إصلاح قضائيّ حقيقيّ وتشريع عشوائيّ أم أحكام القطيع؟
هو مشهد ربما غير مسبوق، تفاوتت توصيفاته بين السرياليّ والمثير، وبين الخطير والديمقراطيّ وبين النصر المبين والخسارة المؤلمة، انطلاقًا من موقع وموقف صاحب الوصف، عاشته الكنيست (البرلمان الإسرائيليّ)
المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت
ومعها إسرائيل عامّة مساء الإثنين من هذا الأسبوع، في نهايته انطلق قطار "الإصلاحات القضائيّة "وفق تعريف الائتلاف الحكوميّ ممثّلًا بحكومة بنيامين نتنياهو السادسة، أو مشروع هدم وإضعاف الجهاز القضائيّ والديمقراطيّ، وفق تعريف المعارضة البرلمانيّة وأصحاب شركات الهايتك وكبار مسؤولي الشركات الاقتصاديّة والمصرفيّة. بعد إقرار بندين هما أول الغيث منها، يتطرّقان إلى تغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة، ومنح الائتلاف الحكوميّ اليمين الحالي وسياسيّيه ( وكلّ ائتلاف يأتي بعده)، السيطرة التامّة على اختيار القضاة، أي بكلمات أخرى اختيار القضاة وفق انتماء سياسيّ وولاء حزبيّ وانتماء إلى الطيف الدينيّ المحافظ، وليس وفق معايير قضائيّة ومؤهّلات موضوعيّة مثل المهنيّة والمصداقيّة والإيمان بالعدالة وتطبيق القانون دون مُحاباة، وإلى منع محكمة العدل العليا من إلغاء، أو شطب قوانين سنّتها الكنيست إلا بموافقة كامل قضاتها، وذلك وسط مظاهر فرح المؤيّدين وشعورهم بالجبروت والانتصار والاستنقاص من قيمة الاحتجاجات التي شهدتها إسرائيل طيلة شهرين، والشماتة بالمعارضة التي رفع أعضاؤها علم إسرائيل احتجاجًا على جبروت الائتلاف، فتمّ طردهم من قاعة البرلمان، عبر كرم المنتصرين وإبداء الرغبة في التفاوض والحوار دون أيّ التزام بوقف هذه التشريعات، أو تجميد تشريعها، وهو ما يشبه وضع المسدس المحشوّ بالرصاص على الطاولة، والحديث عن حوار دون إكراه، ناهيك عمّا رافق ذلك من احتجاجات وخطوات غير مسبوقة، وتضييق على عضوات في البرلمان خاصّة من صفوف المعارضة، ومنعهن من حمل حقائبهن الشخصيّة إلى داخل قاعة الجلسات. واستمرار للاحتجاجات وربما تزايد حدّتها ووتيرتها وسط أصوات تتحدّث عن نهاية الديمقراطيّة الإسرائيليّة، وانهيار الجهاز القضائيّ وهجرة الأدمغة ورؤوس الأموال بمبلغ يقارب عشرة مليارات دولار خلال الأسبوعين الأخيرين، واقتراب الحرب الأهليّة، وتعاظم احتمالات اغتيال سياسيّ آخر في إسرائيل، واستمرار محاولات الوساطة. وكلّ هذا وسط اهتمام إعلاميّ محليّ وعالميّ ظنّت فيه وسائل الإعلام المحليّة أن دورها لا يقتصر على تبليغ الجمهور بالحقائق والوقائع، بل يصل حدّ تثقيف الجمهور وإقناعه بما ينقله المراسلون كلّ من موقعه وانطلاقًا من مواقفه، لكن كلّ هذا لم يكن إلا الغلاف المعلن، أو المظهر الخارجيّ لما تعيشه إسرائيل، ولصورة برلمانها وحكومتها الحاليّة. وحلبتها السياسيّة التي ينطبق عليها القول "إن الصورة تساوي ألف كلمة" (وهي التي تعود إلى الأمريكيّ "فريد برنارد" الذي عمل في حقل الإعلانات، واختار الصورة بديلًا لكلمات مكتوبة كثيرة)، وهو مظهر خارجيّ، حتى وإن كان خطيرًا ومثيرًا للقلق، إلا أنه في الحقيقة أكثر من ذلك فهو يكشف حقائق حاول السياسيّون في إسرائيل إخفاءها في أحسن الأحوال، وتجاهلوها في أسوأ الحالات ملخّصها أن إسرائيل تعيش اليوم حالة سياسيّة متأزّمة وغير مسبوقة، وأن الحكومة الحاليّة من جهة، والمعارضة من جهة أخرى، مع تفاوت حجم مسؤوليّة كلّ منهما عن الوضع الراهن، تلعبان اليوم لعبة مقامرة سياسيّة سيتأثّر بها كافّة مواطني الدولة من اليهود والعرب على حدّ سواء، دون فارق في الانتماء السياسيّ، بل سيتأثر بها ربما العالم كلّه من باب اضطرار بعض دوله لإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل، ودعمها لها وخاصّة الولايات المتحدة، أو من باب إعادة النظر في تصنيف إسرائيل ضمن الدول الديمقراطيّة، أو التي كانت ديمقراطيّة جوهريّة وتحوّلت إلى ديمقراطيّة صوريّة، وبالتالي سيتم إعادة ترتيب سلّم أولويات التعامل الاقتصاديّ والأكاديميّ والعسكريّ معها وربما السياسيّ أيضًا، خاصّة أن ما يحصل يأتي في لحظة عالميّة حسّاسة جدًّا تتّضح فيها خطورة انعدام الديمقراطيّة وخطورة كبت الحريّات الشخصيّة والجماعيّة والعواقب الوخيمة لتسلّط شخص ما، أو توجّه على جهاز القضاء والشرطة والجيش والبرلمان والحكومة، عبر تعديلات قانونيّة وتشريعيّة تمكّن الحاكم من اتّخاذ أي قرار يريد بما في ذلك في القضايا التي تعتبر محلّ خلاف قضائيّ، قد يتحوّل إلى خلاف جماهيريّ بسبب الاستقطاب السياسيّ الحادّ في إسرائيل، والذي يحذّر كثيرون بمن فيهم خبراء الأمن من أنه استقطاب سيقودها إلى حافة الهاوية اقتصاديًّا وأمنيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا حتى ربما الوصول إلى جعلها دولتين كلّ منها لطوائف وانتماءات معيّنة، أو دولة تعيش حالة متأرجحة تتغيّر قوانينها وتشريعاتها بتغيّر الحكومات وانتماءات أعضائها، دون أيّ ثبات أو استقرار سياسيّ، ودون إرساء قواعد راسخة للحكم، وهو ما يسمّى" التقاليد الديمقراطيّة أو عراقة الحكم" ، التي استبدلتها إسرائيل وحكوماتها بتعبير مقاليد الحكم فاعتبرت نتيجة الانتخابات مبرّرًا لممارسة التسلّط، وتأييد الناخبين لحزب ما مبرر لتنفيذ أجندات لم تكن مطروحة برمّتها خلال الانتخابات. وهذا جزء من كلّ، فما شهدته إسرائيل هذا الأسبوع خاصّة، ومنذ انتهاء الانتخابات الأخيرة من تشريعات وتصرّفات واتفاقيات ائتلافيّة خرقت كافّة الأعراف، وتجاوزت كافّة العادات والتوقّعات، تشكّل انعكاسًا لحالة إسرائيل، والتي رغم مرور 75 عامًا على تأسيسها ما زالت دولة، وإن كانت تعتبر نفسها ديمقراطيّة وتتفاخر بكونها واحة ديمقراطيّة في شرق أوسط مظلم، أو فيلًا رائعًا وسط غابات موحشة، كما قال يائير لبيد رئيس الوزراء السابق، إلا أنها ما زالت وفق المتعارف عليه في علم السياسة والعلوم الدولية تفتقر إلى ثلاثة من مقومّات الدولة خاصّة تلك التي تعتبر نفسها ديمقراطيّة، فهي أولًا تفتقر إلى تطبيق قواعد الديمقراطيّة، أو إلى العراقة في الحكم، أو إلى قبول مبدأ الفصل في السلطات.، وثانيها أن ليس لديها مساحة جغرافيّة محدّدة، إذ لم تحدّد ولم يصادق بصورة نهائيّة على حدودها الشماليّة والغربية وبالتالي مساحتها مختلف عليها، داخليًّا وخارجيًّا. وثالثها وربما أهمّها أنها تفتقر إلى دستور مكتوب واضح يحول دون تأرجحها بين الديمقراطيّة والدكتاتوريّة، أو استبدال قوانينها صبحًا ومساءً بما يتلاءم واحتياجات آنيّة وقصيرة المدى، بل حزبيّة وشخصيّة لا تمتّ بصلة لمصلحة الدولة ومواطنيها عامّة، ولا للاستقرار السياسيّ المفروض في ظلّ دستور لا يستطيع البرلمان تغييره واستبداله صُبح مساء.
" الصراع على هويّة الدولة"
من هنا، ونظرًا لأنه منذ قيام الدولة، وحتى الآن لم يوضع دستور، فإن الصراع على هويّة الدولة ومصدر ونوع حكم السلطة لم ينته. وهذا ما أكّدته أحداث يوم الإثنين الأخير ومعانيها الحقيقيّة والأهداف الدفينة التي يريد منفّذو الإصلاح، أو الانقلاب القضائيّ تحقيقها، وذلك لأنّه اتّضح بما لا يقبل الشكّ، أو التأويل أن جماعات معيّنة لم تتعوّد على احترام الدولة كمصدر للسلطة العليا، أو احترام القانون المدنيّ، والذي يضمن المساواة، أو يصبو إليها وحتى البرلمان الإسرائيليّ رفض إعطاء صبغة دستوريّة لوثيقة الاستقلال التي تنادي بالمساواة والحريّة والكرامة لجميع مواطني الدولة عربًا ويهودًا، واحترام اللغة العربية كلغة رسميّة، بل إن هذه المجموعات وبحكم انعدام تطبيق قواعد الديمقراطيّة وتقاليد الحكم الراسخة، تشعر بأن كلّ قانون أو تشريع، أو قانون يبادر إليه من لا تتفق هذه الجماعات معه إنما هو جزء من محاولة لإخضاعها، أو تضييق خطواتها والحدّ من حريّتها وربما قمعها ما يضعها في مكانة متدنيّة، وبالتالي فإن سيادة السلطة الحاكمة تآكلت. وهي لا تستطيع اتخاذ قرارات لتنفيذها، ناهيك عن أن هذا الشعور يزيد من الاستخفاف والرغبة في تحدي توجيهات الحكومة (وهو ما حصل في قضيّة تعليمات الكورونا التي فرضتها الحكومة على اليهود المتزمتين الحريديم واعتبروها تضييقًا للخناق عليهم)، أي فحص هذه الجماعات لحدود الطاعة، وهو ما تشهده إسرائيل فالعلمانيّون يتحدّثون فيها باسم الليبراليّة الغربيّة والحريّة المدنيّة، ويتحدّث العرب باسم التقاليد والهويّة القوميّة وليس المدنيّة، والأصوليّون باسم التوراة والمستوطنون باسم الإرث الإلهي على أرض إسرائيل الكاملة والفوقيّة اليهوديّة وسلطة الشريعة، أي التأكيد على فوقيّة الفئة والاستعداد لفعل كلّ ما يلزم لحماية فئويّتهم وخصوصيّتهم، دون هويّة المجموعة. وهو ما حصل في قضايا كثيرة منها الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة وشمال الضفة الغربيّة، والتي اعتبر اليمين عدم تدخل المحكمة العليا فيها تساوقًا مع اليسار ومسًّا بالتطلّعات القوميّة اليمينيّة والاستيطانيّة، وكذلك اتفاق أوسلو الذي اعتبرته المحكمة العليا قرار دولة، وليس خطوة قضائيّة وكذلك منع إقامة مستوطنات عشوائيّة وغير قانونيّة ومصادرة أراضٍ فلسطينيّة خاصّة. وهو ما يعتبره اليمين والمستوطنون ضربًا لمساعي تعزيز الاستيطان، ومنع إقامة دولة فلسطينيّة، ناهيك عن عدم وجود قضاة من أصل شرقي في المحكمة العليا بالكم النسبيّ لعددهم في الدولة حيث يدعي اليهود الشرقيّون هذا لأسباب غير موضوعيّة. وعليه فهذه الفئة تطالب "برد الاعتبار" بعد أن اكتنزها واختزنها اليمين والشرقيّون والمتديّنون، وانتظروا الفرصة السانحة " المطالبة بالحكم" ومن هنا جاء تكرار العبارات على شاكلة "أين كنتم وقت الانسحاب من طرف واحد"؟؟ وأين كنتم حين تم توقيع اتفاقيّات أوسلو؟؟ وهو قول ينمّ من جهة عن ضغينة دفينة يضمرها اليمين للجهاز القضائيّ، أو رغبة في الاقتصاص من هذا الجهاز، والحكومة الحاليّة هي الفرصة المواتية والمناسبة للانتقام من الجهاز القضائيّ والمحكمة العليا وعرّاب الثورة القضائيّة القاضي أهارون باراك الرئيس السابق للمحكمة العليا. لكنه ينم من جهة أخرى عن تعامٍ مقصود عن الحقائق فاتفاقيّة أوسلو فتحت الباب على مصراعيه أمام استثمارات أجنبيّة دوليّة في الصناعات الإسرائيليّة، وفتحت أمام هذه الصناعات حتى لو سرًّا أبواب الأسواق الأفريقيّة والعربيّة والإسلاميّة والأوروبيّة باعتبار أن هذه الاتفاقيّات كانت في نظر الكثيرين في حينه بشير خير وازدهار وإعلان عهد جديد من السلام ، كما فتحت أبواب الدول العربيّة أمام إسرائيل سياسيًّا، وهي السبب الرئيسيّ في اتفاقيّات أبراهام التي ما كانت لتتحقّق لولا أوسلو، ولولا تخفيف حدّة الصراع مع الفلسطينيّين . وهو ما تناساه وزير الماليّة سموتريتش لأسباب سياسيّة خلال لقائه مدراء المؤسسات المصرفيّة في إسرائيل، والذين حذّروه من التأثيرات الهدّامة للتغييرات القضائيّة على الجهاز المصرفيّ، والاستثمارات وهو ما صدقوا فيه على ضوء تدهور سعر الشيقل ( العملة الإسرائيليّة) بنحو 7 بالمئة خلال أسبوع واحد وخسارة سوق المال في تل أبيب 2 بالمئة من قيمته خلال أيام، وتحذيرات وزراء المالية والاقتصاد من الدول الأوروبيّة، ولكن يبدو أن الرغبة في تحقيق أمرين أولهما الانتقام من الجهاز القضائيّ لعدم منعه الانسحاب من مستوطنات قطاع غزة عام 2005، كما قال مستوطنون يقيمون في مستوطنة" بني كيدم" التي يقيم فيها رئيس لجنة الدستور البرلمانيّة سمحا روطمان ( ومستوطنون تمّ اخلاؤهم من منطقة القطاع) الذي يقود هذه التغييرات. وثانيها خلق وضع جديد يعين رئيس الحكومة فيه القضاة والوزراء والمستشار القضائيّ دون رقابة ودون أيّ اعتبار لسجلّهم الجنائيّ ويعمل على تخليص نفسه من المساءلة القانونيّة عبر إلغاء محاكمته ربما أو اختيار قضاة " يسامحونه" ويتغاضون عن هفواته الجنائيّة بحكم " السوط السياسيّ المسلط على رقابهم" ، تتجاوز كلّ هذه التحذيرات والأضرار التي سيدفع ثمنها المواطنون، وأوّلهم العرب وبعدهم مصوّتو الليكود واليمين والمتديّنون الشرقيّون باعتبارهم الأضعف اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ورغم ذلك فإنهم أي هؤلاء المصوتين يدعمون هذه الإصلاحات بفعل"حالة القطيع" التي تعيشها السياسة الإسرائيليّة التي انقسمت إلى معسكرين يتمسّك كلّ بمواقفه دون أي خروج عن النصّ، ويتساوق مؤيّدو كل معسكر مع هذه المواقف دون نقاش في تجسيد لحالة خطيرة شعبويّة تجسّد ما جاء في قصة "خرفان بانورج" التي سنعود إليها لاحقًا .
"هروب الادمغة"
توجّهات تغليب فوقيّة الفئة وإقصاء هويّة المجموعة وجدت تعبيرها في كافّة التحرّكات والتطوّرات التي شهدتها إسرائيل، فالمعارضون يحذّرون من تراجع الاستثمارات وهروب الأدمغة والقدرات وتراجع الاقتصاد بسبب " هم" الذين يريدون هدم النظام الديمقراطيّ، وإثارة النعرات الطائفيّة والعرقيّة ونزع شرعيّة إسرائيل الدوليّة وتدمير علاقاتها مع الولايات المتحدة، أمّا المؤيّدون فلا يناقشون الجوهر، بل يتحدثون عن " هم" الذين يحرّضون أعداء إسرائيل ويؤلّبونهم على المسّ بها إضافة إلى قيامهم بزرع بذور الفتنة والتحريض بشكل يقرِّب إمكانيّة الحرب الأهليّة. وهو ما تؤكّده حقيقة قيام رئيس الشاباك (جهاز الأمن العام في إسرائيل) رونين بار، بلقاء رئيس الوزراء السابق ورئيس المعارضة الحالية يائير لبيد، وتحذيره من أخطار حقيقيّة وتهديدات تحدق بحياته، أي تهديدات بقتله، يضاف إليها تهديدات مماثلة تحدق برئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، ما يعني أمرين أولهما أنها المرّة الأولى التي تجيء فيها هذه التهديدات من طرفي الخريطة السياسيّة، أي من اليمين واليسار على حدّ سواء، علمًا أن التهديدات على حياة الشخصيّات السياسيّة كانت منذ اتفاقيّات أوسلو وقبلها، من جهة اليمين فقط ما يشير إلى تعاظم النزعات الفئويّة والتوجّهات العنيفة، ووجود أشخاص لا يقبلون الحسم الديمقراطيّ من جهة، أو حريّة الرأي والاحتجاج من جهة أخرى، وأنه لا مانع لديهم من استخدام القوة والسلاح لفرض الرأي، أو لمنع تحقيق أهداف الغير والمعارضين. وهي عمليًّا المرة الثالثة في تاريخ إسرائيل التي يبادر رئيس الشاباك إلى تحذير السياسيّين من خطر الاغتيال وضرورة تخفيف حدّة التوتّر والتخفيف من التصريحات المثيرة للخواطر والداعية إلى العنف، وسبقها قبل ذلك توجّه مماثل بعد أوسلو انتهت إلى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين، وكذلك تحذيرات خلال الحملات الانتخابيّة المتكرّرة التي شهدتها إسرائيل دون حسم واضح، وهي التي انتهت إلى استقطاب واسع وصل حدّ الكراهية المطلقة على خلفية المواقف السياسيّة والتوجّهات الحزبيّة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك توجّه رئيس الشاباك إلى وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير حول خطورة سياساته في شرقي القدس، واحتمال أن تؤدي إلى اندلاع مواجهة مسلّحة وانتفاضة ثالثة، وكذلك إعلان جهات وفئات كثيرة أنها لن تنصاع لقرارات المحاكم والمستشارين القضائيين، وبما في ذلك المستشارة القضائيّة للحكومة وغيرهم من المسؤولين القضائيّين وأصحاب المناصب العامّة، بمن فيهم فئات مسلّحة، أو وحدات مسلّحة في الجيش تنصاع لقرارات الحاخامين ورجال الدين وتعليمات الشريعة، في حالة تؤكّد ضعف التقاليد القضائيّة والسياسيّة، وكون إسرائيل دولة تتغلّب فيها المصلحة الشخصيّة والفئويّة على المصلحة العامّة، ما يؤكّد في نظري بأن ما تحتاجه إسرائيل اليوم هو ليس انقلابًا أو إصلاحًا قضائيًّا كالذي يقوده عضو الكنيست سمحا روطمان، وليس تغييرًا في تركيب لجنة تعيين واختيار القضاة، بل السعي إلى نظام اجتماعيّ وتعليميّ جديد تبدأ فيه أسس التربية الديمقراطيّة والتعدديّة وقبول الغير والمختلف وتقديس حريّة الرأي، منذ نعومة أظفار الطلاب في كافّة المدارس والجامعات ومؤسّسات التعليم الأكاديميّ ملخّصها المساواة واحترام الغير وتقديس حياته وسلامته وعدم التمييز ضدّه على خلفية دينيّة، أو قوميّة أو سياسيّة أو ميول أخرى، وهو أساس الديمقراطيّة الذي يعني أن الإنسان هو القيمة العليا، وليس الجبروت السياسيّ والتسلّط الحزبيّ والفوقيّة العرقيّة، أو الفئويّة وهي بالذات مصدر عدم الاستقرار في إسرائيل، فمعظم المحتجّين اليوم ضد الإصلاحات القضائيّة هم أولئك الذين ساورهم الشعور منذ إقامة دولة إسرائيل، وحتى اليوم بأنهم "أسياد البلاد" ومؤسّسو الدولة وحرّاس أمنها، وأولئك الذين بنوا اقتصادها وقوّتها ومناعتها السياسيّة والأمنيّة والصناعيّة والعسكريّة والتقنية والهايتك والماليّة. أمّا مؤيّدو الإصلاحات، أو التغييرات والتعديلات القضائيّة، وانطلاقًا من مواقفهم اليمينيّة المعادية للمحتجّين واليهود من أصل غربيّ، هم ممّن يمكن تسميتهم" إسرائيل الثانية" أي اليهود المتدينين والشرقيين واليهود المتزمتين، الذين يؤمنون بكامل جوارحهم أن المحتجين إنما يشكّلون فئة صغيرة من أصحاب الامتيازات الغربيّين والعلمانيّين واليسارييّن اضطهدتهم طيلة عقود، ومنعتهم من الاندماج في سلك القضاء والمحاكم ومن التقدّم الاقتصاديّ والأكاديميّ . وهي مشاعر استغلّها اليمين عامّة والليكود والحزب المتدين لليهود الشرقيين "شاس" خاصّة لترويج بضاعتهما وتجنيد الدعم لهما ، مستغلين مشاعر الإقصاء والغبن والتمييز المقصود، حتى لو كانت غير مبرّرة عبر نفاق سياسيّ، يثير السؤال حول مدى استعداد فئات معيّنة لقبول نفاق السياسيّين، وعدم فحص معطياتهم وادّعاءاتهم، أي التحوّل إلى قطيع يطيع، ولا يناقش ويعارض دون أن يفحص ويكره، أو يمقت كلّ من يعارض ويخوِّن كلّ من يخالفه الرأي، والسؤال حول مدى استعداد السياسيّين لتحويل النفاق إلى سلعتهم الرائجة ومواصلته. وهنا أقول إن قدرة السياسيين، من مختلف الأعراق والتوجّهات والقوميّات والتوجّهات في إسرائيل، على مواصلة الكذب والتضليل والنفاق تتعلّق بما تتّسم به الشعوب التي يحكمونها خاصّة الفئات منها التي تؤيّدهم، من الجهل والغفلة وإيثار المصلحة العاجلة وقلَّة الخبرة بمعترك السياسة الشعبيّة، فحتى الأمَّة الذكيّة تسمح أحيانًا لقادتها السياسيين بشيء من الكذب والمراوغة إذا كانت سياسة الدولة نفسها سياسةً ذات وجهين مختلفين: وجه مسفر في العلن ووجه مستتر في الخفاء، وهو الحال في إسرائيل فهي موحّدة متماسكة ذات وجه ديمقراطيّ وغربيّ ومنفتح ومتطوّر علميًّا أمام العالم، لكنّها منقسمة سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا على ذاتها وتسودها مشاعر العداء والإقصاء والكراهية، وتوجّهات العنف وتضييق الحريّات خاصّة للأقليات في داخلها وفي حقيقتها.
" لعبة الشعارات"
ما يحدث في إسرائيل اليوم أكّدته وشرحته النظريّات السياسيّة التقليديّة، والتي تعتمد رصد سلوك اللاعبين السياسيين خلال الأزمات، بكلّ ما يحمله هذا السلوك من أفعال ودلالات رمزيّة، فاللعبة السياسية تحتاج إلى حدود دنيا من التفاهم على قواعد محدّدة تستوجب من اللاعبين القيام بتحديد وإعلان وشرح استراتيجيّاتهم وخياراتهم. وهو ما لا يحدث في حالتنا العينيّة في إسرائيل فلا شرح للمواقف خاصّة في الائتلاف، ولا نقاش حولها. وهو ما أكّده الوزير الليكوديّ آفي ديختر رئيس الشاباك السابق، ولا قبول للتساهل أو الاعتدال في المعارضة، ولا قبول لمشاركة بعض الأحزاب العربيّة فيها، وربما تقاعس بعض الأحزاب العربيّة عن المشاركة من باب عدم الاهتمام، أو عدم القدرة على شرح أبعاد الإصلاحات على المواطنين العرب. وهم أوّل المتضررين وأكثرهم صعوبة تسويق هذه القضيّة خاصّة وأن هذه الأحزاب اعتادت لعبة الشعارات العموميّة والرنّانة دون التعمّق والعقلانيّة. وبالتالي فقدت اللعبة السياسية قواعدها، وتحوّلت إلى حرب ضروس بين جيشين قرّرا استخدام ترسانة أسلحتهما دون أي حدود ومن بعدي الطوفان. أمّا أصوات الاعتدال ومحاولات الوساطة فتقع على آذان صمّاء ، باللعبة أو المواجهة هي بين قطيعين لا ثالث لهما ولا رادع ولا وازع، والسلاح مواقف جامدة وتصرّف قطيع وانسياق وراء سياسيين يجيدون التلاعب بالكلمات فيقنعون مؤيّديهم تأييد خطوات والقيام بتصرفّات دون أيّ تفكير بعواقبها ونتائجها، وكأَن لسان حال الجماهير يقول:" هكذا قال وهكذا ما سيكون وما لنا نحن الشعب إلا الطاعة والقبول "، كما في قصة "خرفان بانورج" للكاتب الفرنسي "فرانسوا رابليه" والتي تحكي قصة رجل يدعى "بانورج " كان في رحلة بحريّة على متن سفينة، ومعه تاجر الأغنام "دندونو" الجشع، فوقع شجار على سطح المركب بينهما( الائتلاف والمعارضة) صمّم على أثره الأول أن ينتقم من التاجر الجشع ، فاشترى منه خروفًا بسعر عالٍ وسط سعادة دوندونو بالصفقة الرابحة، لكنه ما لبث "بانورج" إلا وأن جرّ خروفه الجديد بقوّة إلى طرف السفينة ثم ألقاه في البحر لتتبعه كافّة الخرفان، وفشلت محاولات "دندونو" لمنعها من القفز، فقرّر لجشعه منع آخر الخرفان الأحياء من القفز إلى الماء، لكن هذا الخروف كان " مصرًا على الانتحار بصفته خروف قطيع مطيع" يؤمن بصدق القطيع فجرّ التاجر معه وسقطا في الماء ليغرقا معًا .
والسؤال هل تقف إسرائيل والتي أصبحت بامتياز جزءًا من الشرق الأوسط، أمام نسختها الخاصّة من خرفان بانورج وروح القطيع، فأصبحت أحزابها وأصبح وزراؤها ومواطنوها يردّدون كلامًا وأفعالًا لمجرّد أنهم سمعوا من يقوم بذلك، حتى لو كانت النتيجة أن يغرق الجميع؟؟؟
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]
من هنا وهناك
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
أرسل خبرا