‘ حُلم كاتب ‘ - قصة: ناجي ظاهر
تدنو منه أمه في الغرفة الجديدة، ماذا تفعل هنا؟ اقرأ، يقول لها، ماذا تقرأ؟ تسأله، يرسل نظرة صامتة إليها، ويتابع القراءة. تسأله أمه وهي مولّية ألا تريد أن تتناول الطعام؟
الكاتب ناجي ظاهر - صورة شخصية
بعد قليل يا أمي، بعد قليل.
تنصرف أمه، يواصل القراءة في كتاب " الأم" يطوي الصفحة تلو الصفحة، يتوقف عند بعض الكلمات، يعيد قراءتها لا سيما تلك التي تتحدّث عن صمود الأم وثباتها على أرض لا تميد، أم مكسيم جوركي تشبه أمه من العديد من الجوانب، الاثنتان مناضلتان في هذه الحياة، الفرق بينهما أن المجال اتسع أمام أم جوركي وضاق أمام أمه، أمه جاءت مع أبيه وأخويه الأكبرين من قرية سيرين بعد أن طردتهم منها العصابات الصهيونية المدجّجة بالسلاح، كم من مرة حكت له عن كفاحها مِن أجل أن تحافظ على ما تبقّى من الحياة.
يواصل القراءة، كم هو مُعجب بما يقرؤه. يشعر بقدمّي أمه تدُبّان بين الغرفتين، يفتعل عدم رؤيته لها. تدنو منه تضع يدها على رأسه بحنوّ لا حدود له، ألا تريد أن تتناول الطعام يا ولدي؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل. الساعة متأخرة يا ولدي أخشى أن أنام دون أن أضع لك الطعام، لا تخافي يا أمي.. لا تخافي، بعد قليل أعدك أن أفرغ من القراءة، وأن آتي إليك.
يبقى وحده في الغرفة لا يشعر إلا بحركة الحياة تنبعث من الكتاب بين يديه، المقارنات تتواصل، الناس عند جوركي يقاومون الظلم، الناس حوله مستسلمون له، لا حول بيدهم ولا قوة، أبوه يعمل بعيدًا عن البيت وأمه تحاول أن تسدّ الغيبة، أحيانًا تعمل في أراضي اليهود، اليهود أخذوا البلد واخذوا معها راحة البال، لم يخلفوا وراءهم سوى الشقاء.
الليل يمضي متقدمًا دون أن يشعر بأنه في ليل، الكائنات في كلّ مكان صامتة إلا هو هناك في غرفته.. هو يقرأ الصفحة تلو الصفحة، حالمًا بامتلاك عالم ما يقرؤه.
يواصل القراءة. تهلّ تباشير الفجر، تستيقظ أمه من نومها، يشعر من حركتها تدُبّ في ساحة البيت، تدنو منه مرةً أخرى، أما زلت تقرأ منذ مساء أمس؟ لماذا تفعل هذا كلّه؟ أريد أن أكون كاتبا، يرد عليها بشمم، أريد أن أكتب القصص عنكم وعن عذابكم مع الأيام. تنظر إليه أمه كمن لم يفهم، ماذا تقول.. ستكتب القصص؟
عام 1968
يكتب قصته الحقيقية الأولى، قبلها كتب الكثير من القصص، ما إن كتب تلك القصة حتى شعر أنه وضع قدمه على بداية الطريق، ليس مُهمًّا ما يقوله الآخرون، المُهم ما نقوله نحن عن أنفسنا، هو شعر بنفسه أصبح كاتبًا، أخيرًا تمكّن مِن الكتابة عن أمه ومدينته، بل عن حبيبته المُتخيّلة، لكن ماذا عليه أن يفعل كي يتأكد من أنه أصبح كاتبًا؟ الكثيرون مِن أصدقائه القلائل آمنوا به قالوا له إنك كاتب بالفطرة، قرؤوا كتاباته بانبهار، أنت مولود لتكون كاتبًا، هو يعرف أنه أصبح كاتبًا لكن كيف يتأكد؟ كيف يعرف أن ما يسمعه من أصدقائه لا يعدو كونه شفقة ورأفة بولد مُهجّر ابن مهجر؟
ظلّ يفكّر إلى أن توصّل إلى تحدٍّ ليس سهلًا، ما لبث أن بادر إلى خوضه، فإما يكون أو لا يكون، إما أن يواجه فشله وإما أن يضع قدمه في خطوتها الأولى على طريق المجد (كان متأثرًا فعلًا بكتاب" طريق المجد للشباب لسلامة موسى).
طوى القصة عدة طيات.. وضعها في مغلف اشتراه من المكتبة خصيصًا، كتب عليه عنوان مجلة" الجديد" المجلة الأهم في بلاده تلك الفترة، وأودعها صندوق البريد الأحمر القريب جدًا من بناية البريد في الناصرة، أودعه هناك إبعادًا لأي سبب قد يحول دون وصول الرسالة إلى عنوانها.
في نهاية الشهر اشترى مجلته المقدّسة، ليُفاجأ بقصته منشورة فيها، حمل المجلة كأنما هو عرف أنه يمكنه أن يفعل شيئًا للمرة الأولى في حياته، وركض إلى بيته، كان فرحًا يريد أن يشارك الإنسان الأعز على قلبه فرحه بقصته.
اقترب من أمه احتضنها، لقد أصبحت كاتبًا، أصبحت كاتبًا يا أمي. أمه تُرسل نظرة مستفسرة، ماذا تقول؟ أصبحت كاتبًا؟ يعني ستكتب الرسائل لمن لا يعرف كتابتها ستعمل قُبالة المسكوبية؟ كلّا يا أمي، انتظري ها هي أهم مجلة في البلاد نشرت واحدة من قصصي. ماذا يعني هذا يا ولدي.. أنا لا افهم عليك، هذا يعني أنني أصبحت كاتبًا يا أمي، سأملأ الدنيا قصصًا عنكم وعمّا ذقتموه من عذاب. لا أفهم لا.. افهم يا ولدي، على كل حال " على الله يطلع من بيت هالمطبّلين مزمر"، سأزمّر يا أمي سأزمّر، سأكون كاتبًا، سأكتب أجمل القصص.
عام 2006
تأتيه أمه في منامه، تقترب منه، هو ما زال يقرأ الكتاب تلو الكتاب، أما زلت تقرأ الكتب يا ولدي؟ نعم يا أمي، الكُتّاب لا يتوقفون عن قراءة الكتب، إلا في واحد من أمرين حينما يرحلون من هذه الدنيا، أو حينما يفقدون أبصارهم، ويستدرك حتى حينما يفقدون أبصارهم فإنهم يبحثون عمّن يقرأ لهم الكتب.
تتمعّن والدته في ملابسه، لماذا أراك تزداد فقرًا يا ولدي؟ لقد أصبحت كهلًا وبعد قليل تصبح رجلًا مُسنًّا، وأنت كما أنت ما زلت فقيرًا، إلى متى ستبقى فقيرًا يا ولدي، ألا يفيدك أنك أصبحت كاتبًا؟ لست فقيرًا إلى هذا الحد يا أمي، ثم إنني لا أعرف ماذا يُخبّئ لي الغد، كم كنت أود لو أنك بقيت إلى جانبي في عالمي الفاني هذا.. لنقطف ثمرة أحببت أن نقطفها معًا. تتمعّن أمه في ملابسه، لكن لماذا ترتدي هذه الملابس الرثّة يا ولدي؟ يحاول أن يشرح لها.. أن يقول لها إن الإنسان الجميل يبدأ من الداخل إلى الخارج، وليس العكس، وإن مَن يبدؤون من الخارج إنما هم أناس تعساء.. يشرح ويشرح ويشرح.. إلى أن تستوقفه أمه بإشارة من يدها.. لا افهم ما تقوله يا ولدي، أنت تعرف أنني أميّة لا اقرأ ولا أكتب، إلا أنني أفهم أن الواحد منّا نحن بني البشر إنما يحاول أن يحسّن حياته. أنا أحاول أن أحسن حياتي يا أمي، لا تقلقي، أرجوك لا تقلقي، طريق الكُتّاب كثيرًا ما تكون طويلة، أطول من أعمارهم، لهذا هم يعيشون أحيانا بعد رحيلهم. لا أفهم عليك يا ولدي، ما أفهمه أنك ينبغي أن تعيش حياة أفضل من هذه، وماذا تقترحين يا أمي؟.. أقترح عليك أن تبحث عن عمل آخر.. يمكّنك من أن ترتدي أفضل الملابس، لن أبحث يا أمي، قلت سأكون كاتبًا، يعني سأكون كاتبًا.. ولن أتنازل عن حُلمي.
من هنا وهناك
-
‘شهيدة التخلف ‘ - بقلم : رانية فؤاد مرجية
-
‘أبو إسلام يحترف صنعة الدهان‘ - قصة قصيرة بقلم : محمد سليم انقر من الطيبة
-
الجيّد.. السيّء.. الأسوأ.. - بقلم : زياد شليوط من شفاعمرو
-
قراءة في ديوان ‘على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت‘: الجرأة والجمال - بقلم : د. أحمد رفيق عوض
-
زجل للزَّيتون - بقلم : أسماء طنوس من المكر
-
قراءة في الديوان الرابع عشر للشاعر سامر خير بعنوان ‘لا بُدّ للصّخر أن ينهَزِم‘
-
قصيدة ‘كُنتَ الفتى الأبيَّ المُهَاب‘ - بقلم : الدكتور حاتم جوعية من المغار
-
‘وذرفت العاصفة دمعة‘ - بقلم: رانية فؤاد مرجية
-
‘ الاستيقاظ مبكراً صحة ‘ - بقلم : د. غزال ابوريا
-
قصة كفاح - بقلم : رانية فؤاد مرجية
أرسل خبرا