وماذا سيبقى حين ينجلي الغبار؟
وفي الحرب والمعارك كما في الحرب والمعارك، إذ إنّ انتشار غبار المعركة في كثير من الأحيان من شأنه أن يخفي عمدًا، أو عن طريق الصدفة، بعض الحقائق والوقائع والتفاصيل الصغيرة،
المحامي زكي كمال - تصوير موقع بانيت وصحيفة بانوراما
لينشغل الجميع بالصورة الكبيرة، أو المحصّلة النهائيّة دون الالتفات إلى التفاصيل سواء تلك المتعلّقة بالبدايات أو النهايات، وبالأحرى الدوافع الرئيسيّة والأسباب الحقيقيّة للحرب سواء كانت حربًا عسكريّة، معركة سياسيّة انتخابيّة أو أخرى، وهذا ما اتّضح من أمثلة قريبة وبعيدة فالحرب الروسيّة على أوكرانيا والتي أعلنت روسيا بوتين، ضمن غبار الحرب وعمليات التمويه، أنّ سببها هو رغبة أوكرانيّا في الانضمام إلى حلف الأطلسيّ، ليتّضح أن هذا لم يكن السبب الرئيسيّ، بل إنه ربّما شكّل " حجّة تسويقيّة"، وأنّ الحقيقة هي أن روسيا بوتين لم تسلِّم أبدًا، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتيّ باستقلال أوكرانيا، بل ضمرت الشرّ لأوكرانيا وتحيَّنت الفرصة المواتية لضربها. وكذلك حرب الخليج الأولى والثانية والتي اتّضح أن" سببها المعلن" وهو امتلاك عراق صدام حسين أسلحة بيولوجيّة وكيماويّة، كما ادّعت تقارير استخباراتيّة إسرائيليّة استندت إليها الولايات المتحدة، كان غبارًا أطلقته أمريكا لتبرير الاجتياح، أمّا السبب الرئيسيّ فهو سياسيّ يتعلّق، كما اتّضح بموقف بريطانيا وأمريكا من العراق وغيرها وغيرها، وهكذا هو الحال في معارك سياسيّة كثيرة ومتعدّدة منها ما هو متكرّر، كما هو الحال في إسرائيل في الانتخابات، أو المعارك الانتخابيّة التي تكرّرت خمس مرّات خلال أقل من ثلاثة أعوام، لتسفر الأخيرة منها عن "حكومة يمين مئة بالمئة"، تضمّ غلاة اليمين والمستوطنين والأحزاب المتديّنة الشرقيّة منها والغربيّة، وكذلك الليكود الحزب الأكبر، والذي سرعان ما اتّضح له أنّ فوزه في الانتخابات " كان جيّدًا وحاسمًا أكثر ممّا أراد"، أو أنّه " نافعة كانت ضارّة". فهو أسير أحزاب صغيرة تحمل توجّهات تصل حدّ الخطورة، وهو ما أكّدته الاتفاقيّات الائتلافيّة التي تمّ توقيعها بين الشركاء في الائتلاف الحاليّ وحكومة بنيامين نتنياهو السادسة، وهي "حكومة اليمين مئة بالمئة" التي لم تكد تنهي حتى أيّامها الأولى المئة، لكنّها أدخلت إسرائيل في معركة توشك أن تصل حدّ الحرب والصدام، أو حتى الحرب الأهليّة، تدور رحاها حول " ما تتراوح تسمياته ومسمّياته وأهداف المبادرين إليه" بين " إصلاح قضائيّ" وبين " تدمير قضائيّ"، وبين تغيير نظام الحكم، وتتراوح الاحتجاجات عليه والتي تتواصل منذ عشرة أسابيع بمشاركة مئات الألاف من كافّة قطاعات الشعب الإسرائيليّ وفئاته، والتي وصلت حدّ إعلان طيّاري احتياط في سلاح الجوّ الإسرائيليّ وأطباء يؤدّون الخدمة الاحتياطيّة العسكريّة وغيرهم من احتياطيّين في وحدات النخبة العسكريّة، عزمهم عدم مواصلة تأدية خدمتهم العسكريّة، إذا تمّ تنفيذ الخطوات والتغييرات القضائيّة المزمعة، وتتراوح بين اعتبارها في نظر مؤيّديها "مظاهرات إنقاذ الديمقراطيّة من براثن من يريد هدمها"، وإنقاذ إسرائيل من مصيرٍ آلت إليه بولندا وهنغاريا من حيث الانحدار من ديمقراطيّة شكليّة حتى إلى دكتاتوريّة يحكمها رجل واحد بكلّ ما يعنيه ذلك من انهيار اقتصاديّ وإفقار للفقراء وإقصاءً للدولة (خاصّة وأن إسرائيل تتباهى بكونها الستارت أب نيشين"، وبين اعتبارها " فوضى أو أناركيزم ، أي عدم الانصياع لسلطة واحدة، أو نشاط دون حاجة لسلطة مركزيّة واحدة"، وانشغال تامّ لوسائل الإعلام الإسرائيليّة بذلك وسط تناسٍ لوظيفتها في نقل المعلومات، والانتقال إلى صياغة الموقف، أو التحيّز دون تعمّق أو بحث.
"غبار إعلاميّ وسياسيّ كثيف"
ما ذكرته سابقًا يحدث وسط غبار إعلاميّ وسياسيّ كثيف لا فرق بينه، وبين غبار المعركة، فهدف كلّ منهما خاصّة حين تتمّ إثارتهما عمدًا ومع سبق الإصرار والترصّد، هو إلهاء الخصم وصرف انتباهه ومحاولة مباغتة من جهة، والتستّر على الوقائع والحقائق وتسويق ما يريده كلّ طرف، أو محاولة إخفاء الأسباب الحقيقيّة للمعركة ، وما أقصده هنا أن ما يحدث في إسرائيل هو ليس خلافا قضائياّ، أو حزبياّ أو سياسيّا أو حتى اجتماعيّا، وليس نزاعًا له جذور طائفيّة، أو غيرها، وليس أمرًا يمكن التوصّل فيه إلى حلٍّ وسط، أو إلى تسوية ترضي الطرفين المتخاصمين أو المختلفين، حتى دون أن يحقّق كلّ منهما مئة بالمئة من مبتغاه وأهدافه، فالسبب هو ليس صلاحيات الجهاز القضائيّ، وليس قراراته والتي تعاني تشويهًا مقصودًا ومغالطة مع سبق الإصرار، وليس تركيبة لجنة اختيار القضاة، ولا فقرة التغلّب، ولا المبادئ السببيّة، أو النسبيّة ولا غيرها، فهذه هي "الرمّانة" وفق المثل العامّي المعروف" مش رمّانة وإنما قلوب مليانة"، أي أنها ظواهر وعلامات المرض وفق التعريفات الطبيّة، وليست أسبابه الحقيقيّة، فالخلاف الحاليّ في إسرائيل، أو المعركة الحاليّة. وهي التي لا يبدو أنّ نهايتها قريبة، أو حتى ممكنة خاصّة في ظلّ تمترس كلّ من طرفي المعركة في مواقفه الرافضة لأيّ حلّ وسط أو مساومة، هو ليس خلافا بين يمين أو يسار أو متديّنين وعلمانيّين أو ليبراليّين ، بل هي حالة حاول الجميع في إسرائيل إخفاءها رغم أنها رافقت دولة إسرائيل، بزخم كهذا أو ذاك وبقوّة متفاوتة، منذ أول يوم لتأسيسها عام 1948، وهي معركة بين توجّهين وجماعتين في المجتمع اليهوديّ، لكلّ منها في حقيقة الأمر وواقعه " قواعد وقوانين لعبة خاصّة به"، أو أنّ كلًا منهما تحدّد بشكل منفرد حدود وطرق تفكيرها، وطرق تجسيدها على أرض الواقع، وهو ما يطابق وصفًا كان توماس كون قد استخدمه عام 1962، لوصف حالة تتفاوت فيها توجّهات مجموعتين من العلماء سماه "الباراديغم" وهو مُصطلح استخدمه للمرّة الأولى كون في كتابه "بنية الثورات العلميّة"، ليفسِّر به" عمليّة ونتيجة التغيير التي تحدُث ضِمْن المقدِّمات والفرضيّات الأساسيّة لنظريّة علميّة ما في مرحلة محدَّدة من الزمن" وهو مصطلح مُنذ أن استخدمه كون، انتشرَ استعماله بشكلٍ واسعٍ؛ حتَّى في مجالات أخرى من التجربة الإنسانيّة. و"الباراديغم" عند كون يعني: مجموعة القوانين والتقنيّات والأدوات المرتبطة بنظريّة، ووفقها يُمارس الباحثون عملهم، ويُديرون نشاطاتهم، وحالما تتأسَّس تتّخذ اسمَ العلم العاديّ. وبفضل هذا المصطلح تمكَّن كون من شرح وجهة نظره في تاريخ العلم؛ فرآه عبارة عن تاريخ باراديغمات مُتعاقبة، مُختلف واحدها عن الآخر اختلافًا نوعيًّا إلى الحدِّ الذي لا يُمكن مقارنته كما قال، أي نظرة جديدة إلى الكون والطبيعة تقضي على نظريّة سابقة، وهو ما ينطبق على إسرائيل سياسيًّا اليوم ، وعلى الخلاف الحالي فهو ليس خلافًا على الطريقة، أو الكيفيّة، بل على الجوهر، أي ليس خلافًا حول حدود صلاحيّات الجهاز القضائيّ، أو الفصل بين السلطات كما يقول نتنياهو ومؤيّدوه مدّعين أن القضاء يسيطر على السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة فيلغي فصل السلطات، وليس نضالًا لمنع المسّ بالجهاز القضائيّ، كما تقول المعارضة الحاليّة، بل هو معركة بين توجّهين البون بينهما كما البون بين الثرى والثريا، الأوّل هو ما يريده اليمين اليوم بعد أن تيقن بأحزابه المتديّنة المتزمّتة والصهيونيّة الدينيّة والليكود أنها الفرصة السانحة، وربما تكون الوحيدة لجعل إسرائيل " الدولة التي نريدها أن تكون"، أي تلك التي تمتدّ جغرافيًا من النهر إلى البحر، وتشمل الضفة الغربيّة، وربما قطاع غزّة لاحقًا رغم الانسحاب من طرف واحد عام 2005، وتحوّل احتلال الضفة الغربيّة من " حقيقة أو حالة مؤقّتة"، مكَنَّت إسرائيل حتى اليوم ومنذ عام 1967 من التحايل على الإرادة والقرارات الدوليّة وإيهام العالم أنها لا تريد ضمّ الضفة الغربيّة، بل تعتبر أراضيها وديعة إلى حين إعادتها إلى الفلسطينيّين شرط توفّر شريك مناسب تريد إسرائيل تحديد صفاته، ليلائم اعتباراتها ورغباتها ، وعبر استخدام جهاز القضاء الذي اعتبره العالم ديمقراطيًّا وليبراليًّا للدفاع عن هذا الموقف، وشرعنة الاستيطان دون أن يشكّل ذلك منفذًا إلى عقوبات دوليّة، أو حتى إجراءات قضائيّة ولو شكليّة، وعدم الاكتفاء بذلك، بل إعلان إسرائيل دولة لليهود فقط، يصبح الباقون فيها مجرّد رعايا لا حقوق لهم. وكل ذلك عبر استغلال نتائج انتخابات برلمانيّة لم تكن هذه الطموحات موضوعها الرئيسيّ ولا حتى الثانويّ، بل إنها دارت حول الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة والنوويّ الإيرانيّ والأمن الشخصيّ واستفحال العنف، ليصل الحال بعد الانتخابات إلى حكومة ماضية في تمرير هذه الإصلاحات، ليس فقط لأنّها تخدم مصالح نتنياهو الشخصيّة، بل أيضًا، لأن الأحزاب الدينيّة المشاركة فيها ترى في هذه الإصلاحات فرصة لن تتكرّر لحسم الصراع على طابع الدولة، وإعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة بشكل ينسجم مع آرائها الفقهيّة ومنطلقاتها الأيديولوجيّة عبر استغلال تحييد تأثير الجهاز القضائيّ، وتحديدًا المحكمة العليا، أي عبر تنفيذ الباراديغما الخاصّة بها، وفرض حدود جديدة غير مسبوقة للتفكير السياسيّ والدينيّ هذه المرّة، عبر استغلال ما يسمّيه اليمين اليوم "قرار الشعب"، أي نتيجة الانتخابات التي لا تمّت بصلة إلى ما يحدث اليوم، بل إنها استغلال لحقيقة ما لتبرير تصرفات ما، في أفضل تجسيد لما قاله في القرن الثامن عشر جان جاك روسو، مفكّر الثورة الفرنسيّة من أن الديمقراطيّة الدكتاتوريّة تتحوّل إلى حقيقة عندما تقرّر أغلبيّة ما، أو مجموعة ما سياسيّة فرض هيمنتها وسيطرتها، بل الانفراد بما يمكن تسميته " رغبة الأغلبيّة"، أو الرغبة العامّة، أو رغبة العامّة، وتحويل ذلك إلى سياسة لا حدود لها، وإلى سياسة وحيدة لا تقبل الانتقاد أو النقاش، ولا يمكن تنفيذها إلا عنوة وعبر فرضها بالقوّة، ناهيك عن أن لعنة الطغيان تغلّف كلّ إيمان، أو اعتقاد بالخلاص المسيحانيّ، أو المصير الخلاصيّ، ( الصهيونيّة الدينيّة التي تؤمن بقدوم الملك المسيح المسيحانيّ) ، حين يتمّ ترجمته إلى نشاط سياسيّ، وبالتالي فإنّ التوجّه للحكومة الحاليّة خاصّة من حيث رغبتها النهائيّة والتامّة بالسيطرة على الضفة الغربيّة، إنما هو تعبير واضح عن أن ذلك هو ترجمة وتجسيد لحالة هذيان خلاصيّة مسيحانيّة متطرّفة نهايتها الحتميّة تحطيم، وهدم الديمقراطية في إسرائيل، لأن الواقع الحالي واحتلال الضفة الغربيّة يعني أن إسرائيل تطبق في الضفة نظام سيطرة يعتمد الفوقيّة اليهوديّة المتديّنة المتطرّفة. وهو نظام سينتقل، أو ربما انتقل إلى داخل إسرائيل إذا ما نظرنا الى قانون القوميّة الذي سنّته الكنيست عام 2018، والذي اعتبر إسرائيل دولة لليهود فقط، أو يهوديّة ثمّ ديمقراطيةّ لا يتمتّع غير اليهود فيها بحقوق متساوية سياسيّة، أو ثقافيّة، أو مدنيّة إلا بشروط، وأن الدولة تهتمّ فقط باليهود، وتقيم لهم فقط المدن وتوفّر لهم فقط السكن، ما يعني أنّ هذا القانون اعتبر الأوضاع في المناطق المحتلّة، أي إخضاع الفلسطينيّين للفوقيّة التي يمارسها اليهود والمستوطنون، والأوضاع داخل إسرائيل، أي إخضاع مواطني إسرائيل العرب الذين يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة إلى الفوقيّة اليهوديّة. حالة من الأواني المستطرقة، أي " الحال من بعضه" ، وبالتالي فإن حرمان الفلسطينيّين من حقوق الإنسان في الضفّة الغربيّة هو مقدّمة لحرمان المواطنين العرب في إسرائيل والأقليّات الأُخرى من حقوق الإنسان باعتبارها كلًّا لا يتجزّأ ومحوها في منطقة ما من الكيان وحرمان مجموعة منها لن تقف عند هذا الحدّ، بل ستنتقل إلى منطقة أخرى وأقلّية أخرى مدنيّة، أو دينيّة، أو سياسيّة، في المنطقة التي يقيم فيها الشعبان الفلسطينيّ واليهوديّ بين البحر والنهر، وستحاول الأغلبيّة تبريره بأنه" رغبة الشعب"، أو القرار العام، أو تجسيد لنتائج الانتخابات، وصدق فرانسيس فوكايوما حين قال:" إنّ الأغلبيّات الديمقراطيّة يمكن أن تقرّر فعل أشياء فظيعة لأقطار أخرى، ويمكن أن تتغوّل على الحقوق والقيم الإنسانيّة التي بني عليها نظامها الديمقراطيّ نفسه"، في حالة يصمت فيها مصوّتو الأغلبيّة إيمانًا منهم أن ما تفعله الحكومة الحاليّة هو الحوكمة، أو تنفيذ السلطة"، وهو ما نسمعه من اليمين والحكومة الحاليّة .
هذه الباراديغما، أو التوجّه ليس جديدًا بمفهومه العقائديّ فهو رافق إسرائيل منذ إقامتها لكنّه كان على نار هادئة خاصّة من جانب الأحزاب الدينيّة المتزمّتة (الحريديم) الذين رفضوا أصلًا فكرة الصهيونيّة، بل إقامة الدولة، واعتبروها مغالاة في إغاظة الأعداء وأصحاب السيطرة في العالم والمنطقة، حتى أنهم فضّلوا عدم المشاركة في الحياة السياسيّة والحزبيّة أصلًا، وأصرّوا على مواصلة دراسة التوراة بدل الخدمة العسكريّة، وأقاموا جهاز تعليم منفردا يتمّ فيه الفصل بين الجنسين دون دراسة المواضيع العلميّة، كما انقادوا خلف هيئات دينيّة تتّخذ نيابة عنهم القرارات السياسيّة والدينيّة والدنيويّة، وحتى الشخصيّة يطلقون عليها اسم" مجلس حكماء التوراة"، أو ما أشبه ذلك، تعتقد أن التوراة بتعليماتها الأصليّة هي التي تحمي إسرائيل وشعبها، وأنه من الواجب إقامة دولة شريعة يهوديّة وفق تعليمات التوراة، تسود فيها مواقف الهيئات الدينيّة والشخصيّات الدينيّة، وتسري فيها تعليمات الشريعة اليهوديّة حتى على غير اليهود، أمّا الأحزاب الصهيونيّة الدينيّة فركّزت في البدايات ومنذ عام 1967 خاصّة على الاستيطان وكأنّها تعتبره " أوامر إلهية " معناها أن أرض إسرائيل الكاملة هي ملكهم، وأن ذلك الأمر الإلهي هو ما يعنيهم، لكنّها في الوقت ذاته سعت إلى تعزيز تواجدها في كافّة القطاعات العسكريّة والأكاديميّة والحقوقيّة (منظمة كوهيليت اليمينيّة المتديّنة التي يدعمها الملياردير الأمريكيّ اليهوديّ جيفري ياس، التي تقود اليوم ما يسمّى الإصلاحات القضائيّة) حتى وصلت اليوم، وضمن حكومة اليمين الحاليّة إلى حالة تدرك فيها أنها الفرصة المواتية بفعل نتائج الانتخابات الأخيرة التي يدرك اليمين في قرارة نفسه أنها لن تتكرّر مرّة أخرى لأسباب عديدة ، لا مجال للخوض فيها في هذا السياق. وبسبب وجود نتنياهو الضعيف سياسيًّا بسبب ملفّاته الجنائيّة، لتنفيذ أجنداتها ، وربّما الفرصة الأخيرة، وما دامت المنطلقات والباراديغمات (حدود التفكير) هي كذلك فلا حاجة للمحاكم، ولا الانتخابات ولا الديمقراطيّة ولا للاقتصاد والهايتك والصناعات المتقدّمة، وحتى للعمل والإنتاج فالتوراة تضمن البقاء، ولا أهميّة لما يقوله العالم والأغيار، فالتوراة هي التي تحدّد السياسات في كافّة المجالات حتى الاقتصاديّة كما قال وزير الخزانة ( الماليّة) بتسلئيل سموتريتش. وهي التي تحكم الحلول، أو الإمكانيّات السياسيّة فلا انسحاب من الأراضي المحتلّة فهي أصلًا في عرفها جزء من أرض إسرائيل سيطر عليها الأردن من العام 1948 حتى العام 1967، كما قال سفير إسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد أردان، الليكوديّ القادم من عائلة متديّنة متزمّتة، ولا دولة فلسطينيّة، بل ربّما سعى إلى أرض إسرائيل التاريخيّة، أو التوراتيّة، والتي لا تعتبر غير اليهود مواطنين، بل رعايا مسلوبي الحقوق، وتشمل حدودها نصف الشرق الأوسط، ولا وزن إذًن للرأي العام العالميّ ودعم الدول الأخرى، أو معاداتها ، على شاكلة القول الشهير لدافيد بن غوريون :" ليس مهمًّا ماذا يقول الأغيار، بل إن المهم هو ما يفعله اليهود". ورغم أنّ هذا التوجه ليس جديدًا فكرًا وحتى ممارسة، فإنّ الجديد فيه أنّ" أنصار الباراديغما" هذه ولأسباب أهمّها رغبتها في تنفيذ أجنداتهم بسرعة خاطفة، لم يكتفوا هذه المرّة برسم "حدود تفكيرهم ونقاشهم"، بل إنهم يسعون عبر إضعاف الجهاز القضائيّ وتحويل الديمقراطيّة الإسرائيليّة، وإن كانت شكليّة إلى دكتاتوريّة الرجل الواحد، أي رسم حدود التفكير للغير وتحديدًا المواطنين العرب في إسرائيل، ووضعهم في خانة معدومي الحقوق، والكرام على طاولة اللئام يستجدون حقوقًا أساسيّة ويوميّة، بل قوت يومهم ربّما، والفلسطينيّون في الضفة الغربيّة وحصرهم في أنهم رعايا من الدرجة الثالثة وأعداء مَنَّت إسرائيل عليهم بعدم طردهم من الضفة الغربيّة فهي أرضها ، والمطلوب منهم الولاء والطاعة وحسن التصرّف، وكذلك الجماعات الليبراليّة والغربيّة العلمانيّة اليهوديّة التي عليها أن تقبل بدكتاتوريّة الأغلبيّة وبدولة إسرائيل تكون لليهود وتحديدًا للمتزمّتين والمتطرّفين منهم تحكمها التوراة ،وتناصب العالم كلّه العداء .
الباراديغما الثانية هي تلك التي ذكرتها للتوّ، وهي التي ما زالت تعتبر نفسها صاحبة دولة غربيّة النظام ديمقراطيّة الحكّام تسودها المساواة والحريّة في شرق أوسط تسوده الدكتاتوريّات، وكأنها "جَنَّة غَنَّاء وسط صحراء قاحلة" ، وهذا ليس من باب الكرم الحاتميّ، أو حسن النوايا، فهي التي كانت في سدّة الحكم أيام الحكم العسكريّ الذي تمّ فرضه على المواطنين العرب في إسرائيل من العام 1948 حتى العام 1966، وهي التي بدأت الاستيطان في الضفة الغربيّة، وهي التي خرقت قرارات الأمم المتحدة التي قامت أصلًا وفقًا لها. وهي التي صادرت الأراضي العربيّة ورفضت الاعتراف حتى بالمسؤوليّة الأخلاقيّة عن ترحيل مئات القرى الفلسطينيّة عام 1948 فكم بالحري رفضها الاعتراف بالمسؤوليّة التاريخيّة. بل من باب إيمانها أن بقاء إسرائيل وسط دول عربيّة، ربما يقبلها حكّامها وترفضها شعوبها ، منوط بكونها جزءًا من منظومة الديمقراطيّات الغربيّة التي تشمل محاكم قويّة تشكّل الجدار الحامي والواقي أمام عقوبات دوليّة، ونظام برلمانيّ يعمل على شرعنة كلّ ما تقرّره وتنفّذه السلطات فهي ديمقراطيّة تسمح بحريّة الفكر، وتملك اقتصادًا قويًّا وصناعات متقدّمة، وتشكّل موقعًا للاستثمار، وبالتالي فإن مصلحة الدولة، وفق هذه الباراديغما تقتضي إبقاء الوضع على ما هو عليه وصيانة الديمقراطيّة والجهاز القضائيّ، فهذا هو الضمان لبقاء الدولة وعدم تعرضها لمساءلات المحاكم الجنائية الدولية ومواصلة العالم الديمقراطي التعاطف معها ودعمها ماليًّا وعسكريًّا كما الولايات المتحدة ومليارات الدعم السنويّة، وسياسيًّا كما الدول الأوروبيّة في الشأن الإيرانيّ وغيره وغيره، ناهيك عن أن سيطرة هذه الباراديغما تعني استمرار هيمنة هذه الجماعات وهذه التوجّهات دون غيرها، فهي تدرك أن تأييد جزء كبير من الإسرائيليّين لنتنياهو رغم ملفّاته الجنائيّة، وما ألحقه من أضرار بالنظام السياسيّ الإسرائيليّ، ودفعه الدولة لمواجهة تبعات كارثيّة خدمة لمصالحه الشخصيّة، هو حالة مؤقّتة، أو مرحلة مؤقّتة يجب تجاوزها هذه المرّة فقط، فنتنياهو ليس أبديًّا، بل أنّه ربما في آخر أيّامه السياسيّة باقترابه من الثمانينات من عمره، ولا خليفة له يمكنه توحيد كلّ هذه الأحزاب اليمينيّة معًا، أو يحظى بما يحظى به نتنياهو من دعم وتأييد دون الحديث عن احتمالات شبه أكيدة بانقسام الليكود بعد رحيل نتنياهو، وليس فقط خطوة تدلّ على خفوت الفكرة الصهيونيّة كرباط جامع لليهود ، واستبدالها بالفكرة اليهوديّة المتزمّتة والدينيّة، وقد يؤسّس لتراجع إسرائيل وتقليص قدرتها على البقاء مزدهرة اقتصاديًّا ومدعومة سياسيًّا، فالقوّة العسكريّة لم تعد كافية في عالمنا اليوم.
لكن ما يخيف أصحاب هذه الباراديغما هو أنه ليس من الواضح ما إذا كان هناك أيّ احتمال لمواجهة الباراديغما المضادة، نظرًا لتفاوت الشغف بين التوجّهين، في المعركة الدائرة بينهما انطلاقًا من قول غابريل غارسيا ماركيز إنّ الإنسانيّة كالجيوش فى المعركة تقدّمها مرتبط بسرعة أبطأ أفرادها، والصحيح هنا القول إن نتائج المعركة الحاليّة في إسرائيل مرتبطة بسرعة ردود أبطأ أفرادها، وهو نتنياهو من جهة واحدة، فهو الذي يمكنه وقف الجنون الحالي إذا أراد لكنّه لا يريد انطلاقًا من مصالحه الشخصيّة، كما هو صحيح القول إن نتائجها منوطة بسرعة أسرع أفرادها، وهو ياريف ليفين وزير القضاء وسمحا روطمان رئيس لجنة الدستور البرلمانيّة اللذان يواصلان تنفيذ "الإصلاحات القضائيّة" بسرعة البرق، دون ان يعيرا أيّ انتباه للتأثيرات الاقتصاديّة الدوليّة وسحب عشرات مليارات الدولارات من إسرائيل وارتفاع الأسعار بشكل جنونيّ ما يثقل كاهل المواطنين كافّة ومعظمهم من الطبقات الفقيرة التي صوّتت لنتنياهو واليمين والأحزاب المتدّينة، لكنّها الآن مطية لتحقيق أهداف شخصيّة لم يتمّ التطرّق إليها خلال المعارك الانتخابية الأخيرة، تنحصر في تخليص نتنياهو من "شبح السجن وسلطة القضاء" وتمكينه من الحصول على تبرّعات بمبالغ طائلة لتغطية نفقات محاكمته خلافًا للقانون الحالي وتمكين أرييه درعي الوزير من الحزب المتديّن الشرقي "شاس" من استلام منصب وزير، رغم إدانته بمخالفات جنائيّة وسجنه لسنوات عديدة، وتمكين المستوطنين وأحزابهم من السيطرة على الضفة الغربيّة وإنهاء حلم الفلسطينيّين بدولة أو كيان آخر، وربما ستكون النتيجة منوطة بسرعة تحرّك الاحتجاجات الشعبيّة وخاصّة أبعادها الاقتصاديّة، وسحب الاستثمارات العالميّة والدوليّة، ونقل شركات عديدة مركز نشاطها من إسرائيل إلى دول أخرى، وهرب الأدمغة والقدرات والصناعيّين، إضافة إلى أبعادها العسكريّة الداخليّة وخاصّة الحديث عن ازدياد أعداد العسكريّين الاحتياطيّين الذين أعلنوا رفضهم تأدية الخدمة التطوعيّة الاحتياطيّة في وحدات مختارة من الجيش وخاصّة سلاح الجوّ الذي يعتمد في معظم نشاطاته على طيّاري الاحتياط، وبالتالي قد يؤدّي ذلك إلى عرقلة أيّ عمليّة عسكريّة قد تحاول إسرائيل تنفيذها ضد أهداف نوويّة إيرانيّة. وإذا ما اضفنا إلى ذلك تحذيرات رؤساء أجهزة الاستخبارات السابقين في إسرائيل من مغبّة وأخطار الانقلاب على الديمقراطيّة، ربما في تجسيد لصراعٍ حقيقيّ بين الدولة العميقة Deep State التي لن تسمح بتحويل إسرائيل إلى دكتاتوريّة، ولن تسمح بتدمير الجهاز القضائيّ، ولا بضمّ الضفّة الغربيّة من منطلقات أمنيّة وسياسيّة وليست مبدئيّة ، والدولة الحقيقيّة.
"وقف إطلاق النار"
المعركة بين هذين التوجّهين لن تنتهي قريبًا، حتى وإن توقّفت، أو شهدت هدوءًا لفترة ما جرّاء حلول وسط ما قد يتمّ التوصّل إليها بوساطة رئيس الدولة إسحق هرتسوغ، فرغم خطورة تداعيات فرض الإصلاحات القضائيّة على مصالح إسرائيل وسلامة مجتمعها، فإنه لا يوجد ما يدلّ على أنّ هناك مسارًا توافقيًّا يمكن أن ينقذها من هذه التداعيات، خاصّة على المدى البعيد، وبالتالي فإنّ "وقف إطلاق النار " إذا ما تم سيكون مؤقّتًا، وأن نجاح أيّ من التوجّهين، أو أيّ من الباراديغمات سابقة الذكر، منوط بحكمة من يقف في مقدّمتها، ومن يقودها ويحدّد خطواتها، أو سعة صدرهم، وإدراكهم لما عليهم أن يفعلوه للنجاح وتحقيق أهدافهم ما يُذكر بحديث سقراط الحكيم عن سرّ النجاح:" سأل شابّ صغير سقراط عن سرّ النجاح، فطلب منه أن يلتقي به بالقرب من النهر صباح اليوم التالي، وكان اللقاء، وطلب سقراط من الشابّ أن يتبادلا معًا أطراف الحديث، بينما يخوضان معُا مياه النهر، وعندما بلغ الماء منهما العنق فاجأ سقراط الفتى، ودفعه تحت الماء واجتهد الفتى مرّات عديدة من أجل الخروج، ولكن سقراط كان قويًّا، وأبقاه في الماء. وعندما بدأ لون الفتى يتحوّل إلى الزرقة رفع سقراط رأس الفتى من الماء. كان أوّل ما فعله الفتى بعد أن خرج من الماء هو اللهاث وأخذ نفس عميق، وهنا سأله سقراط ما الذي كنت تحتاج إليه أكثر من أيّ شيء آخر تحت الماء، فأجاب الفتى الهواء فقال سقراط هذا هو سرّ النجاح، عندما تجد لديك حاجة ملحّة للنجاح بالقدر الذي شعرت فيه بحاجة ماسّة للهواء تحت الماء سيتحقّق لك هذا النجاح، ولا يوجد سرّ آخر للنجاح سوى احتياجك للنجاح"، بمعنى أنّ حجم الإنجازات وحجم النجاح منوط بمدى التصميم من جهة، وبالقدرة على تحديد الأهداف بدقّة، وبالتالي يبقى السؤال: لمن ستكون الغلبة في نهاية المطاف، ومن هو الطرف من بين مؤيّدي الخطوات القضائيّة، وتغيير نظام الحكم ومعارضيها ، الذي سيتحلّى، أو يتحلّى بصحّة تحديد الأهداف، وبطول البال، أو النفس الطويل. وكيف سيكون الحال عليه في إسرائيل حين انتهاء المعركة حاليًّا. وهل هو الغرق أو النجاة في اللحظة الأخيرة؟ وفوق كلّ ذلك هل هي نهاية تامّة، أو أنها هدوء يسبق العاصفة، وربما القادم أسوأ، وقد أحسن الشاعر بديع الزمان الهمذانيّ وصف ما ستكون عليه حقيقة الحال بعد زوال غبار المعركة حين قال:" ستعلم حين ينجلي الغبارُ ... أفرسٌ تحتكَ أم حمار "!!!
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]
من هنا وهناك
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
أرسل خبرا