قصة بعنوان ‘غياب الأمان‘ - بقلم: الكاتبة اسماء الياس من البعنة
أبو كارم رجل في أواخر الستينيات. له من الأبناء ثلاثة كارم وهيثم وسامي. دائمًا بكل مناسبة كان يقول بأن ثروته الوحيدة في الحياة أبناؤه.
الكاتبة اسماء الياس
هم الاستثمار الوحيد الذي مهما حصل في العالم من كوارث أو انخفاض بالعملة لا يمكن أن يتعرض للخسارة.
أبو كارم ربى أولاده على حب الأرض. وعلمهم الشيء الذي لم يتعلموه بالجامعات. ألا وهو التمسك بأرض الآباء والأجداد. حدثهم قصصًا عن المحتل الذي جاء حتى يسرق الأرض والحلم ويقتل الولد ويهدم البيت.
في ذلك الزمن لم تكونوا بعد قد جئتم على هذه الدنيا. عندما جاء المحتل ودمر وقتل وسرق ولم يرحم لا حجر ولا شجر ولا حيوان ولا بشر.
لهذا حرصًا على بقائنا بأن تبقى جذورنا في هذه الأرض راسخة، يجب ألا نتخلى عن شبر واحد من هذه الأرض، لأن من يتخلى عن أرضه كأنه تخلى عن عرضه.
روي لهم قصص الأجداد، وكيف أن هذه الأرض هي أكثر من مجرد تراب؛ إنها كرامة وعزة نفس.
أكملوا دراستهم وكل واحد منهم توجه للاختصاص المفضل لديه، منهم من دخل عالم المحاماة وقد وضع في فكره بأن يصل بأن يكون قاضيًا يحكم بالعدل.
ومنهم من عمل على أن يصبح الطبيب الذي يعالج ويخفف آلام الآخرين.
أما الابن الأصغر فقد تعلم الهندسة الوراثية.
ورغم انشغالهم بالدراسة الا انهم لم يتوانوا عن مساعدة الوالد في الحراثة والزراعة. فهذه الأرض وخيراتها هي التي جعلت كل واحد منهم خريج أهم الجامعات.
وهنا، بالضبط، بدأت الغيمة السوداء تُخيّم على سماء قريتهم الهادئة.
لم يكن الخطر هذه المرة محتلاً بسلاحه الظاهر، بل جاء متنكراً في أوراق قانونية وأطماع مُنظمة. كان الأمان الذي تغنى به أبو كارم على وشك أن يُختبر بأقسى صورة.
في ذلك الصباح، وصل إشعار رسمي من بلدية المدينة المجاورة، يحمل توقيعاً حكومياً رتيباً. كانت فحوى الإشعار صادمة: مصادرة جزء من الأرض الزراعية لأغراض المصلحة العامة والتوسع العمراني.
ضرب الخبر كالصاعقة. لم تكن مجرد قطعة أرض؛ كانت تلك البقعة تحديداً هي القلب الذي زرع فيه أبو كارم شجرة الزيتون العتيقة التي تعود لمئات السنين، وهي التي كان يحكي لأبنائه تحت ظلها قصص الأجداد وكيف حموها بدمائهم. كان التخلي عنها يعني التخلي عن جزء من روحه.
جلس أبو كارم صامتاً، عيناه تحدقان في الإشعار الملطخ بعرق أصابعه، لكنه لم يتفاجأ تماماً. كنت أعلم أن المعركة لم تنتهِ يا أبنائي، المحتل يغير وجهه لكن هدفه يبقى ثابتاً.
نهض كارم، المحامي الذي وضع هدف القضاء العادل نصب عينيه، وقد اشتعلت في عينيه نار الغضب والقرار. سأقاتلهم بالورقة والقلم يا أبي. لن يُمرروا هذا القرار. أقسم أنني سأستخدم كل ما تعلمته لحماية أرضنا. سأجعلهم يندمون على اليوم الذي اعتقدوا فيه أنهم يستطيعون أخذ شبر واحد من جذورنا.
أما هيثم، الطبيب، فكانت نظرته أكثر قلقاً. هو يرى الأرض كجسم حي. الأرض ليست وثيقة قانونية فحسب يا كارم، إنها حياة. إذا اقتطعوا جزءاً منها، فالجسد كله سيتأذى. لكن لا تقلق، سنقف معك. يجب أن نُجهز لرد فعل شعبي وعلمي أيضاً.
نظر الجميع إلى سامي، مهندس الهندسة الوراثية، الذي كان يبتسم ببرود غريب. أبي، طالما أنني أستطيع حماية البذرة، فالأرض تستطيع أن تستعيد نفسها. لكن مشكلتنا الآن ليست فقط في القانون أو الوعي.
إنها في إثبات أن هذه الأرض حية، فريدة، ولا يمكن تعويضها... وسأعرف كيف أفعل ذلك.
هنا تحولت الثروة الحقيقية لأبي كارم إلى قوة ضاربة. ابنه الأول يحمل سيف العدالة، والثاني ضمير المجتمع، والثالث يملك مفتاح العلم.
لقد بدأ الفصل الجديد من معركة "غياب الأمان"، وستكون هذه المرة حرب العقول والوثائق.
أخذ كارم الإشعار، وعاد إلى المدينة سريعاً ليطّلع على الملف في الدوائر الرسمية. لكنه عاد بوجه عابس، حاملاً معه خبراً يزيد الطين بلة: كانت أوراق المصادرة مُحكمة، مستندة إلى خرائط قديمة ومسح جديد للأراضي يضع شرعية ملكية العائلة للجزء المصادر في موضع شك، خاصة في منطقة الحدود التي تقع عليها شجرة الزيتون العتيقة.
الأمر ليس مجرد رغبة في التوسع، يا أبي، بل هناك ثغرة قانونية استغلّوها، وادّعاء بأن هذا الجزء لم يُسجّل يوماً باسم العائلة بشكل واضح وصريح في سجلات الخمسينيات، بل كان مُسجلاً بصفته أرض بور مجاورة. قال كارم وهو يطرق المكتب بغضب. لقد بحثت في كل زاوية قانونية، لكن الملف الذي يملكونه مُرتب بعناية تفوق القدرات العادية، وكأن شخصاً خبيراً قام بترتيب هذه الحجة منذ عقود.
في هذه اللحظة، تحوّل اهتمام سامي، مهندس الهندسة الوراثية، من شجرة الزيتون إلى تلك الأوراق. بالنسبة لسامي، الوثائق مثل الكروموسومات، تحمل الشفرة الوراثية للملكية. كان تخصص عمله يرتكز على تتبع أدق التفاصيل في شريط الحمض النووي لكشف الخلل أو المرض الوراثي.
أعطني الأوراق، يا كارم. قال سامي بهدوء. من يعمل في تتبع الأمراض الوراثية يكتسب عيناً لا تفوتها التفاصيل المخبأة بين السطور، وصبراً على البحث في السجلات المُغبرة. إنهم يبحثون عن النسخة الأصلية من السجل، تماماً كما نبحث نحن عن الجين الأصلي السليم.
على مدى ثلاثة أسابيع، أغلق سامي على نفسه، محاطاً بأكوام من الخرائط والوثائق العقارية القديمة التي أحضرها كارم بصعوبة. كان يحلل الأوراق لا كنصوص قانونية، بل كبُنى جزيئية؛ يقارن الخطوط، يتتبع التواريخ، يفتش عن أي تناقض في حبر أو توقيع أو مقاسات. كان يطبق نفس المنهجية التي يستخدمها في فحص عينة مجهرية: الشك في كل شيء حتى يُثبت بالدليل القاطع.
هيثم، الطبيب، كان يقوم بدوره في توعية أهل القرية بخطورة سابقة المصادرة هذه، مُنظماً حملة تبرعات لدعم كارم في التكاليف القانونية وداعماً لأبيه الذي بدأ يظهر عليه التعب والهم. أما أبو كارم، فرغم حزنه، كان يراقب أبناءه بثقة، فالاستثمار الوحيد في الحياة لم يتعرض للخسارة بعد.
وفي ليلة عاصفة، بينما كان كارم يجهز لحجج قضائية بناءً على ما لديه، صرخ سامي فجأة. كان قد عثر على طفرة في السجل العقاري. كانت هناك ملاحظة مكتوبة بخط يد قديم ومطموسة في زاوية الوثيقة الأصلية، لم يلتفت إليها المحامون الذين رتبوا ملف الخصوم. كانت الملاحظة تؤكد أن مسح الخمسينيات قد أغفل عنصراً هاماً في تحديد الملكية.
صاح سامي فجأة. كان قد عثر على طفرة في السجل العقاري. كانت هناك ملاحظة مكتوبة بخط يد قديم ومطموسة في زاوية الوثيقة الأصلية، لم يلتفت إليها المحامون الذين رتبوا ملف الخصوم. كانت الملاحظة تؤكد أن مسح الخمسينيات قد أغفل عنصراً هاماً في تحديد الملكية.
لم يكن الأمر مجرد ملاحظة منسية. لقد كانت المفتاح الذي يقود إلى كنوز الماضي. رفع سامي رأسه، وعيناه تلمعان بانتصار علمي، قائلاً: هذا الاكتشاف يا كارم هو الـ DNA الحقيقي للأرض. هذه الملاحظة تشير إلى وجود سجل آخر، سجل قديم جداً، لم يمسّه تغيير الزمن ولا أيادي التلاعب. هذا السجل هو مرسوم عثماني، يصف حدود أرضنا بـتفاصيل دقيقة تربطها بمعالم طبيعية لم يعد لها وجود اليوم استل سامي، الذي اعتاد على تتبع سلاسل الحمض النووي المعقدة، كل مهاراته في التحليل. لقد قاده النمط المتناقض في الأوراق الحديثة، الذي كان بالنسبة له "مرضًا وراثيًا" في سلسلة الملكية، إلى اليقين بأن هناك تلاعبًا متعمدًا في سجلات التوثيق العقاري الجديدة. كانت التوقيعات المُستخدمة في المسح الأخير تحمل تباينات طفيفة في الضغط وسمك الحبر، تمامًا كالتغير في تركيب الجينات، وهذا يدل على تزوير احترافي.
إنها شبكة، يا أخي، وليست مجرد خطأ إداري! همس سامي، وعيناه لا تغادران شاشة مجهرة الرقمي الذي استخدمه لفحص الألياف. لقد قاموا باستغلال الثغرة الزمنية بين نهاية الحكم العثماني وبداية السجلات الوطنية الجديدة، لتغيير الحدود الجغرافية على الخرائط القديمة، تماماً كما يقوم مرض وراثي بتغيير تعليمات الخلية. لكن هذا المرسوم العثماني، بوصفه لمعالم مثل البئر المهجورة والتلة ذات الصخرة الثلاثية، يعيد ترسيم الخريطة الحقيقية.
انتقل كارم، المحامي الذي كان يحلم بالعدل، من مرحلة الدفاع إلى الهجوم. أصبح المرسوم العثماني هو الدليل الأقوى الذي ينسف حجة المصلحة العامة ويثبت الملكية المتجذرة. لم يعد كارم يدافع عن أرض عائلته وحسب، بل أصبح يقاتل من أجل مبدأ العدالة ضد الفساد الممنهج.
رفع كارم القضية على الفور إلى المحكمة العليا، مدركًا أن هذه هي الجولة الأخيرة والحاسمة.
أما هيثم، الطبيب، فقد استخدم خبرته ليُشخّص العلة من جذورها. نجح في تنظيم وقفة احتجاجية سلمية أمام المحكمة، حيث تحدث عن الأثر الصحي والاجتماعي لانتزاع الأرض من أصحابها الأصليين. لقد حول القضية من مجرد نزاع عقاري إلى صراع وجودي يحظى بدعم الشارع، مُجهزاً الرأي العام لتقبّل الصدمة الكبيرة عند كشف التلاعب الرسمي.
في يوم الجلسة، وقف كارم أمام القضاة، حاملاً بين يديه نسخة مصورة طبق الأصل للمرسوم العثماني. كان يعلم أن المحكمة العليا لا تبحث فقط في النص القانوني، بل تبحث في روح القانون. ألقى نظرة سريعة نحو المنصة حيث جلس أبو كارم، بوجهه المتعب لكن بنظرة الفخر الواضحة. لم يكن كارم يتحدث عن شبر من أرض، بل كان يروي قصص الأجداد، مستخدماً الوثيقة كدليل لا يقبل الجدل على أن الأمان الحقيقي لا يُسرق، لأنه مُرصع بالدم والكرامة، ومُحصّن بذكاء أبنائه الثلاثة.
لم يكتفِ كارم بتقديم المرسوم العثماني كدليل على الملكية التاريخية، بل اعتمد على تقرير سامي المُفصّل الذي كشف التلاعب بالأوراق الرسمية في السجلات الحديثة. شرح كارم للقضاة كيف أن هذا التلاعب ليس مجرد خطأ إجرائي، بل هو محاولة لسرقة التاريخ والحلم، داعمًا حجته بشهادة هيثم عن الأثر الاجتماعي والبيئي لخطة المصادرة الجائرة.
بعد مداولات دقيقة، ارتفعت هيئة القضاة وأعلنت الحكم. كان الصمت مُطبقًا في قاعة المحكمة. ثم جاء صوت القاضي الأعلى واضحًا ومزلزل.
بعد الاطلاع على الأدلة التاريخية والقانونية والعلمية المُقدمة، وبناءً على ثبوت الملكية عبر المرسوم العثماني الأصلي، وبناءً على الدليل القاطع على التلاعب في السجلات الحديثة... قررت المحكمة العليا بالإجماع: إلغاء قرار المصادرة بالكامل، وإعادة الحق لأصحابه، واعتبار أرض عائلة أبي كارم ملكًا خالصًا لا يجوز المساس به.
دوت القاعة بالتصفيق الذي لم يجرؤ أحد على إيقافه. رفع أبو كارم يديه إلى السماء شاكرًا، دموع الفخر تملأ عينيه. لم يكن انتصارًا قانونيًا فحسب؛ بل كان انتصارًا لقيمة الأرض على المال، وللعدل على الظلم والفساد، ولحب الأبناء على هموم الزمان.
بعد أسابيع، وبينما كان أبو كارم يجلس تحت ظل شجرة الزيتون العتيقة التي كانت مهددة بالمصادرة، محاطًا بكارم وهيثم وسامي، نظر إليهم طويلاً بابتسامة عميقة. كانت الثروة الوحيدة التي تحدث عنها طوال حياته تقف أمامه، مُتجسّدة في ثلاثة شبان حوّلوا مهاراتهم الجامعية إلى دروع وسلاح.
هل رأيتم؟ قال أبو كارم بصوت هادئ، يملؤه الرضا. الأمان ليس في كثرة الأموال، ولا في سُمك الجدران. الأمان هو أن تبقى جذوركم في هذه الأرض راسخة، وأن تكون عقولكم هي الحارس والسند لبعضكم البعض.
لقد واجهنا غياب الأمان، لكنكم أثبتّم أن الأمان الحقيقي هو في الوحدة وفي العلم. والاستثمار الوحيد الذي لا يخسر هو أنتم.
هكذا، عادت الحياة إلى الأرض، لكنها عادت أقوى وأكثر رسوخًا. فعلم الأبناء قد حمى حكمة الأجداد، وأعاد للأرض كرامتها. وزال شبح "غياب الأمان" ليحل محله نور اليقين.
من هنا وهناك
-
متحف اللوفر في باريس يرفع أسعار التذاكر للزوار من خارج الاتحاد الأوروبي
-
بوتين يحاول العزف على آلة الكوموز خلال زيارته لقرغيزستان
-
طقس متقلّب: حرارة مرتفعة اليوم وأمطار محلية غدا
-
حالة الطقس: أجواء غائمة وجافة نهارا وباردة ليلا
-
لحظات تحبس الأنفاس: طواقم الإنقاذ تحاول تخليص عامل علق برافعة على ارتفاع 40 مترا في يافا
-
حالة الطقس: ارتفاع طفيف على درجات الحرارة
-
بعد الارتفاع بدرجات الحرارة: استعدوا لمنخفض جوي ماطر بداية الأسبوع القريب
-
شاب يستعرض سلاحه فوق رأس طفله الرضيع في عرابة: ‘بنعملش لحدا حساب.. قوم شوف شو جبتلك‘
-
في مشهد طبيعي ساحر… المكسيك تحتضن ملايين الفراشات بموسم الهجرة السنوي
-
حالة الطقس: ارتفاع طفيف على درجات الحرارة





أرسل خبرا