‘بين المقاتل من أجل الحرية والسياسي: معضلة القيادة في المجتمع العربي‘ - بقلم: منير قبطي
تعيش القيادة السياسية في الوسط العربي حالة من التشتّت بين المبدأ والسياسة، بين روح المقاتل الباحث عن الحرية (Freedom fighter) وعقلية السياسي (Politician) الذي يوازن بين المصالح.
منير قبطي - صورة شخصية
هذا التناقض أفرز نمطاً من القادة ضعيفي الإنجاز والتأثير، يحاول بعضهم أن يبدو ثائراً في خطابه وواقعياً في ممارساته، فيخسر المصداقية من الجهتين. المواطن لا يرى نتائج ملموسة على حياته اليومية، والدولة لا تتعامل مع هذه القيادات بجدّية كافية.
الحرية والسياسة يلتقيان في الغاية لكنهما يتصادمان في الوسيلة. فالمقاتل من أجل الحرية يتحرك بدافع أخلاقي مطلق، لا يقبل المساومة، ويرى في التنازل خيانةً للمبدأ، مؤمناً بأن الكرامة لا تُشترى ولا تُفاوض. أما السياسي فهو ابن الواقع، يدرك أن الإنجاز لا يتحقق إلا عبر الحوار والمساومات المدروسة، وأن السياسة هي فنّ إدارة التوازن بين المصالح. وعندما يحاول القائد الجمع بين هذين النهجين دون وضوح في الرؤية، تضيع البوصلة ويضعف التأثير، وينتاب الجمهور شعور بالإحباط وفقدان الثقة.
في الواقع السياسي للوسط العربي داخل إسرائيل، يتجلّى هذا الصراع بوضوح في ممارسات بعض القيادات. أحمد طيبي، المعروف بخطابه القوي ودفاعه عن حقوق المواطنين العرب، يرفع شعارات وطنية صادقة، لكنه محدود التأثير في تمرير مشاريع ملموسة داخل الكنيست، لأن استراتيجيته تميل إلى المقاومة الرمزية أكثر من بناء تحالفات عملية تحقق نتائج واقعية. في المقابل، اختار منصور عباس نهجاً براغماتياً بانضمامه إلى تحالفات مع أحزاب يمينية، سعياً للحصول على ميزانيات وخدمات للمجالس المحلية، لكنه يواجه انتقادات واسعة بسبب ما يراه كثيرون تنازلات عن الثوابت وابتعاداً عن الخطاب الوطني. أما أيمن عودة، الذي يمثل التيار المدافع عن الحقوق المدنية والمساواة، فيصطدم بحدود النظام السياسي الإسرائيلي وبحساسيته، ما يصعّب عليه تحقيق إنجازات ملموسة رغم تمسّكه بمواقفه ألمبدأيه. في النهاية، تبقى المكاسب الفعلية للمجتمع العربي محدودة، رغم صدق الخطاب وقوة الحضور الشعبي لهؤلاء القادة.
تكمن المعضلة الجوهرية في محاولة الجمع بين الثبات على المبدأ والسعي وراء المكاسب السياسية في الوقت ذاته. فالكلام الثوري وحده لا يبني مدارس ولا يوفّر خدمات، والسياسة الواقعية وحدها قد تُفهم على أنها تنازل عن القيم، مما يضعف الثقة الشعبية ويجعل الأداء السياسي العربي محصوراً بين الشعارات والمصالح الجزئية.
التجارب العالمية تقدّم أمثلة واضحة على هذا التوازن الصعب. ياسر عرفات كان رمزاً للنضال الفلسطيني، لكنه عندما انتقل إلى العمل السياسي اضطر للتفاوض والتنازل في اتفاق أوسلو، فاعتبره البعض خائناً، ورآه آخرون واقعياً أنقذ ما يمكن إنقاذه. نيلسون مانديلا، الذي قاوم الفصل العنصري، اختار طريق المصالحة عندما تولّى الحكم، وكتب نموذجاً فريداً للقيادة المتوازنة، لأنه أدرك متى يكون مقاتلاً ومتى يكون رجل دولة، دون أن يفقد صدقه أو إنسانيته.
في المقابل، يفتقر الوسط العربي داخل إسرائيل إلى هذا الوضوح في الدور. فكثير من السياسيين يحاولون الجمع بين رمزية النضال الوطني والعمل داخل النظام لتحقيق مصالح شخصية أو حزبية، فتتشوّه الصورة وتضيع الرسالة. هذه الازدواجية أضعفت الخطاب العربي، وأفقدته القدرة على التأثير، وجعلت الناس يشعرون بأن ما يُقال في العلن لا ينسجم مع ما يُمارس في الكواليس.
القيادة الحقيقية لا تحتمل الغموض. إن أراد القائد أن يكون مقاوماً فعليه أن يناضل من خارج النظام السياسي، وإن أراد أن يكون سياسياً فعليه أن يعمل من داخله بخطط واقعية واضحة تخدم مجتمعه دون تنازل عن الثوابت أو استعراض. التحوّل من النضال إلى السياسة يجب أن يكون انتقالاً مدروساً، هدفه تحقيق مكاسب ملموسة في مجالات التعليم، والسكن، والخدمات، والتمثيل السياسي، وإعادة بناء الثقة بين القادة والجمهور.
النضال والسياسة ليسا نقيضين تامّين، لكن المزج بينهما دون وضوح يؤدي إلى نتائج باهتة. حين نفصل بين المبدأ والسياسة، بين الحلم والواقع، يمكن للوسط العربي أن يبدأ فعلاً طريق النهضة الحقيقية، وأن يرى المجتمع العربي داخل إسرائيل تقدّماً ملموساً يعبّر عن تطلعاته وكرامته في آنٍ واحد.
في النهاية، يبدو أن العجز عن إقامة قائمة انتخابية عربية مشتركة لا يعود فقط إلى الخلافات الشخصية أو الحزبية، بل إلى غياب الرؤية المشتركة بين من يرى نفسه “مقاتلاً من أجل الحرية” ومن يعتبر نفسه “سياسياً براغماتياً”. كلا الطرفين يملك جزءاً من الحقيقة، لكن الحقيقة الكاملة تحتاج إلى نضجٍ جماعي يتجاوز الأنا الفردية.
فحين تُقدَّم المصلحة العامة على الطموح الشخصي، وحين يُفهم أن وحدة الصوت لا تُختزل في رقمٍ انتخابي بل في وعيٍ جمعيٍ ناضج، عندها فقط يمكن أن يتحوّل التشتّت إلى قوة، والاختلاف إلى تنوّعٍ منتج. ربما آن الأوان لأن يدرك بعض القادة أن من لا يستطيع التوحّد في صناديق الاقتراع، لن يُقنع أحداً بأنه يسعى لوحدةٍ في المصير.
من هنا وهناك
-
‘ الوحدة العربية والسياسة: بين الواقع والمأمول‘ - بقلم : مرعي حيادري
-
‘ حين يغيب الفعل ويعلو الصوت ‘ - بقلم : الاستاذ رائد برهوم
-
‘ الهوية الممزقة ‘ - بقلم: سليم السعدي
-
‘ أبعد من الإعلان الدستوري: هندسة للنظام السياسي الفلسطيني ‘ - بقلم : عمر رحال
-
أنماط الأهل في المدارس… هل تعرف نمطك أنت؟ - بقلم: الدكتور محمود علي جبارين
-
‘ لقاء الإخوة هو لقاء رحمة ‘ - مقال بقلم : الشيخ صفوت فريج رئيس الحركة الإسلامية
-
‘إيمان خطيب ياسين… امرأة صنعت حضورها بالصدق لا بالمنصب‘ | مقال بقلم: رانية مرجية
-
لماذا تحتاج لجنة المتابعة إلى مصادر مالية مستقلة؟ - بقلم : د. رفيق حاج – مخطط استراتيجي
-
‘ قانون الإعدام... تشريع الفاشية في إسرائيل ‘ - بقلم : فراس صالح
-
بروفيسور يوسف مشهراوي يكتب في بانيت: المشتركة: نعم أم لا؟ رأيي الشخصي - بصراحة ومسؤولية





أرسل خبرا