‘غياب القائمة المشتركة بين الأحزاب العربية: قراءة في الواقع المجتمعي‘ - بقلم: منير قبطي
من جديد يعود الحديث عن القائمة المشتركة، لكن هذه المرة يُحسم الجدل بتصريح يزيد دهامشة: لا قائمة في الأفق. ما يعني أن الخلل ليس سياسيًا فحسب، بل مجتمعيًا أيضًا.
منير قبطي - صورة شخصية
رغم أنني أتابع الشأن السياسي عن قرب، وأراقب التحولات التي يمر بها مجتمعنا، لم أكن يومًا من الذين يسارعون إلى الكتابة في هذا المجال. لطالما فضّلت التركيز على القضايا الإنسانية والاجتماعية التي تمس الناس في تفاصيل حياتهم اليومية. لكن تصريح يزيد دهامشة الأخير، الذي أكد فيه بشكل قاطع أن قائمة مشتركة لن تقوم مجددًا، دفعني إلى التفكير في أبعاده وانعكاساته على واقعنا السياسي والمجتمعي.
في كل أزمة يعيشها المجتمع العربي في الداخل، يعود الحديث عن ضرورة الوحدة بين الأحزاب. تجربة القائمة المشتركة السابقة، رغم عيوبها، منحت شعورًا بالكرامة والتمثيل، وأثبتت أن الصوت العربي الموحد قادر على ترك أثر. لكن تفككها لم يكن مجرد خلاف حزبي عابر، بل عرّى الانقسامات الداخلية العميقة داخل المجتمع نفسه.
الواقع اليوم يشير إلى غياب إجماع حقيقي، لا على المستوى السياسي ولا الاجتماعي. ففي البلدة الواحدة تختلف الأولويات بين الأحياء، وتتباعد المواقف بين الأجيال، وتتناقض الرؤى بين التيارات والجماعات المحلية. وكل طرف يرى أن طريقه هو الصحيح. هذا التباين يجعل أي محاولة لإعادة تشكيل قائمة مشتركة أكثر تعقيدًا.
من أبرز الإشكاليات في مجتمعنا كثرة الزعامات مقابل ندرة المواطن الفاعل. الجميع يريد أن يكون قائدًا أو متحدثًا، بينما قلّة فقط يلتزمون بالعمل اليومي في الحي أو المدرسة أو الجمعية. هذا الخلل بين من يرفع الشعارات ومن يترجمها إلى فعل يضعف قدرة المجتمع على بناء قوة جماعية مؤثرة.
خلافات الأحزاب تعكس إلى حد بعيد خلافات المجتمع نفسه: تباين في الرؤية السياسية، اختلاف في أساليب العمل، مواقف متباينة تجاه الدولة، وتباين في لغة الخطاب. لكنها أيضًا انعكاس لانقسام أعمق: ثقافي وقيمي، لم يُطرح بعد للنقاش الجدي حول جذوره وسبل معالجته.
من هنا، يصبح غياب القائمة المشتركة أكثر من مجرد خلاف حزبي؛ إنه مؤشر على خلل في البنية الاجتماعية ذاتها. فضعف الثقة بين المواطنين، غياب ثقافة التعاون، وتفاوت الأولويات، كلها تجعل من الوحدة السياسية تحديًا كبيرًا. أي قائمة مشتركة مستقبلية لن تنجح ما لم يسبقها عمل مجتمعي يعزز الانتماء والمسؤولية المشتركة.
ورغم هذه الصورة القاتمة، يبقى الأمل ممكنًا. ليست الوحدة الكاملة شرطًا، بل يمكن للأحزاب أن تجد أرضية مشتركة حول قضايا أساسية تمس حياة كل بيت عربي: مكافحة الجريمة، تطوير التعليم، تخطيط السكن، وتحسين الخدمات. هذه قضايا لا خلاف عليها، ويمكن أن تكون نقطة انطلاق لعمل مشترك حتى من دون وحدة انتخابية كاملة.
المطلوب اليوم ليس انتظار “زعيم منقذ”، بل بناء مجتمع فاعل يقوده مواطنون مبادرون. الوحدة تبدأ من القاعدة: من البيت، من الحي، من المدرسة، ومن الثقة المتبادلة بين الناس. عندها فقط يمكن للمصالحة بين الأحزاب أن تكون حقيقية وفعالة، لأنها ستعكس مصالحة أوسع داخل المجتمع.
في النهاية، يمكن القول إن تصريح دهامشة لم يأتِ من فراغ، بل يعكس واقعًا سياسيًا واجتماعيًا معقدًا. غياب القائمة المشتركة هو مرآة لانقساماتنا الداخلية، لكنه أيضًا دعوة للتفكير في كيفية بناء وحدة مجتمعية تسبق الوحدة الحزبية. فإذا نجحنا في تقوية نسيجنا الاجتماعي، فإن أي مشروع وحدوي سياسي سيصبح أكثر واقعية وقابلية للحياة.
من هنا وهناك
-
‘رسالة الى الشباب في البطوف وعموم مجتمعنا: إياكم والسوق السوداء‘ - بقلم : عاهد رحال
-
‘الحق يمشي ولو على رمشي‘ – بقلم : هادي زاهر
-
خطاب ديني إصلاحي ‘العودة إلى المشرّع الواحد… وإحياء الدين من منبعه الأول‘ - بقلم: سليم السعدي
-
حكايات نضالية قروية - الكاتب والكتاب | استعراض وتقييم هادي زاهر
-
مقال: نحن أبناء هذه البلاد، عرب مسلمون قبل كل شيء - بقلم : الشيخ صفوت فريج رئيس الحركة الإسلامية
-
قراءة نقدية مُعَمَّقة – بقلم: رانية مرجية
-
مقال: النص القانوني المقترح في الكنيست الاسرائيلي لحكم الاعدام يجعل العقوبه اقرب الى ‘ اعدام قانوني ‘
-
‘ الوحدة العربية والسياسة: بين الواقع والمأمول‘ - بقلم : مرعي حيادري
-
‘ حين يغيب الفعل ويعلو الصوت ‘ - بقلم : الاستاذ رائد برهوم
-
‘ الهوية الممزقة ‘ - بقلم: سليم السعدي





التعقيبات