تنتهي الديمقراطيّة حين تحكم الديماغوغيّة والتضليل عقول الناس
بخطوط متزامنة عديدة يتواصل سير الأمور في إسرائيل في الأسابيع العشرة الأخيرة. أوّلها احتجاجات شعبيّة تزداد وتتعاظم للأسبوع الحادي عشر على التوالي بمشاركة مئات آلاف المواطنين من كافّة المناطق
المحامي زكي كمال - تصوير موقع بانيت وصحيفة بانوراما
والمشارب والتوجّهات، وبمشاركتين خجولتين من المواطنين العرب، ويمينيين يدركون في قرارة أنفسهم أن السباق التشريعّي المحموم الذي تمارسه الحكومة، وائتلاف اليمين اليمينيّ بامتياز، لا يفيد. وأنه يجب وقفه، أو على الأقلّ تخفيف سرعته. يرافق ذلك ازدياد يشكّل الضوء الأحمر، الذي يبدو أن الائتلاف الحاليّ يتعامى عن رؤيته، وفي مقدمته رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي يواصل التصرّف وكأنه متفرّج لا حول له ولا قوة، ولا ناقة ولا جمل، يتذرّع بوثيقة منع تناقض المصالح التي وقّعها، والتي تمنعه قانونيًّا ومنطقيًّا من التعامل، أو التدخّل في قضايا تتعلّق بالجهاز القضائيّ، رغم إدراكه التامّ أن عبارة واحدة منه تكفي لوقف حمّى التشريع. يصاحب ذلك ازدياد أعداد وثِقَل الهيئات التي تُنْذِر بعصيان مدنيّ، أو هيئات جنود احتياط تنذر بعدم الانصياع لتعليمات عسكريّة، إذا ما وصلت الخطوات التي تشرّعها الحكومة إلى تقويض الجهاز القضائيّ والمحاكم والسيطرة بعدها على الإعلام إلى مبتغاها، الذي يريده لها وزير القضاء ياريف ليفين، ورئيس لجنة الدستور سمحا روطمان. أمّا الخطّ الثاني فهو مواصلة الائتلاف حمّى التشريع المجنونة دون أيّ استعداد للإصغاء حتى لطلب رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ وقف الخطوات التشريعيّة، أو كما قال، إزالتها من الوجود نهائيًّا. ويرافق ذلك ازدياد في مشاعر العداء بين مؤيّدي كلّ من هذين الخطّين، وما تمخّض عنها من اعتداءات على المتظاهرين في عدّة مدن يهوديّة، وتصريحات وزير الأمن الداخليّ إيتمار بن غفير ضدّ الشرطة ومحاولته السيطرة عليها، وتنحية قائد شرطة لواء تل أبيب الضابط عميحاي إيشد، لأنّه لم ينصع لأوامر الوزير وتدخّلاته المتواصلة في نشاطات الشرطة الميدانيّة خلافًا للقانون ومواقف المستشارة القانونيّة للحكومة، لكنّ السياسة الإسرائيليّة، وكما أثبتت في الماضي أنها لا تعترف بالقوانين والأعراف وتقاليد الحكم المختلفة في العالم فإنها تثبت أن الخطّين المتزامنين محليًّا يرافقهما خطّ ثالث سياسيّ واقتصاديّ عالميًّا ودوليًّا، وخطّ رابع عسكريّ وسياسيّ واقتصاديّ إقليميًّا. وهي خطوط لم تلتق حتى الآن، ويبدو أنها لن تلتقي، فكلّ يتحصّن في موقفه، ويغالي في اتّهام الطرف الآخر بأنه "سرق الدولة الديمقراطية" التي أقيمت عام 1948، هدم النظام الديمقراطيّ، وهدم هيبة المحاكم، أو أنه فوضويّ ومستهتر لا يعترف بالحسم الديمقراطيّ، أي بنتائج الانتخابات، والتي أسفرت عن 64 مقعدًا لليمين مقابل 56 لليسار والمركز والأحزاب العربيّة (رغم أن الفارق في عدد الأصوات بين المعسكرين هو نحو 40 ألف صوت فقط) . لكنّ الوضع المذكور سابقًا، لا يتوقّف عند تشابك وتضارب الخطوط السابقة الذكر، بل إنه يثير أسئلة هامّة يتمحور أوّلها حول إمكانيّة تنفيذ وتطبيق نتائج الإصلاحات التي يريدها اليمين، ومعظمها شخصيّة وفئويّة ومتطرّفة دينيًّا حتى إذا تمكّن من تشريعها، وهو سؤال يمكن الجزم بأن إجابته ستكون سلبيّة، وذلك بسبب معطيات على أرض الواقع أهمّها أن "أغلبيّة المصوّتين أو الغالبيّة الانتخابيّة" لم تترجم، أو لا تعني أغلبيّة في مواقع التأثير في القطاعات وجوانب ومناحي الحياة المختلفة وخاصّة الاقتصاديّة والأمنيّة والقضائيّة والإعلاميّة والاجتماعيّة، فهذه الأغلبيّة تضمّ في معظمها فئات ضعيفة علميًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا وحتى قضائيًّا، بعكس " جحافل المعسكر الآخر الرافض لهذه الخطوات والتغييرات القضائيّة"، والذي تمكّن من إيضاح وكشف هويّة وماهيّة وكنه ما وراءها، وتحديدًا الرغبة في إنقاذ بنيامين نتنياهو من براثن العدالة، وتكريس الفساد وتبييض صفحة وزراء أدينوا بمخالفات جنائيّة أكثر من مرّة منها ما تكرّر، وقبعوا في السجن، وتحويل إسرائيل إلى دولة متديّنة أو دولة شريعة، وبضمن ذلك إسدال الستار على أيّ خطوات معناها، أو هدفها إنهاء الاحتلال واستبدال ذلك بالضمّ الفعليّ، كما يريد الوزيران بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وأنصارهما، فإضعاف الجهاز القضائيّ وترهيب القضاة ومنع المستشارين القضائييّن، ومعهم المحاكم من إلغاء قرارات يتّخذها البرلمان مهما كانت، يعني عمليًّا تكريس الاحتلال ووأد احتمالات الحلّ السياسيّ والدبلوماسيّ، في حالة تعيد إلى الأذهان الحال الذي كانت عليه إسرائيل عام 1977 وهو العام الذي خسرت الأحزاب العمّاليّة التي أقامت الدولة مقاليد السلطة لحزب الليكود وزعيمه الخطيب الفذّ مناحيم بيغن، فعناوين الصحف الإسرائيليّة والعالميّة تحدّثت في الحالتين عن حكومة متطرّفة ومتهوّرة ستشعل النار في الشرق الأوسط. إضافة إلى أن الحزب الفائز في الانتخابات لم ينجح لأسباب موضوعيّة، منها الفارق الثقافيّ والاقتصاديّ بين مصوّتي اليمين ، ومعظمهم شرقيّون وفقراء وبمستوى غير عالٍ من الثقافة، من جهة واليسار (النخبة الثقافيّة والاقتصاديّة والأمنيّة ) من جهة أخرى، في تحويل السيطرة السياسيّة إلى سيطرة جماهيريّة وإعلاميّة. ولم يتمكّن من تحسين أوضاع مصوّتيه، أو زيادة تأثيرهم رغم ازدياد عددهم. وهو ما فعله المناوئون من المركز واليسار عبر فتح مجالات التعليم الأكاديميّ أمام أبناء الضواحي الجغرافيّة والاجتماعيّة، وذلك بإقامة كليّات أكاديميّة في هذه المناطق في شمال إسرائيل وجنوبها، وإنشاء مناطق صناعيّة في الجنوب والشمال.
إلى كلّ ما سبق تُضاف حقيقة واحدة قد تشير إلى خطورة الخطوات الحاليّة التي تشرّعها الحكومة حول الجهاز القضائيّ، وتؤكّد أن نصف مواطني الدولة بل أكثر، يرفضون أن تسقيهم الحكومة "ماء الحياة بِذُلَّةٍ"، أي أنهم لا يكتفون بالرفاه الاقتصاديّ في ظلّ سيطرة القوانين الدكتاتوريّة، أو المسّ بالحريّات الديمقراطيّة، أو تسهيل سيطرة الأحزاب والتوجّهات الدينيّة (دولة الشريعة) على البلاد، كما تعني بعض بنود الإجراءات والخطوات القضائيّة، ومنها مثلًا السماح للمحاكم الدينيّة اليهوديّة بالبتّ في قضايا مدنيّة، رغم أن هذه المحاكم تعتبر شهادة المرأة أمامها أمرًا مرفوضًا، بل لا تسمح لها بذلك أصلًا، بل إنهم يؤكّدون أهميّة الديمقراطيّة والعلمانيّة حتى لو شملت الحفاظ على الوضع الراهن في الشؤون الدينيّة، وبالتالي يمكن الجزم أن أعداد المتظاهرين والمحتجّين المعارضين للانقلاب القضائيّ، أو الانقلاب الدستوريّ هو حقيقة فاجأت الجميع بمن فيهم السياسيين في المعارضة وقادة حركات الاحتجاج، وهي حركات يموّلها ويحرِّكها رجال أعمال من قطاع الهايتك، ويرسم خطط عملها ضبّاط سابقون في الجيش، وعالم الاتصالات والإعلام، وفي مقدّمة أولئك ضباط في سلاح الجوّ ووحدات النخبة، ومقابلهم لا فائدة ترجى ولا جدوى للصارخين ومُصْدِري الضجيج العنيفين من أنصار الليكود واليمين حتى لو رافقتهم وسيلة إعلام واحدة قليلة التأثير، بل عديمة التأثير أحيانًا فهي( القناة 14) تعمل على " إقناع المقتنعين وشتم المعارضين"، وليس دون ذلك، ناهيك عن أن غوغائيّة وعدائيّة مواقف أعضاء البرلمان من الائتلاف العنيفين كلاميًّا، وغيرهم ممّن يسارعون إلى التهديد والتخوين وإطلاق الشائعات حول تمويل أجنبيّ وتدخّل للمخابرات الأمريكيّة وغيرها ، ليأتي الردّ إسرائيليًّا على الصعيدين الجماهيريّ والإعلاميّ على شاكلة مئات الآلاف من المحتجّين الذين يتظاهرون، وهم يرفعون أعلام الدولة باللونين الأزرق والأبيض، ويؤكّدون أنهم كمن بني هذه الدولة وخدم في جيشها وموسادها وغيرها من أجهزة الأمن، وبنوا اقتصادها وشركات الهايتك فيها، يدينون بالولاء للديمقراطيّة والمساواة وحقوق الإنسان والعلم والأكاديميا والقيم السامية، وليس لشخص دون غيره، بينما مئات آلاف الشبان المتديّنين المتزمّتين يتهربّون من الخدمة بحجّة دراسة التوراة في المدارس الدينيّة، دون أيّ مساهمة اقتصاديّة، أو أكاديميّة، أو ثقافيّة وتربويّة وحضاريّة، بل إنّهم يثقلون كاهل ميزانيّة الدولة باعتمادهم على مخصّصات من الوزارات المختلفة تبقيهم جهلة وفقراء، يدين كلّ منهم وفق انتمائه بالولاء لجهة أخرى فالليكوديّون يدينون بالولاء الأعمى لنتنياهو، والمستوطنون يدينون بالولاء للمستوطنات، بينما يدين الحريديم المتزمّتين دينيًّا بالولاء للحاخامات وعلماء التوراة وتعاليمها وتعاليمهم. أمّا هيئة "كوهيليت "القضائيّة اليمينيّة المتطرّفة، وهي الروح الحيّة خلف الانقلاب القضائيّ والدستوريّ فولاؤها لأموال الدعم من اليهود الأمريكيّين.
"صفعة قاسية"
وإذا كان الخطّان السابقان، ورغم تحذيرات خطيرة اقتصاديّة كان آخرها رسالة وجّهها أرباب الصناعة إلى رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ، طالبوه فيها بوقف ما وصفوه بأنه جنون وتهوّر وانجراف خطير، ورسالة أكثر من 250 من كبار المستثمرين إلى نتنياهو وبنفس الروح، لا يثيران قلق واهتمام نتنياهو الذي يواصل الصمت ربما استعدادًا لتراجع في اللحظة الحاسمة، وهو ما فعله في حياته السياسيّة مرّات ومرّات، أو بانتظار نتائج الانقلاب القضائيّ آملًا انحسار الاحتجاجات الشعبيّة الجماهيريّة، فمن المؤكّد أن الخطّين الثالث والرابع العالميّ والإقليميّ لا بدّ سيثيران قلقه، رغم أنه ليس من المؤكّد أن يثنيا قادة الانقلاب القضائيّ والدستوريّ عن نواياهم، فنتنياهو الذي زار روما وبرلين خلال الأسبوع ونصف الأخيرين سمع من قادة واقتصادييّن هناك، ومن رؤساء الجاليّات اليهودية في هاتين الدولتين - وسيسمع ذات الشيء الأسبوع القادم خلال زيارته إلى لندن (التي تبدو أحوال نتنياهو وحكومته اليوم أشبه ما تكون بحال حكومة رئيسة الوزراء البريطانيّة السابقة ليز تراس، التي اضطرت للاستقالة بعد أقلّ من شهرين من الحكم، وسنعود إلى ذلك بتوسّع لاحقًا)، العديد من التحفظات والانتقادات شديدة اللهجة لخطوات الانقلاب القضائيّ والدستوريّ، وتأثيرات ذلك على إسرائيل وعلاقاتها مع دول العالم، وكذلك التأثيرات الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة لذلك وغيرها، فهو يدرك أن عدم دعوته إلى واشنطن، رغم مرور أكثر من شهرين على انتخابه رئيسًا للحكومة، خلافًا لما كان متّبعًا في العلاقات السياسية المتبادلة بين أمريكا وإسرائيل، هو الدليل على مشاعر الحنق والغضب والإقصاء التي تسود واشنطن وإدارة بايدن ضدّه خاصّة، وضدّ حكومته ووزرائه عامّة، فبتسلئيل سموتريتش وصل واشنطن منبوذًا وسط رفض جارف وتامّ من المسؤولين الأمريكيّين حتى صغار الموظّفين بينهم لقاءه، أو استقباله، أو المشاركة في اجتماعات يحضرها هو، وهو ما سيحدث خلال زيارته القريبة إلى فرنسا. أمّا إقليميًّا فالمصائب لا تأتي فرادى، فالسعوديّة التي وصفها نتنياهو حتى يوم الخميس الماضي بأنها الهدف القادم لاتّفاقيّات أبراهام التي يريد توسيع نطاقها، وجهت له صفعة قاسية - وكذلك لواشنطن بايدن - صفعة قاسية باستئناف العلاقات الدبلوماسيّة والعسكريّة والأمنيّة والاقتصاديّة مع إيران، وتزامن ذلك مع التأكيد مرّة أخرى أن استمرار الاحتلال والهجمات على الفلسطينيّين، وعدم إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة عاصمتها شرقي القدس، عوامل تمنع إقامة أيّ علاقات بين الرياض وتل أبيب. وتأكيدًا لذلك جاء قرار السلطات السعوديّة منع وفد إسرائيليّ من المشاركة في مؤتمر أمميّ سياحيّ في مدينة العُلا السعوديّة، وكذلك منع وزير الخارجيّة إيلي كوهين من دخول السعوديّة (وهنا يجب أن نسأل ما علاقة وزير الخارجيّة بنشاط سياحيّ عاديّ إلا إذا كان اختياره لتمثيل إسرائيل هناك)، وليس وزير السياحة حاييم كاتس تذاكيًا إسرائيليًّا تمقته السعودية. وإذا كان ذلك لا يكفي نتنياهو جاء إعلان الإمارات العربيّة المتّحدة وقف وتجميد صفقات أسلحة وصفقات أمنيّة وتجارية أخرى بين الإمارات وإسرائيل احتجاجًا على الاعتداءات المستمرّة على المدن الفلسطينيّة، وتصريحات الوزير سموتريتش ونوّاب آخرين من الأحزاب المتطرّفة حول ضرورة حرق وإبادة بلدة حوّارة الفلسطينيّة. وهو تراجع خطير يسحب البساط من تحت أقدام نتنياهو ومؤيّديه الذين يلوّحون باتفاقيّات أبراهام، باعتبارها إنجازًا فذّا لزعيم فذّ، نسي مؤيّدوه أن الديمقراطيّات، لا تتفتّت ولا يبدأ انهيارها بفعل عوامل خارجيّة، بل أساسًا بفعل عوامل داخليّة، أي أنها تقضي بنفسها على نفسها بفعل استفحال عوامل القصور والفشل والأمراض الداخليّة، وضعف أجهزة مناعتها، وفي مقدّمتها الجهاز القضائيّ والبرلمان والجيش والخلافات الداخليّة الفئويّة، وعزوف المواطنين العاديّين عن المطالبة بحقوقهم الديمقراطيّة، والاكتفاء بملّذات الحياة والمصلحة، أو الفائدة الضيّقة، والاعتقاد خطأً أن الحكّام يريدون فقط مصلحة الشعب، وتجاهل البوادر، أو الإشارات التي تشير إلى بداية انهيار الديمقراطيّة، والتعامي عن بوادر تتراكض في مخيّلة وعقل الحاكم خلاصتها ونهايتها التحوّل إلى دكتاتوريّة، كما قال الكاتب الإيطالي أنياتسو سيلونا المناهض للفاشيّة والستالينيّة، في كتابه "مدرسة الدكتاتورييّن" الذي صدر عام 1938، بمعنى أن الحكومات في الدول الديمقراطيّة لا تنهار، ولا تنتهي مدّتها الدستوريّة بتدخّل القوى الكبرى، وبالتالي على المحتجّين ضدّ الانقلاب القضائيّ والدستوريّ في إسرائيل أن لا ينتظروا الفرج من تدخّل أمريكا والعالم، الذي يقينًا لن يستعجل تهديد مصالحه الاقتصاديّة والأمنيّة والأخرى مع إسرائيل، ناهيك عن أن نتنياهو إذا ما كان قد عقد العزم على تغيير معالم الجهاز القضائيّ وانقلاب الدستور فإن شيئًا لن يثنيه عن موقفه، بل تنهار بفعل نزعات دكتاتوريّة خبيئة لدى زعمائها الذين يتظاهرون بالديمقراطيّة ويتغنّون بها، وبفعل انهيار اقتصادها أولًا وضعف تماسكها الداخلي ثانيًا. وهذا ما تشهده إسرائيل حاليًّا، وهو الدرس الذي يدركه نتنياهو، وأفضل مثال عليه هو ما حصل لحكومة ليز تراس في بريطانيا ، بفارق بسيط أن ترا س طرحت خطّة اقتصاديّة عارضها رجال المال والمصارف والاقتصاد والسياسة، وانتقدتها دول العالم المختلفة، لكنّها أصرّت عليها رغم التحذيرات، وتعنّتت مؤكّدة أن خطّتها ستسفر عن تحسين وضع المواطن اقتصاديَّا، وستعزّز من مكانة بريطانيا السياسيّة العالميّة والأوروبيّة، لكنّها وبعد أقلّ من شهرين اكتشفت أن خطّتها الطموحة، والتي نفّذتها بسرعة البرق أدخلت بريطانيا في دوّامة اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة، حاولت إصلاحها بتعيين وزير جديد للماليّة، ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان، وبعد أن وقعت الفأس بالرأس، وتحوّلت تراس إلى " بطّة عرجاء" ثمّ اضطرّت إلى الاستقالة، بعد أقل من شهرين بفعل عوامل داخليّة اقتصاديّة واجتماعيّة، فهل هذا ما ينتظر نتنياهو، أو ما يجب أن يخشاه الليكود ، خاصّة على ضوء المعارضة الشديدة وغير المسبوقة جماهيريًّا للخطّة القضائيّة والانقلاب الدستوريّ والتهديد الذي تشكّله على الاقتصاد وصناعات الهايتك والمصارف والاستثمارات الدوليّة والمحليّة من جهة، والحديث عن تآكل في الدعم الذي تحظى به خطوات ليفين- روطمان داخل الليكود، وربما الدلالة الأولى هي تغيّب القياديّ الليكوديّ يولي إدلشتاين عن التصويت على مشاريع قانون تصبّ في مصلحة نتنياهو وأرييه درعي وتمسّ بإسرائيل اقتصادًا وقضاءً وبعلاقاتها الدوليّة، وصمت قيادييّن آخرين منهم اسرائيل كاتس وزير الطاقة، وحتى داني دانون سفير إسرائيل السابق في الأمم المتّحدة ،والحديث عن توتّر بين ياريف ليفين وزير القضاء ونتنياهو الذي يريد إبطاء وتيرة التشريعات لكنّه يخشى تهديدات ليفين بالاستقالة وبتفكّك الائتلاف، واستعداد البعض ولو صمتًا داخل الليكود لخطوة كهذه حتى لو كانت نتيجتها استقالة ليفين واستبداله بوزير آخر، رغم ما يبدو حاليًّا من اصطفاف تامّ لأعضاء البرلمان الليكودييّن واليمينيّين حول نتنياهو، والدفاع عنه أو خوض حروبه والضرب بسوطه، مرحليًّا على الأقلّ، مع الإشارة إلى استمرار حملة الليكود واليمين الديماغوغيّة والتضليليّة التي تدّعي أن الخطوات القضائيّة والدستوريّة ستحسن وضع الجميع، وتخدير العامّة وجعلهم ينسون القضايا الأساسيّة كغلاء المعيشة والأسعار والشقق وزعزعة الأمن الشخصيّ، ويهتمّون بقضايا أقلّ أهميّة، لكنّها الأهمّ للقائد المتّجه نحو الدكتاتوريّة، الذي يقنع أتباعه أنه الأهمّ، وبالتالي فإنّ بقاءه هو المهمّة الرئيسيّة وعليهم الاكتفاء بالحقوق البسيطة ومقوّمات الحياة الأساسيّة فلتنتظر قضاياهم عطفه وتحقيق غاياته أوّلًا، حتى لو كان ذلك على حسابهم وحساب أغلى ما يملكون ، وهو أفضل وصف للحال اليوم. ومن هنا جاءت موافقة الليكود ونتنياهو ضمن الاتّفاقيّات الائتلافيّة على قانون حكم الإعدام للفلسطينيّين الذين يدانون بارتكاب عمليّات عدائيّة، رغم أبعاده الخطيرة على الصعيد الحقوقيّ الدوليّ، ورغم أن حكم الإعدام تمّ إلغاؤه في معظم الدول الأوروبيّة باعتباره ليس عقوبة رادعة، وهو ما أكّدته كافّة الدراسات التي بحثت حكم الإعدام على أنّه لا يردع المدانين جنائيًّا، فكم بالحري المدانين قوميًّا وفكريًّا وعقائديًّا، ناهيك عن أن المجتمعات المتحضّرة وإسرائيل تدَّعي أنها منها، لا تعمل وفق منطق : " العين بالعين والسنّ بالسنّ والبادئ أظلم"، فالمدان بالاغتصاب لا تتمّ معاقبته باغتصابه، كما أن مشاعر الغضب لأيّ جريمة قتل لا تبيح ارتكاب جريمة قتل موازية كنوع من العقاب. ولذلك، عارض رؤساء كافّة الأجهزة الأمنيّة في إسرائيل عام 2018 خلال نقاش حول الموضوع، فرض حكم الإعدام فهو سيخلق "أساطير وأبطالا ضحّوا بحياتهم"، ولن يردع أحدًا خاصّة في مجتمع يخضع للاحتلال، بل إن الإعدام سيشكّل حافزًا لتنفيذ عمليّات اختطاف لمواطنين وجنود إسرائيليّين، ومحاولة خاطفيهم إجراء عمليّات تبادل لإطلاق سراحهم، مع التأكيد أن القانون المقترح، صيغ بطريقة تجعله قابلًا للتطبيق على الفلسطينيّين والعرب فقط، وليس على مواطنين يهود ارتكبوا عمليّات وجرائم قتل على خلفيّة قوميّة، كما يحدث اليوم في الضفّة الغربيّة.
"كسر الجهاز القضائيّ"
الاحتجاجات الحاليّة، رغم أن البعض يعتقد أنها تخدم رواية نتنياهو، وتغذّي مشاعر العداء بين أنصاره وفق معادلة نحن من فاز بالأغلبيّة ونريد بسط السيطرة، وهم من يرفضون الاعتراف بنتائج الانتخابات ويتصرّفون بشكل فوضويّ وبتمويل من خارج البلاد، هي دليل حياة وحضارة وصحّة وعافية، وتأكيد على أن المحتجّين يرفضون أن يؤدي اليمين ونتنياهو إلى كسر الجهاز القضائيّ، وبعده موت النظام والحياة الديمقراطيّة والاقتصاد والفكر والكلمة الحرّة، بل يصرّون على رفض الكسر، أو على الأقل يصرّون على إشفاء ما يكسره نتنياهو وائتلافه وإعادته إلى الحياة، أو إبقائه على قيد الحياة حتى لو مصابًا قليلًا. وهذا دليل حضارة يذكِّر بما حصل مع عالمة الإنتروبولوجيا مارغريت ميد التي سألتها طالبتها عن أول علامات الحضارة ، فأجابت ميد :" إن أوّل علامة على الحضارة في ثقافة قديمة هي إثبات وجود شخص شفي من كسر في عظم الفخذ، خلافًا لتوقّعات الطالبة أن تكون الفؤوس أو الأواني الفخاريّة، أو الأحجار تلك العلامة، لتقول ميد أن الموت هو المصير المحتوم في مملكة الحيوانات ( حيث لا حضارة، بل صراع بقاء يأكل القويّ فيه الضعيف دون رحمة) لمن يكسر أحد أعضائه، لأنه سيتحوّل إلى فريسة سهلة، دون أن يكون له الوقت الكافي للشفاء والبقاء على قيد الحياة، بعكس الإنسان الذي يتم شفاؤه من أيّ كسر في الفخذ، أو عضو آخر، ما يعني أن الفخذ الذي تم شفاؤه دليل على أن شخصًا ما قضى وقته في البقاء مع الشخص الذي سقط، ووضع الشخص في مكان آمن واعتنى به حتى تعافى"، أي أن التكاتف والتعاضد في مواجهة الصعوبات هو نقطة انطلاق الحضارة ، وأن الحضارة هي تكاتف المجتمع، فما بالك إذا كان هذا التكاتف والتعاضد يتمثّل بمئات آلاف المتظاهرين والمحتجّين أسبوعيًّا، بل أكثر من مرّة كلّ أسبوع، فهل سيسمح هذا التعاضد بكسر فخذ الجهاز القضائيّ والديمقراطيّة، أو قصم ظهرها، أو كسر عمودها الفقري ما سيؤدّي إلى شللها في أحسن الأحوال وموتها ربّما؟
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]
من هنا وهناك
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
أرسل خبرا