… يقترب الإنسان من نفسه‘ - بقلم: رانية مرجية
مع اقتراب عيد الميلاد المجيد، تتبدّل ملامح الحياة دون إعلان، ويُصبح للهواء رائحة أخرى، وللأيام وقع مختلف، وللقلب مساحة جديدة لم يكن يجدها في زحمة السنة.

رانية مرجية - صورة شخصية
وكأن اقتراب الميلاد ليس مناسبة تُضاف إلى روزنامة العام، بل حالة تتقدم نحونا ببطء، تُذكّرنا بأن الإنسان قادر دائمًا على أن يبدأ من جديد، مهما تراكم فوقه الغبار.
الميلاد موسم يُعيد ترتيب الروح قبل أن يُعيد ترتيب البيوت. موسم تهدأ فيه الأصوات العالية، وتلين فيه الزوايا القاسية، ويصير القلب أكثر استعدادًا لأن يرى النور، ولو كان خافتًا.
⸻
✦ الميلاد… حين يختار الله الهشاشة لا العرش
أكثر ما يجعل الميلاد حدثًا عميقًا أن مجده لم يبدأ بقوة، بل بضعف.
فالله — في رواية الميلاد — لم يختر السلطة طريقًا للعالم،
بل اختار المذود،
واختار طفولة لا تعرف الترف،
واختار أن يأتي إلى الأرض محتاجًا إلى حضن، لا إلى عرش.
هذا الاختيار الإلهي ليس تفصيلاً ثانويًا.
إنه رسالة تقول:
إن القوة ليست في المكان،
ولا في المظهر،
ولا في ما نملك.
القوة الحقيقية في القدرة على البدء من جديد،
وفي الإيمان بأن الهشاشة بداية وليست نهاية.
لهذا يشعر المؤمن أن الله — في هذا الموسم — أقرب من أي وقت.
أقرب للصلاة الخافتة،
وأقرب للقلب المرهق،
وأقرب للإنسان الذي يحاول أن ينهض من تعبه بقدر ما يستطيع.
⸻
✦ الميلاد… زمن يعود فيه الراحلون بحضورهم
مع اقتراب الميلاد، تعود الوجوه التي رحلت…
تعود ليس لأن الذاكرة عنيدة، بل لأن المحبة لا تُفارق.
يعودون في صورة معلّقة على الجدار،
في أغنية كانوا يحبونها،
في رائحة طعام كانت تُفرحهم،
وفي الكرسي الفارغ الذي لا يملؤه أحد مهما حاولنا.
الميلاد لا يضاعف الفقد،
بل يمنحه معنى.
يكشف لنا أن الغياب ليس انقطاعًا، بل شكل آخر من الحضور.
وأن الذين أحببناهم… ما زالوا يضيئون لنا الطريق،
حتى لو لم نعد نسمع خطواتهم.
عندما نضع شمعة على الطاولة، نشعر أن النور لا يتوقف عند الحدود التي يفرضها الموت.
النور يتجاوز.
الحنين يتجاوز.
والمحبة تتجاوز كل شيء.
⸻
✦ الميلاد… فرصة للغفران وعودة القلب إلى ليونته
في أيام الميلاد، يلين الإنسان.
يصبح الغضب أثقل من أن نحمله،
والعناد أكبر من أن نبرّره،
فنضعه جانبًا من تلقاء أنفسنا.
نقول كلمات كان يصعب قولها:
“سامحني.”
“اشتقت.”
“أنا هنا.”
ليس لأن العيد يُجبرنا،
بل لأن الميلاد يذكّرنا بأن الحياة أقصر من أن تُترك دون محبة،
وأقسى من أن نعيشها ونحن نحمل ما يثقل القلب.
الميلاد يعيد للقلب ليونته،
ويعيد للإنسان حقه بأن يخطئ ويتراجع ويبدأ من جديد.
⸻
✦ الميلاد… نورٌ يقاوم الانطفاء
حين نعلّق الأضواء على شجرة الميلاد، نحن لا نزيّن البيت فقط،
بل نضيء ما تبقى في داخلنا من نور.
ذلك النور الذي قاوم الانطفاء طيلة العام،
وتحمل الخيبات،
والغياب،
وفقدان الأشياء التي أحببناها،
وما زال — رغم كل شيء — قادرًا على أن يشتعل.
إنها ليست زينة.
إنها إعلان صغير أننا ما زلنا نؤمن بالخير،
وبأن السلام ممكن،
وبأن الله قادر أن يولد في القلوب التي فقدت إيمانها مرات كثيرة ولم تستسلم.
⸻
✦ خاتمة: الميلاد الذي يولد في القلب
الميلاد، في جوهره، ليس حدثًا تاريخيًا ولا ذكرى كنسية فحسب.
إنه ولادة داخلية.
ولادة إنسان أكثر رحمـة،
أكثر طيبة،
أكثر قدرة على احتمال الحياة،
وأكثر استعدادًا أن يحمل الذين رحلوا في نورٍ لا يغيب.
وحين يشعر القلب أن فيه زاوية صغيرة لا تزال قابلة لأن تُضاء،
حينها فقط…
نكون قد احتفلنا بالميلاد حقًا،
لا في المذود،
بل في أنفسنا.
من هنا وهناك
-
‘ حين يغيب الفعل ويعلو الصوت ‘ - بقلم : الاستاذ رائد برهوم
-
‘ الهوية الممزقة ‘ - بقلم: سليم السعدي
-
‘ أبعد من الإعلان الدستوري: هندسة للنظام السياسي الفلسطيني ‘ - بقلم : عمر رحال
-
أنماط الأهل في المدارس… هل تعرف نمطك أنت؟ - بقلم: الدكتور محمود علي جبارين
-
‘ لقاء الإخوة هو لقاء رحمة ‘ - مقال بقلم : الشيخ صفوت فريج رئيس الحركة الإسلامية
-
‘إيمان خطيب ياسين… امرأة صنعت حضورها بالصدق لا بالمنصب‘ | مقال بقلم: رانية مرجية
-
لماذا تحتاج لجنة المتابعة إلى مصادر مالية مستقلة؟ - بقلم : د. رفيق حاج – مخطط استراتيجي
-
‘ قانون الإعدام... تشريع الفاشية في إسرائيل ‘ - بقلم : فراس صالح
-
بروفيسور يوسف مشهراوي يكتب في بانيت: المشتركة: نعم أم لا؟ رأيي الشخصي - بصراحة ومسؤولية
-
‘ المطبخ العربي للسياسة… تَمَنٍ دون إعداد ‘ - بقلم : بشار مرشد





أرسل خبرا