قصة ‘رابية السلام المنزوية‘ - بقلم : الكاتبة اسماء الياس من البعنة
وعدتني بلقاء. وكان وعدك نائبًا عنك. استدركت الأمر وعدت أبحث عن فرصة فيها نعيش بعيدًا عن كل ما ينغص حياتنا، جاء اليوم الذي به تحقق حلمنا. رحلة في ارجاء الكون، قطعنا فيها الفيافي والقفار، والمدن الساحلية،
اسماء الياس - صورة شخصية
والجبال التي تمتاز بالطبيعة الخلابة، لم نتوقف بمكان فقد كنا مثل الطيور التي تهاجر من مكان لمكان طالبة الدفء والسلام.
بحثنا عن مكان نجد فيها سلامنا وطمأنينتنا لم يدم طويلًا، فقد وجدناه في إحدى الأماكن المرتفعة على سفح رابية منزوية بمكان لم تدسه قدم إنسان.
والذي جعلنا متأكدين بأن ذلك المكان لم يزره شخص على الإطلاق، العشب الذي كان يحيط بكل زاوية ومكان. جلسنا تحت ظلال شجرة، تمتعنا بالنسيم العليل الذي يشفي النفوس. وبالفعل نفوسنا كانت بحاجة لمثل تلك الأجواء التي تنعم علينا بالصحة والسلامة، تنهدت وقلت لمن سكن فؤادي، بأني أسعد نساء الأرض.
أولًا لأني معك وثانيًا لأننا بهذا المكان الظليل الهادئ الذي أعطاني الشيء الذي نحتاجه، وخاصةً أننا معًا وأحدنا بقلب الآخر.
ابتسم ابتسامةً دافئة، امتدت كضوء الشمس الخفيف عبر أوراق الشجرة المتعانقة. لم يكن بحاجة للكلام، لكنه مدّ يده إليّ بحركة بطيئة واثقة، وكأنه يثبت لي أن هذا الهدوء حقيقي ولن يزول. يا حبيبتي، قال بصوت همس كخرير الماء، الكون كله لم يكن إلا محطة عبور للوصول إلى هذه اللحظة، التي أدركت فيها أن السلام ليس مكانًا، بل حالة قلب نعيشها معكِ فقط. ثم التفتنا معًا ننظر إلى المشهد الذي يمتد أسفلنا: وادٍ أخضر ينام في حضن السكون، ومجرى نهر فضي يلمع بكسل تحت أشعة الأصيل. لكن وسط هذا الجمال الطبيعي، لفت انتباهنا شيء غريب. على بعد أمتار قليلة من الشجرة، كانت هناك كومة من الحجارة المرصوصة بشكل دائري، وكأنها بقايا بناء قديم، أو ربما كانت تشير إلى علامة تركها إنسان قبلاً.
تملكنا شعور بالسلام الداخلي وقررنا أن نحاول بناء مكان حتى نستطيع العيش فيه أيامًا، نسترجع من خلال هذا الوقت بعضًا من هدوئنا النفسي والراحة التي كنا ننشدها في الوطن ولم نجده إلا بهذا المكان. لم يشغل بالنا من رصّ هذه الحجارة، فوجودها بدا وكأنه إذن خفي لنا للبدء. كانت الرابية تمدنا بكل ما نحتاجه؛ الحجارة الصلبة للبناء، فروع الأشجار اليابسة للسقف، وأوراق الشجر الكثيفة كفراش مريح. عملنا بتناغم عجيب، وكأن كِلَيْنا يقرأ أفكار الآخر. كانت أياديك تتقن ما لا تتقنه يدي، وعيناي تريان تفاصيل غابت عنك، فأصبحنا كيانًا واحدًا في مهمة بناء عشناها بفرح غامر، كأننا نعيد بناء أرواحنا المتهالكة مع كل حجر نضعه. ومع غروب الشمس في ذلك اليوم، لم يكن المنزل الصغير قد اكتمل بعد، لكننا جلسنا على مدخله نتبادل النظرات، وقد اكتملت في قلبي قناعة عميقة.
القناعة هي أن وجود مكان كهذا يجب أن يعرفه العالم، ويجب أن نصوره وننشره حتى يعلم الجميع بأن الأماكن التي لم تدسها رجل إنسان بعد هي الأماكن التي نشعر فيها حقًا بالسلام والطمأنينة. نظرتُ إلى حبيبي بعينين تلمعان بالعزم، ففهم مقصدي دون أن أتكلم، وكأنه يشاركني ذات الرؤيا. سنشاركهم السلام الذي وجدناه يا روحي، قال وهو يمسك بيدي بقوة. سنُظهر لهم أن الخلاص ليس في العودة للوطن المزدحم بضجيج الهموم، بل في اكتشاف وطن جديد صامت ونقي داخل الطبيعة.
قررنا قضاء ليلتنا الأولى هناك، تحت النجوم اللامعة التي بدت أقرب وأوضح مما رأيناها في أي مدينة مضاءة. أشعلنا نارًا صغيرة خارج المنزل شبه المكتمل، واستندنا إلى جذع الشجرة الوارفة. كان صمت المكان مهيبًا لكنه ليس مخيفًا؛ إنه صمتٌ يغسل الروح. سمعتُ صوت الحطب وهو يتأجج، وصوت أنفاسه الهادئة بجواري. ثم، وبينما كنا نتمتع بوجبة خفيفة من ثمار جمعناها من أسفل الرابية، لمع ضوء خافت في السماء البعيدة. كان ضوءًا أحمرَ وميضًا يبتعد شيئًا فشيئًا، ولكنه لم يكن طائرة، بل بدا وكأنه جهاز آلي صغير جدًا، يحمل كاميرا موجهة نحو رابيتنا تحديدًا.
رفعتُ حاجبيّ متسائلة، ونظر إليّ حبيبي بنظرة تحمل مزيجًا من الحذر والتفاؤل. ما رأيك؟ همستُ وأنا أشعر برغبة عارمة في الحفاظ على هذا الملاذ السري.
تبسم وهز كتفيه بهدوء: ربما إحدى المجموعات مرت بالصدفة من ذلك المكان دون أن يكون توجههم لذلك المكان بالذات، لأنهم أصلاً لا يعرفون بوجود مثل ذلك المكان. ربما كانوا يصورون المنطقة الجبلية ككل، ولمحتهم عين السكون التي تسكننا الآن. أكمل كلامه وهو يطمئنني: لا تجعلي وميضًا عابرًا يفسد هدوءنا. هذا المكان يحميه سكونه العميق.
وفي تلك اللحظة، اتخذت خطتنا لاطلاع العالم على سر هذا السلام شكلًا أكثر حذرًا. لم نعد نرغب في النشر العشوائي الذي قد يجلب الازدحام والفوضى التي هربنا منها. القناعة لم تتبدد، بل تبلورت: سننشر فكرة السلام، وليس موقع السلام. سنشارك العالم صورنا
وفيديو هاتنا لهدوء الطبيعة وجمالها، سننشر رسالة مفادها أن السعادة توجد في البساطة والتخلي عن الماديات والبحث عن أرض عذراء للروح، لكننا سنخفي إحداثيات رابية السلام المنزوية، تاركين للآخرين حرية اكتشاف سلامهم الخاص في أماكنهم.
وهكذا، تحولت الأيام إلى أسابيع. اكتمل بناء ملجئنا الصغير، وتحولنا من مهاجرين إلى سكان محليين لهذه الرابية. تعلمنا لغة العشب، وحفظنا نداء الطيور، وتآلفت أرواحنا مع صخور المكان. وبينما كنا نعيش هذا الاستقرار العظيم، عثرنا على شيء آخر تحت كومة الحجارة القديمة التي بدأنا منها البناء. لم تكن مجرد حجارة، بل كانت تختبئ أسفلها.
... رسالة قديمة صفراء اللون تتحدث عن وعد بالسلام.
تناولتها يدي بحذر بالغ، كانت هشة تكاد تذروها الريح. فتحتها بترقب، وبدأنا نقرأ الكلمات المكتوبة بخط جميل وهادئ، وكأنها مرسومة بالضوء. كانت الرسالة تحمل توقيع "الناسك العابر"، وتعود إلى زمن بعيد.
يا من تصل إلى هذه الرابية، لا تبحث عن الكنز في الحجارة، فالكنز هو السكينة التي تجدها في هذا المكان العذري. هذه الأرض هي تجسيد لوعد لم يتحقق في المدن الصاخبة؛ وعدٌ بالسلام الحقيقي الذي لا يمنحه لك بشر، بل تمنحه لك الطبيعة عندما تستسلم لها روحك. إذا كنت قد وصلت إلى هنا، فاعلم أنك قد أوفيت بالوعد لنفسك أولاً، ولحبيبك ثانياً. لا تلوث هذا الوعد بالضجيج، بل احمله رسالةً في قلبك، وانقله إحساساً إلى كل من ضلّ الطريق. عد إلى العالم وأنت محملٌ بالهدوء، ولا تكشف السر، فالسلام الحقيقي لا يُعثر عليه بالخريطة، بل بالرحلة.
أغلقنا الرسالة، ونظرنا إلى بعضنا البعض. لقد كانت بمثابة الخاتم الذي يُصادق على قصتنا ورحلتنا. لقد بدأنا بوعد مفقود، ووجدنا هنا وعداً أبدياً بالسلام.
لم نعد بحاجة للبقاء طويلاً في الرابية. لقد أخذت منا كل ما نحتاجه، وملأت أرواحنا بالهدوء الكافي لنواجه العالم مرة أخرى. قضينا يوماً كاملاً في تصوير كل زاوية من زوايا هذا المكان، التقطنا صوراً وفيديوهات للنسيم، لظل الشجرة، ولعينينا اللتين تلمعان بالاطمئنان. ثم وضعنا الرسالة الصفراء في مكانها، وتركنا ملجأنا الصغير خلفنا.
عدنا حاملين رسالة لا يمكن أن تُسرق أو تُفقد: أن السلام والطمأنينة ليسا وجهة جغرافية، بل هما نتاج رحلة روحية عميقة. ومنذ ذلك اليوم، أصبحنا نحن رابية السلام المنزوية الخاصة بنا، ننشر إحساس السلام في كل مكان نذهب إليه، ونعيش بوعدنا الذي أوفيناه لبعضنا البعض تحت ظل شجرة كانت بداية الأمان.
من هنا وهناك
-
متحف اللوفر في باريس يرفع أسعار التذاكر للزوار من خارج الاتحاد الأوروبي
-
بوتين يحاول العزف على آلة الكوموز خلال زيارته لقرغيزستان
-
طقس متقلّب: حرارة مرتفعة اليوم وأمطار محلية غدا
-
حالة الطقس: أجواء غائمة وجافة نهارا وباردة ليلا
-
لحظات تحبس الأنفاس: طواقم الإنقاذ تحاول تخليص عامل علق برافعة على ارتفاع 40 مترا في يافا
-
حالة الطقس: ارتفاع طفيف على درجات الحرارة
-
بعد الارتفاع بدرجات الحرارة: استعدوا لمنخفض جوي ماطر بداية الأسبوع القريب
-
شاب يستعرض سلاحه فوق رأس طفله الرضيع في عرابة: ‘بنعملش لحدا حساب.. قوم شوف شو جبتلك‘
-
في مشهد طبيعي ساحر… المكسيك تحتضن ملايين الفراشات بموسم الهجرة السنوي
-
حالة الطقس: ارتفاع طفيف على درجات الحرارة





أرسل خبرا