‘بنو البشر يعبدون جلّادهم ويهينون من يكون وفيًّا لهم‘
هي مجموعة من النقاط تتّصل معًا لترسم صورة مقلقة للغاية، يعتبرها البعض نهائيّة فيقلّلون من خطورتها، ويعتبرونها تحوّلًا عاديًّا تحكمه التغييرات السياسيّة والحزبيّة. ويعتبرها آخرون مرحليّة ما يؤكّد خطورتها البالغة بل المصيريّة،
المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت وقناة هلا
ويحذِّر من أن القادم أسوأ، وأنّ ما كان سيكون هو حالة حالكة السواد، تنعدم فيها الحريّات والعدالة والنزاهة والشفافيّة، وتختفي الشجاعة السياسيّة والمصداقيّة الشخصيّة والمهنيّة، ويتم التضحية بكلّ ما سبق " فداءً لقائد أو لحزب" وليس للمصلحة العامّة، وتصبح الديمقراطيّة الإسرائيليّة الحاليّة بكلّ نواقصها وعيوبها، حلمًا ورديًّا في أحسن الحالات وإطلالًا يبكي الجميع عليها في حالات أخرى، وصولًا إلى وضع تبدو معالمه واضحة على ضوء ما تشهده إسرائيل في الأشهر التي انقضت منذ تشكيل الحكومة الحالية عامّة، والأسبوعين الأخيرين خاصّة، عبر "توافق جماعيّ " على مواقف معيّنة في عدد من القضايا، وتجاه بعض التصرّفات الحكوميّة، دون أن يجرؤ أحد فردًا كان أم حزبًا على البوح بموقف مخالف، أو أن يقف منتصبًا ليقول كما في قصّة " ثياب الملك الجديدة" لكريستيان أندرسن، إن الملك عارٍ، وأن الحقيقة مغايرة تمامًا لما يريد السلطان، أو أن يقول أحدهم، خاصّة من أولئك الذين وبصوت جوقة واحدة وموحّدة يصوّتون لمصلحة الانقلاب القضائيّ، إن إصلاح الجهاز القضائيّ لا يتمّ هكذا، وأنه أصلًا ليس هدف هذه الخطوات، بل إنها تجيء لتحقيق مآرب شخصيّة، أوّلها تخليص رئيس الوزراء من عواقب الملفّات الجنائيّة المقدّمة ضدّه، والتي ستنتهي بإدانة أقلّ ما فيها خيانة الثقة والائتمان حتى لو اعتقد القضاة أنّ إدانته بتهمة الرشوة صعبة ومعقّدة، وحزبيّة يمينيّة ملخصها فرض أجندات يمينيّة استيطانيّة ، وأجندات أخلاقيّة ملخصها شرعنة الفساد والتعيينات غير المبرّرة وإهدار المال العامّ، ما سيقود إلى وضع تصبح فيه إسرائيل ليس فقط دولة الحاكم الواحد والحزب الواحد، بل دولة الرأي الواحد والصوت الواحد، وهو الصوت المنغلق والمتطرّف الذي يعتنق، بل يقدّس القيم والمنطلقات الفئويّة الضيّقة، وليس القيم الإنسانيّة والعالميّة المشتركة للدول والشعوب الديمقراطيّة، لكن الأسوأ وربما الأخطر، ربما هو ما حدث من تكرار التصريحات المعتادة حول الأمن والردع خلال وبعد العمليّة العسكريّة في جنين، رغم ثقة الجميع بمن فيهم المستوى السياسيّ والعسكريّ أن تكرار مثل هذه العمليّات تمامًا كما في غزة، لا يشكّل الحلّ، وأنّ الحلّ العسكريّ ليس ممكنًا، مع الإشارة هنا إلى حالة إسرائيلية خالصة تتحوّل فيها حرية الرأي، واختلاف الموقف إلى حالة مرفوضة تقارب الخروج عن الإجماع، أو ربما الخيانة في حالات الحرب أو العمليّات العسكريّة، وبالتالي يقف الجميع من المعارضة والائتلاف صفًّا واحدًا مؤيّدين مرحّبين مهدّدين متوعّدين، وهم في قرارة أنفسهم يدركون الحقيقة، وهي أنّ تكرار ما كان ، لن يغيّر من الحال شيئًا، وأن الشجاعة الأخلاقيّة والوطنيّة الصادقة تتطلّب قول الحقيقة حتى لو كانت مؤلمة. ولكن يبدو أن الحقيقة والسياسة في إسرائيل هما خطّان متوازيان لا يلتقيان ولن يلتقيا، وهذا في أفضل الأحوال، وأن الشجاعة الأخلاقيّة والإنسانيّة والسياسيّة والقيميّة أصبحت سلعة غير قائمة في السياسة الإسرائيليّة، أما الحديث عن المصلحة العامّة ومصلحة الدولة فهو في خبر كان، وقد حلّت محلّه الاعتبارات الشخصيّة والضيّقة، والمواقف التي تجيء لنيل الرضى والاستحسان.
هذا ما تعيشه إسرائيل في السنوات الأخيرة، فهي تعيش حالة تفتقر فيها الساحة السياسيّة والحزبيّة، وهذا ما يبرز في الأشهر الأخيرة خاصّة، إلى المصداقيّة والحقيقة والشجاعة ، فالجميع في الأحزاب المختلفة اليهوديّة، يقف وقفة رجل واحد خلف عمليّة عسكريّة يدرك الجميع أنها لن تحقّق أيّ هدف، وأنها ربما ستجعل الأوضاع أكثر خطورة وتوتّرًا، وأنها لا تتعدّى كونها تنفيسًا عن غضب، ومحاولة لوقف التدهور في استطلاعات الرأي، أو لإرضاء شريك ائتلافيّ غاضب يريد المزيد من القمع والاضطهاد ، وليس ذلك فحسب، بل إن "الحديث بصوت واحد وموحّد لا يشوبه شائبة" وصل الإعلام الإسرائيليّ بكافّة استوديوهاته وصحفه ومواقعه الإلكترونيّة ، التي شابها الإجماع على ضرورة ضرب الفلسطينيّين وتلقينهم درسًا لن ينسوه أبدًا، يجب الوصول إليه بكافّة الطرق والوسائل، وإن لم تكن عسكريّة وعمليّاتية فحسب، فلتكن عبر تجريف البنى التحتيّة وهدم الطرق والمنشآت العامّة والممتلكات الخاصّة، والتي نقلت شبكات التلفزيون صورها ببث مباشر، دون أن تجد بين آلاف المجانين عاقلًا واحدًا يقول إنه حان الوقت لقول الحقيقة الناصعة، وإن لم تكن جيّدة ومقبولة، وأن يقول إنه كفى التكرار والاجترار، أمّا من استجمع شجاعته وطالب بالتفكير مليًّا في الأمر، فقد تعرّض للانتقاد والتخوين، وتمّ اتهامه بالتعاون مع العدو والإرهاب، فإسرائيل اليوم هي دولة لا تعترف في حالات التوتّر الأمنيّ بحقّ البعض في التعبير عن الرأي المغاير، وذلك بخلاف حالات مشابهة في ماضي هذه الدولة التي تحلّى بعض السياسيّين والضباط والجنود والمفكّرين بالشجاعة الأخلاقيّة والسمعة الأكاديميّة ليقولوا الحقيقة، بدءًا بالمفكّر يشعياهو ليفوفيتش الذي اعتبر احتلال الضفة الغربيّة ونشوة الانتصار جرّاء ذلك وبالًا على إسرائيل وقيمها الديمقراطيّة والإنسانيّة، بل على يهوديّتها، مرورًا بالمواقف التي أبداها ضباط كبار في الجيش الإسرائيليّ خلال حرب لبنان عام 1982، والتي كانت حركة" يوجد حد" التعبير الأوضح عنها عبر معارضتها للاجتياح الإسرائيليّ للبنان ، إضافة إلى رسائل ضباط كبار في الجيش عبّروا فيها عن معارضتهم للاجتياح مؤكّدين أنه يخدم جهات غير إسرائيل( حلفاء إسرائيل في لبنان وخاصّة حزب الكتائب اللبنانيّة، وهو الاجتياح الذي انتهى إلى مذبحة صبرا وشاتيلا) ، علمًا أنه اتّضح بعد ذلك أن أهداف هذه الحرب لم يتمّ عرضها بشكل واضح وصريح أمام رئيس الحكومة آنذاك، مناحيم بيغن، الذي أعلن اعتزاله لاحقًا واشتهر بقوله:" لا أستطيع أكثر"، في تعبير عن تحمّله للمسؤوليّة وتحلّيه، رغم مواقفه السياسيّة، بالشجاعة السياسيّة والمصداقيّة ، وكذلك قضيّة الاستيطان اليهوديّ في الضفة الغربيّة والتي عارضتها شخصيّات عسكريّة وسياسيّة وأكاديمية وحقوقيّة ضمن حركة "السلام الآن"، والتي دفع أحد أفرادها وهو إميل غرينتسفايغ حياته ثمنًا لموقفه المعارض للاحتلال في الضفة والحرب في لبنان، والدعوة للانسحاب من الضفة الغربيّة، وإنهاء الاحتلال والقول إن "لا ديمقراطيّة مع الاحتلال"، والدعوة للانسحاب من جنوب لبنان، والتي قادتها حركة "أربع أمهات" بدعم من ضباط في الجيش وسياسيّين، انتهت عام 2000 إلى سحب الجيش الإسرائيليّ من جنوب لبنان في ظلّ حكومة أهود براك، إضافة إلى قضية العامل الفنيّ في المفاعل النووي في ديمونة، مردخاي فعنونو، الذي حذَّر من أخطار التسلّح النوويّ وامتلاك إسرائيل سلاحًا ذريًّا، واحتمال أن يؤدّي ذلك إلى سباق تسلّح نوويّ في الشرق الأوسط، وكلّها حركات وجهات لاقت الدعم الإعلاميّ وصولًا إلى الدعم الجماهيريّ. لكنّ الحال تغيّر لتصبح إسرائيل، كما هي اليوم وخاصّة في عهد حكومة نتنياهو السادسة، دولة يهوديّة منغلقة متطرّفة تتّجه نحو الدكتاتوريّة والصوت الواحد، وتعتبر تنوّع المواقف والآراء حالة مرفوضة، وأن التعبير عن أيّ موقف يرفض الاحتلال، ويعارض السياسة الرسميّة ضربًا من الخيانة والتخلّي عن الوطنيّة، بل دعم الاعداء، بل إن إسرائيل تحوّلت من دولة أقيمت بواسطة الشرعيّة الدوليّة وتأييد العالم إلى دولة ترفض الشرعيّة الدوليّة، وتعتبرها غير ملزمة، بل لا حاجة لها فهي صاحبة الجيش الذي لا يقهر وصاحبة الحقّ الشرعيّ والتوراتيّ في السيطرة على الضفة الغربيّة وغور الأردن، كما قال الوزير إيتمار بن غفير ردًّا على انتقادات الرئيس الأمريكيّ جو بايدن، والتي تحدّثت عن تطرّف الحكومة ليرد الوزير بأن أرض إسرائيل تابعة لشعب إسرائيل بحكم ووفق تعليمات توراة إسرائيل. أمّا العالم الذي كان بمعظمه "معنا" فقد تحوّل الشعار إلى " العالم كلّه ضدنا"، وما دام الأمر كذلك، فلا مكان للرأي المخالف، ولا مكان لأصوات السلام وقت الحرب، ولا مكان للبحث عن التعايش وحلّ الدولتين والحقوق السياسيّة للفلسطينيّين في الضفة الغربيّة، أو المواطنين العرب داخل إسرائيل، ما دامت الحكومة ووزراؤها لا يؤمنون بذلك، ولا شجاعة لدى أيّ من النواب في الليكود وأحزاب الائتلاف، ليقول إن الانقلاب القضائيّ، يهدف إلى هدم الجهاز القضائيّ، وتكريس الدكتاتوريّة وسيطرة الرجل الواحد والحزب الواحد، وإنقاذ رئيس وزراء متهم بالجنايات، وأنه ليس حاجة أولى وملحّة للدولة، بل محاربة ومكافحة غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، وخاصّة أسعار الشقق والخدمات والفائدة المصرفيّة والتوتّرات الأمنيّة على مختلف الجبهات والتوتّر في العلاقات مع الولايات المتّحدة، بل القطيعة معها كما أكّدت تصريحات الرئيس الأمريكيّ جو بايدن الأخيرة ، حول كون الحكومة الحاليّة الأكثر تطرّفًا في حكومات إسرائيل منذ سبعينيّات القرن الماضي، حتى لو كان يعتقد ذلك، فالمصلحة العامّة ومصلحة المواطنين ومصلحة الدولة اليوم في إسرائيل تحتلّ المرتبة الثانية في أحسن الأحوال بعد مصلحة الزعيم، بل ربما الثالثة بعد مصلحة الزعيم والحزب وأحزاب الائتلاف، أمّا المبادئ والقيم والحقيقة والتحلّي بالشجاعة والمصداقيّة فهي " سلعة أكل عليها الدهر وشرب"، بل نوع من النوستالجيا والحنين إلى الماضي.
" أخطر شخص في أمريكا"
أقول هذا وأستذكر في هذا السياق، قصّة الأمريكي دانيال ألسبرغ، وهو مواطن أمريكيّ يهوديّ، توفي عن عمر ناهز 92 عامًا، في السادس عشر من حزيران العام الحالي، وهو الموعد الذي كانت إسرائيل فيه تضع النقاط على آخر حروف استعداداتها لاجتياح مدينة جنين ومخيّمها، والذي وصفه البعض بأنه " أخطر شخص في أمريكا" من جهة، أو "كاشف أسرار حرب فيتنام" من جهة ثانية في تسميتين تكشف كلّ منهما موقف منطلقهما من نشاط ألسبرغ، والذي يتّفق كثيرون أنه محلّل عسكريّ بارع كان صاحب أثر كبير وحاسم في السياسة الأمريكيّة، بل أثّر في صياغة التاريخ العسكريّ الأمريكيّ والصحافة الأمريكيّة، باعتباره من قام بتسريب وثائق ومستندات سرّيّة من وزارة الدفاع الأمريكيّة البنتاغون، عن حرب فيتنام، عام 1971. وهي الحرب التي كانت واحدةً من أكثر الصراعات إثارة للجدل في الولايات المتحدة رافقتها احتجاجات شعبيّة، في خطوة جعلته يدخل التاريخ من أوسع أبوابه بعد أن اتّضح أن المعلومات التي كشفها وكلّها تستند إلى وثائق سريّة من وزارة الدفاع، كشفت الحقائق الدامغة ومنها الأهداف الحقيقيّة للحرب الفيتناميّة، والدوافع التي أدّت بالولايات المتّحدة إلى الغوص في مستنقع هذه الحرب التي بدأ دور الولايات المتحدة فيها منذ العام 1955 وصولًا إلى مشاركة تامّة ودائمة منذ ستينيّات القرن الماضي انتهت عام 1973 عبر انسحاب القوّات الأمريكيّة من فيتنام، بعد خسائر تكبّدتها وسط مظاهر وفظائع بحق المدنيّين لا تنسى، ووسط مظاهر تكاد لا تنسى من الهروب، وترك العملاء في فيتنام يلقون مصيرهم، وأدّت إلى مصرع نحو 58000 من الجنود الأمريكيّين. لم تكن تلك الوثائق عاديّة، بل إنّها ألقت الضوء على الأسرار وكشفت الحقائق حول كيفيّة انزلاق أمريكا من دعم مؤقّت ومحدود للقوات الأمريكيّة في نزاع مسلح اندلع بين دولتين آسيويّتين هما فيتنام ولاوس، إلى مشاركة واسعة ودائمة عبر نشر مئات آلاف الجنود الأمريكيّين، وحرب ضد جماعات مسلّحة فيتنامية منها "الخمير روج " أي الخمير الحمر، وعشرات آلاف القتلى دون سبب، إلا نكاية بالاتحاد السوفييتيّ الذي دعم النظام الفيتناميّ، كما كشفت هذه الوثائق النقاب عن السبل التي اتّبعها السياسيّون في أمريكا لخداع الرأي العامّ، وممارسة سياسة الكذب والتضليل بدعم من وسائل إعلام معيّنة، حول أسباب اندلاع الحرب وسقوط الجنود القتلى، وغيرها من الحقائق حول الأسباب الحقيقيّة التي وقفت وراء قرارات السياسيّين ، والتضحية بحياة عشرات آلاف الجنود وعشرات آلاف الجرحى وأضرار اقتصاديّة لا تقدّر بثمن للاقتصاد الأمريكيّ وللصناعات الأمريكيّة .
لم أذكر دانيال ألسبرغ هنا صدفة أو عبثًا، فهو الذي كانت فعلته دليلًا على أمور عديدة أوّلها أنّه يملك المصداقيّة الشخصيّة والشجاعة الأخلاقيّة الكافية، ليدرك أن مصلحة البلاد العامّة هي المرتبة الأولى، وأن "اعتماد السياسيّين على نظريّة القطيع" هي نظريّة لا يمكنها أن تسري إلى الأبد، وهو ما فعله ألسبرغ، الذي ولد عام 1931 ونشأ لعائلة يهوديّة في ديترويت، ثمّ التحق بجامعة هارفارد، وحصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد عام 1952، ثمّ درس في جامعة كامبريدج عبر منحة من صندوق فولبرايت، ثمّ تابع الدكتوراه في الاقتصاد بجامعة هارفارد، ثمّ التحق بمؤسّسة للأبحاث الاستراتيجيّة والسياسة العسكريّة، ما فتح له أبواب العمل في البنتاغون في عام 1964، وتمّ تكليفه بمهمّة تعزيز الوجود الأمريكيّ في فيتنام، في الوقت الذي كان فيه الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، يعد علنًا بعدم إرسال المزيد من الجنود الأمريكيين إلى فيتنام، أو إلى أتون حربها، وبالتالي أمضى ألسبرغ فترة طويلة بلغت نحو عامين في فيتنام واقترب من الضابط "جون بول فان" الذي اشتهر بمواقفه في مواجهة سياسات أمريكا في فيتنام والتي اعتبرها سياسات مضلّلة. ومن هنا بلغ الأمر بألسبرغ إلى كشف الوثائق السريّة، التي كشفت الحقائق وكون الحرب هناك عبثيّة، وأن الولايات المتحدة اختارت "عن طيب خاطر وبقرار من قادتها وبوعي وإدراك كاملين" أن تتّخذ القرارات الخطأ، وأن تكون في الجانب الخطأ، وأن تحاول تغليف الأسباب الحقيقيّة للمشاركة في الحرب، وهي فقط مقارعة الاتحاد السوفييتيّ ومنع انتشار وسيطرة الشيوعيّة، بحجج أمنيّة وسياسيّة واهية ملخّصها الدفاع عن أمن المواطن الأمريكيّ، وضمان هيمنة أمريكا وردع الاتّحاد السوفييتيّ (يذكّرنا بالتصريحات حول العمليّة العسكريّة في جنين)، ما جعل ألسبرغ يشكّك عمليًّا ليس فقط في طبيعة وصحّة القرارات ذات الصلة، بل بالمسوّغات الأخلاقيّة لهذه القرارات خاصّة بعد أن تيقّن من البون الشاسع، بل التناقض الصارخ بين التصريحات العلنيّة للحكومة والتقييمات الخاصّة التي أدلى بها الخبراء العسكريّون، فقام عام 1971، بنسخ وتسريب "أوراق البنتاغون"، للصحافة .
تسريب هذه الوثائق بما لها من تأثير، كما اتّضح لاحقًا على الرأي العام الأمريكيّ، وتعزيز قوّة الجماعات المعارضة للحرب، ناهيك عن نتائجها وإسقاطاتها القانونيّة والإعلاميّة حيث يكاد البعض يجزم أنها مهدت لكشف تورط الرئيس نيكسون عام 1974 في فضيحة "ووترغيت"، لم يكن خطوة متسرّعة ودون دراسة العواقب والنتائج، بل إن دانيال ألسبرغ، أدرك أن خطوته هذه ورغم كونها التعبير الأفضل والأنصع عن حرصه على مصلحة بلاده والحفاظ على حياة الجنود ومنع السياسيّين من التسبّب بوقوع الأضرار السياسيّة والاقتصاديّة وفقدان الأرواح وزيادة الشرخ الاجتماعيّ الداخليّ والسياسيّ في الولايات المتحدة، ومنع تدهور وضعها على الساحة الدوليّة، قد تؤدّي إلى إيداعه في السجن لفترات طويلة للغاية تزيد عن 100 عام، وقد تبلغ 115 عامًا، خاصّةً وأن هناك من اعتبر عمله خيانة كبرى، حتى أن وزير الخارجية الأمريكيّ السابق هنري كيسينجر وهو يهوديّ الأصل، وصف ألسبرغ بأنه" أخطر رجل في الولايات المتحدة"، حيث واجه تهمًا خطيرة يتضمّنها قانون التجسّس، لكنّ المحكمة رفضت الدعوى المقدّمة ضدّه في النهاية بسبب سوء تصرّف الحكومة، وملاحقته غير القانونيّة والتجسّس والتنصّت عليه، واقتحام عيادة كان يتعالج فيها، وهي أحداث وتطوّرات انتهت إلى فضيحة "ووترغيت" واستقالة الرئيس ريتشارد نيكسون لاحقًا.
لم يرق تصرّف ألسبرغ هذا لإسرائيل حينها، وخاصّة اليوم، ولم تعتبره يهوديًّا مخلصًا، بل تجاهلت وجوده علنًا ولم تحاول الدفاع عنه أو مساعدة عائلته، بل إن شخصيّات يهوديّة رفيعة المستوى في الولايات المتحدة ومنها هنري كيسينجر كما ذكرت، اعتبرته خائنًا مسّ بالمصالح الأمنية الأمريكيّة، في حالة شكّلت مقدّمةً للوضع الحاليّ في إسرائيل الذي تتغيّر فيه القيم والمعايير في مثل حالة ألسبرغ، وفقًا للمصلحة الخاصّة والضيّقة، أي وفقًا لمصلحة إسرائيل، وليس وفق معايير إنسانيّة وعالميّة، تعتمد الأخلاق وترفض التضليل والتضحية بحياة الأبرياء لأهداف سياسيّة وحزبيّة شخصيّة ضيّقة، أو للحصول على أرباح حزبيّة، وزيادة شعبية الحزب والقائد، وهو ما اتّضح جليًّا في علاقة إسرائيل بالجاسوس الأمريكيّ اليهودي الأصل جوناثان بولارد الذي ارتكب نفس فعلة ألسبرغ من حيث تسريبه لوثائق سريّة، بل شديدة وعالية السريّة، وحكم عليه بالسجن 30 عامًا ، ليتم إطلاق سراحه ليس قبل أن تعلنه إسرائيل بطلًا قوميًّا ويهوديًّا مخلصًا، رغم ما أرتكبه من مخالفات خطيرة للغاية، حتى انتهى به الأمر إلى الإقامة في إسرائيل، التي اعترفت عمليًّا أنها هي التي " وظّفت بولارد جاسوسًا لها" ، ولكن تغيّرت التفاصيل فتغيّرت القيم، وأصبح بولارد ،ولأنه سرَّب وثائق سرية لإسرائيل وليس لغيرها، بطلًا قوميًّا، حتى لو كانت الوثائق لحليف وصديق كالولايات المتحدة، مقابل ألسبرغ الذي تجاهلته إسرائيل وهاجمه يهود أمريكا، ومقابل مردخاي فعنونو العامل في منشأة ديمونا النوويّة، الذي كشف وثائق سريّة تضمّنت أكاذيب وتضليلا حول السلاح الذريّ والنوويّ في إسرائيل محذّرًا من أخطاره، فاعتبرته إسرائيل جاسوسًا لاحقته في أرجاء العالم واعتقلته وسجنته 18 سنة..
"سلعة غير متاحة"
هذه هي إسرائيل اليوم التي أصبحت المصداقيّة والشفافيّة فيها سلعة غير متاحة، وانتهى عهد الشجاعة السياسية كما كان في عهد مناحيم بيغن في الثمانينيّات من القرن الماضي، وإسحق رابين في السبعينيّات، وغيرهما من وزراء استقالوا بسبب شبهات جنائيّة، جعلت السياسيّين الآخرين يعتبرونهم عبئًا ويعتبرون تصرّفهم عارًا، وبالتالي عليهم الاستقالة وإخلاء الساحة السياسيّة، دون أن يخشى أولئك السياسيّون أن يتم الانتقام منهم بسبب مواقفهم هذه، ودون أن ينتقم منهم الزعيم أو الحزب، باعتبار أن المصلحة العامّة هي الأهمّ والواجب الدفاع عنها بكلّ الطرق والوسائل، ومهما كلَّف ذلك من ثمن، ودون أن يخشى الكاشفون عن الحقيقة في الحقّ لومة لائم، وهذا ما يحدث وأفضل تجسيد له هو الصمت إزاء السياسات الاقتصاديّة والعسكريّة والاجتماعيّة للحكومة، دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض، ودون أن يقوم " ألسبرغ إسرائيليّ" يقول الحقيقة، ويطالب الحكومة بتقديم الشرح للمواطنين حول استمرار تضليلهم ومواصلة السياسات التي لا تصبّ في مصلحة أحد، ولا المصلحة العامّة باستثناء مصلحة الزعيم والحزب، وهي الدليل على أن إسرائيل أصبحت جزءًا من الشرق الأوسط، ما يطرح نفس السؤال حول ما إذا كان العالم العربيّ سينعم ولو مرّة واحدة بمواطنين، أو مسؤولين يضعون مصلحة الدولة والوطن فوق مصلحة الزعيم، ويملكون الشجاعة والجرأة والمصداقيّة، ليقولوا للملك وللزعيم العاري إنه عارٍ . وهل سينعم المجتمع العربيّ بشخصيّات ومواطنين يتحلّون بالشجاعة لإيقاف الخارجين عن القانون عند حدّهم وكشف حقيقتهم وتوجيه إصبع الاتهام اليهم، إضافة إلى الشرطة، أو الإشارة ولو تلميحًا إلى كون مجتمعنا يردّد الشعارات ولا يطبّقها، ويجيد الخطب العصماء دون أن ينفّذها، وينتظر الفرج أن يأتي دون أن يحرّك ساكنًا لتعجيل وصوله، ليبقى اتّكاليًّا خائفًا ، أي هل سنعم بمن يملكون من الشجاعة ما يجعلهم يضعون أمام القيادات مرآة حقيقيّة تعكس الواقع دون رتوش، وتقول الحقيقة مهما كلّفت، بشجاعة تجعلهم كما القول الشهير يموتون مرّة واحدة بينما يموت المنافق والجبان ألف مرّة كلّ يوم، بعدد كذبه ونفاقه ووتيرته، في وقت يمكن وصفه في العالم وإسرائيل بأنه عصر الخداع، وبالتالي يصحّ فيه قول جورج أورويل:" في وقت الخداع العالميّ يصبح قول الحقيقة عملًا ثوريًّا" .
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]
من هنا وهناك
-
هدنة الشمال : هل ستكون لغزة ‘ نافذة النجاة ‘ ؟ بقلم : علاء كنعان
-
التّراث الفكريّ في رواية ‘حيوات سحيقة‘ للرّوائي الأردنيّ يحيى القيّسي - بقلم : صباح بشير
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب في بانيت : حتى نلتقي - ممالك وجمهوريات
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
أرسل خبرا