مقال :‘ الانتماء لفلسطين وتحدي الهوية ‘
بقلم : أسامة خليفة باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات - إن الصراع مع الاحتلال يبرز أهمية الإنسان النوعي الذي يتم تشكيل شخصيته عبر التنشئة، فالتربية التقليدية في مواجهة متطلبات بناء إنسان قادر على مواجهة التحديات ،
تثير جدلاً في قدرتها على بناء الشخصية الفعالة الواعية، وخاصة إذا تطلعنا إلى تطورات الاستيطان والتهويد، وأثرها على التحدي المكاني والبشري، ورغم أن الديمغرافيا في الحسابات تلعب دوراً لصالح المجتمع الفلسطيني حالياً، إلا أن انتقادات توجه للأساليب التربوية العربية عموماً، فالبعض يصفها أنها تربية تقليدية في الأسرة، وخاصة ما يتعلق بالمرأة وتحديد دورها الاجتماعي، وتحجيم مشاركتها في قضايا وأمور لاسيما الحيوية منها، كما توصف بأنها لا ديمقراطية في جانب التعليم الرسمي، سلطة المعلم في الصف الدرسي، وسلطة كبار السن في مجتمع العائلة الممتدة، يضاف له إجراءات سلطات الاحتلال القمعية نحو المؤسسات التربوية الهادفة لمحاربة المناهج الوطنية التي تعرف الطالب بقضاياه وترفع مستوى وعيه، فقوى الاستعمار والصهيونية والرجعية تسعى دوماً للحفاظ على مصالحها وهيمنتها والابقاء على الأوضاع القائمة، وعموماً كبح أهداف الشعوب لا يكون فقط باستخدام وسائل العنف، بل أيضاً باستخدام وسائل تربوية غير عنيفة ترسخ القيم البالية، وتخلق شخصية خانعة راضخة، أو شخصية اغترابية أو غير مبالية، وعلى رأس هذه الوسائل تأتي أجهزة الإعلام والدعاية، مما يظهر العلاقة الجدلية بين التربية وتحرير الانسان، ويوضح العلاقة التبادلية بين النظام التعليمي وحقوق الانسان، ففاعلية أحدهما تتوقف على فعالية الآخر، فلا إقرار للحقوق في غياب بنية فاعلة للنظام التعليمي في غياب الإيمان الراسخ بحقوق الانسان كمسلمة من مسلمات العصر، وللتربية الفلسطينية خصوصية في تعاملها مع أربعة أنواع من العلاقات:
1-الاجراءات القمعية الصهيونية التي تحاول ترسيخ الخضوع ومهادنة المستعمر المحتل.
2- ممارسات عربية ترسخ الاتكالية واللامبالاة في الشخصية الفلسطينية في مناطق الشتات.
3- حركة الثورة الفلسطينية وتنظيماتها التي تعمل على غرس القيم الثورية.
4- الغزو الثقافي الغربي الهادف إلى تغريب الشخصية العربية واستبدال قيمها الأصيلة التي تعزز الانتماء الوطني والقومي، مما يساهم في تفكيك الوحدة الثقافية للأمة العربية، ويمهد لثقافة التطبيع مع العدو الصهيوني من قبل بعض المثقفين العرب الذين يدعون الحداثة وقبول الآخر ولو كان معتدياً وعنصرياً وينتهك حقوق الشعب الفلسطيني.
التمسك بالأصالة دافع للبحث عن السمات الأساسية للشخصية الوطنية التي تميز شعب عن غيره من الشعوب، أو ربما للبحث عن السمات الأكثر خصوصية للشخصية المحلية، لكن لابد من التأكيد على أن البحث عن المكانة والهوية، لتأكيد الذات أمام التحديات له شروطه الأساسية: كشرط تحقيق وعي علمي وديمقراطي، مرتبط بتشكيل الذات الفلسطينية وفق ضرورات العصر، وشرط تحقيق الوعي الوحدوي المرتبط بتاريخ ثقافي، وبتشكيل الذات الفلسطينية وفقاً للتراث، الشرطان وضعا الوعي الثقافي في مرحلة انتقالية تتزامن فيه قيم التحديث مع قيم الماضي، مرحلة لابد أن تنسم بالنقدية تجاه عناصر القيم العربية القائمة ومدى صلاحيتها لتحقيق الأهداف الوطنية والتقدم الاجتماعي، ونبذ كل رواسب التخلف من عصر الانحطاط والتسلط الاستعماري، وخاصة ما يتعلق بقيم الانغلاق، والصوفية، والسحر، والشعوذة، ورفض التجديد، والعائلية، والقبلية، والمذهبية، والطائفية، وخاصة في المرحلة الحالية حيث يبدو المحيط العربي يسترجع علاقات ما قبل الدولة الوطنية في تفسخ المجتمع إلى طوائف وأثنيات وقوميات ومجموعات عشائرية متصارعة، تسعى، في أحسن الأحوال، في حال توافقها إلى المحاصصة وتقاسم النفوذ وثروات البلاد.
يرتبط الانتماء الوطني لدى الشعب الفلسطيني باعتزازه بنفسه، ومكانته بين شعوب العالم، تدفعه الكرامة الوطنية إلى التمسك بأصالته دون محاولة التشبه بصورة ونموذج المتقدم حضارياً الناجمة عن الشعور بالتدني، نتيجة التخلف، والتي تجعل الشاب الشرقي محاولاً تقليد الغربي، مفترضاً قيم التحضر المعولم قدوة من أجل ارتقاء سلم الحداثة والمعاصرة.
إن الوعي الوحدوي الوطني كشرط من شروط تحدي المكانة والهوية، يتطلب البحث عن عموميات جامعة للشخصية الفلسطينية، تجد أي تنشئة وطنية نفسها في تماس معها كإطار عام، من أجل مد الشعب بأسباب القوة أمام محاولات الاستلاب الثقافي، لابد أن تستند التنشئة الوطنية إلى إطار وطني عام، سمات عامة للتنشئة الوطنية، فالتنشئة كعملية تواصل بين الأجيال تستخدم عناصر ثقافية، وعاءها اللغة، وجوهرها المثل العليا النزاهة والصدق وتحمل المسؤولية والمحبة والتسامح والغيرية والانتماء للوطن واحترم الآخر واحترام خصوصيته وقبول الاختلاف.. وهذا لا ينفي ثقافة فرعية بخصوصيات نمت وتشكلت في بيئية محلية، الخصوصيات المحلية لا تعبر عن تفكك ثقافي مناف للوحدة الثقافية، لأن فهم المجتمع بمختلف ظواهره تتطلب الاطلاع على حركة هذا الواقع في خصوصياته وعمومياته، ومنها المسائل الثقافية والتربوية والسلوكية الخصبة جداً في تنوعها ومعطياتها وتشعباتها، والنظر إلى الأمور المحلية والقطاعية بمنهجية تاريخية، وبأبعادها الزمانية الثلاثة، يؤكد حتمية الروابط الجدلية بالوطني، فتغييب البعد العام للتنشئة والثقافة المحلية ليس خطأ سياسياً فحسب، بل خطاً موضوعي منهجي بالدرجة الأولى. وإذا كان التنوع الثقافي يعكس خصوصيات تربوية محلية، فإن العام والمشترك في التربية نابع من الماضي والتاريخ المشترك كما هو في صيرورة وتشكل مستمر حاضراً ومستقبلاً.
إن التنوع الثقافي قائم داخل البلد الواحد، لذلك من الأجدى أن يجري التشديد على التكامل الثقافي بدلاً من المماثلة أو الاختلاف، قد تنتج الوحدة عن التنوع والتكامل أكثر مما تصدر عن التشابه، وعن التفاهم في إطار الانتماء الوطني ومواجهة التحديات التاريخية أكثر مما تصدر عن الإصرار على الإجماع والتطابق، فتتوجه إلى البحث في المنطلقات المتكونة من وحدة التجربة التاريخية، ومواجهة تحديات العصر، ومهماته المشتركة.
يستدعى هذا الحديث عن ارتباط الشخصية الوطنية الفلسطينية بالشخصية العربية، ارتباطاً لا يجب فهمه على أنه تذويب للشخصية الفلسطينية في الإطار العربي، مما يتناغم مع الهدف الصهيوني بطمس الشخصية الوطنية الفلسطينية، بادعاء أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، بل لابد من اعتبارها شخصية عربية طليعية تحمل قيم الشخصية العربية من أصالة تقدمية وثورية مبدعة، وهنا نلمح تصورين مختلفين لها: الأول: يخضعها للوصاية العربية وأفاقها السياسية والاجتماعية، والثاني: يربطها بالحركة الجماهرية العربية، وحركة التقدم العالمي.
لقد استمر الاحتواء العربي التنظيمي والفكري للنضال الفلسطيني حتى أواسط الستينات من القرن الماضي، حيث بدأت مرحلة انبعاث الشخصية الوطنية الفلسطينية التي تتميز بجملة من الخصائص السياسية والاجتماعية المرتبطة بواقعها، وبالتحديات التي واجهت الشعب الفلسطيني في صراعه المستمر والشرس منذ أكثر من قرن من الزمان مع الاستعمار الامبريالي والحركة الصهيونية، وهذا التميز هو نتيجة التحديات التي واجهها، وللمهمات التي ألقيت على عاتقه، أكثر من كونه تعبيراً عن استقلالية شاملة لهذا العمل الوطني عن النضال العربي.
ان الفروق النفسية والحضارية بين الشخصية الفلسطينية وبين مثيلاتها القطرية العربية الأخرى، يستند إلى وجود نسق فرعي أكثر تبلوراً، في حين أن وجود العام والمشترك محتاج دوماً إلى بحث وتأكيد على حقيقة النسق الرئيسي المتمثل في الشخصية العربية، فلسطينيو العام 1948 المعرضون لإجراءات الأسرلة أو لقانون القومية العنصري الصهيوني، يلمسونه أكثر من باقي التجمعات الفلسطينية الأخرى، ويشعرون أن الجوهري في هذا التمييز لا تساوي مطلقاً التناقض.
بينما يشعر الفلسطينيون في لبنان والذين تعرضوا إلى أشكال من المحاصرة العربية وإلى هجمات عديدة أدت إلى سقوط شهداء في صفوفهم بأيدي عربية، يشعرون أن هناك خصوصيات قطرية سلبية في النسق الفرعي، قد لاتصل حد التناقض لكن تتنابذ مع عموميات قومية ناجمة عن عوامل التجزئة السياسية التي خلقت في النفوس نزعة الولاء القطري والتعصب الطائفي، وأصبحت هذه الخصوصيات تنتقل من جيل إلى جيل لتكرس وتزيد من عوامل الفرقة والتباعد، وظهرت شوائب عديدة شوهت المشاعر القومية وأثرت سلباً على أصالة الانتماء وصدقه، مثل: الدور الباهت لجامعة الدول العربية، وتطبيع العلاقات مع العدو، والتحالفات الدولية التي لا تخدم القضية الفلسطينية، وطغيان الحماس العاطفي على أساليب العمل الوحدوي المنظم، إفراغ الوحدة العربية من مضمونها على يد أنظمة تدعى العمل القومي، وعدم بلورة نظرية وحدوية من قبل الأحزاب الطليعية.
وبالرغم من ذلك أكدت م.ت.ف على ارتباط الشخصية الفلسطينية بالإطار القومي، فقد جاء في المادة الثانية عشرة من الميثاق القومي:
«الشعب العربي الفلسطيني يؤمن بالوحدة العربية، ولكي يؤدي دوره في تحقيقها، عليه في هذه المرحلة من كفاحه الوطني أن يحافظ على شخصيته الفلسطينية ومقوماتها، وأن ينمي الوعي بوجودها، وأن يناهض أياً من المشروعات التي من شأنها إذابتها أو إضعافها».
إن الوحدة الثقافية والأدبية هي أقوى العوامل التي تعبر عن القومية تعبيراً واضحاً، وهي حتماً أقوى من كل عوامل التفكك السياسي القائمة حالياً، فرغم طول المرحلة التاريخية للتفرقة والتباعد، فإننا مازلنا نلمح تشابهاً عميقاً في العادات والأعراف والقيم يتجاوز أشكال السلوك الظاهري إلى المعنى والوظيفة الاجتماعية مما يسمح لنا القول أن هناك شخصية عربية قومية تتميز بوحدة السلوك والاستجابات وردود الفعل على المواقف المتباينة، وموقف كل عربي مما يحدث في فلسطين يدل على وحدة السلوك وردود الفعل أو مشاعر التضامن، إنها مشاركة في مشاعر المسؤولية القومية تجاه الكارثة والهزيمة، أو مشاعر الاعتزاز القومي في حالة الفعل الثوري والانتفاضة.
وحدة ردود الفعل تعكس تربية وثقافة مشتركة، في حين تعكس وحدة السلوك الناجمة عنهما وحدة في العمل النضالي، وفي مرحلة سابقة كانت التنشئة الفلسطينية وثقافتها لا تنفصلان عن التربية العربية وثقافتها، ولم يكن ثمة خط فاصل بين المقاومة الفلسطينية وإطارها العربي، في ظاهرة المتطوعين العرب المنضمين إلى ثورة 1936، وإلى حرب 1948، وإلى الثورة الفلسطينية المعاصرة، وساد اعتقاد راسخ بأن الوحدة العربية هي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، ونشأت منظمات مقاومة من أحزاب قومية انخرطت في صفوفها الطليعة الفلسطينية، كذلك انخرط العرب في صفوف فصائل المقاومة لاعتقادهم الراسخ أن تحرير فلسطين ضروري لتحقيق الوحدة العربية، فقد تداخل الهدفان تماماً في المفهوم الشعبي لمتطلبات النضال وأولوياته، فطموح الجماهير العربية للوحدة العربية لا يقل عن طموحها لتحرير فلسطين.
إن ميزة الخصوصية الفلسطينية هي قدرتها على التعبير عن القومية دون أن يكون ذلك متكلفاً أو نظرياً، بمقدار ما هو عملي نابع من التراث ومن المستقبل، فالعلاقة بين الفلسطيني والقومي علاقة تناغمية عميقة الجذور وجود أحدهما متوقف على الأخر، وليست العلاقة تنابذية، ينفي كل واحد منهما الأخر، ومن الخطأ الحكم على الخصوصية الفلسطينية على أنها أرث استعماري، أو نتاج مصالح قيادة سياسية قطرية، ففلسطين المحررة هي مدخل واقعي حتمي إلى الوحدة العربية، وأي فصيل من فصائل التحرر الوطني حقق أهدافه التحريرية القطرية، صب بالتأكيد في خدمة هدف التحرر القومي، فما زالت أجزاء من الوطن العربي تقع أو وقعت تحت السيطرة الاستعمارية المباشرة وخاصة بعد التواجد العسكري الأمريكي المكثف في منطقتنا العربية إثر ما يسمى الربيع العربي.
ومشروع الدولة الفلسطينية المستقلة يعتبر مكسباً ايجابياً في حال تحقيقه، كافحت من أجل الأجيال، وأصبح مطلباً وطنياً شعبياً ذا بعد قومي، يعبر عن تطلعات وطموحات الجماهير الفلسطينية والعربية.
أن طبيعية المرحلة التاريخية، مرحلة التحرر الوطني، عززت الطابع العربي للجغرافيا الفلسطينية كواقع لا يرتبط بسايكس بيكو، بمقدار ما يرتبط بالنضال ضد التوسع الاستيطاني والحلم التوراتي بإسرائيل الكبرى، فالحديث عن جغرافيا فلسطين مناقض لحركة التهويد، وغير منسجم مع سايكس بيكو، إنها جغرافيا تتجاوز مشروع الدولة الوطنية المنغلقة والحدود المصطنعة، فلسطين قضية مركزية لكل العرب، ونقد الفكر القطري في مرحل قيادته لحركة الاستقلال الوطني ضد الاستعمار الخارجي يختلف جذرياً عن نقد الفكر في مرحلة ما بعد الاستقلال.
من هنا وهناك
-
د. سهيل دياب يكتب : أمريكا لم تصوت لترامب - انما عاقبت بايدن وهاريس !
-
المحامي يوسف شعبان يكتب : مقترح سن قانون لمراقبة اجهزة الهواتف والتنصت عليها مهزلة يجب الوقوف ضدها
-
مقال: هل أمريكا العظمى في طريق الانهيار مثل الاتحاد السوفيتيّ ؟ بقلم : المحامي زكي كمال
-
هدنة الشمال : هل ستكون لغزة ‘ نافذة النجاة ‘ ؟ بقلم : علاء كنعان
-
التّراث الفكريّ في رواية ‘حيوات سحيقة‘ للرّوائي الأردنيّ يحيى القيّسي - بقلم : صباح بشير
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب في بانيت : حتى نلتقي - ممالك وجمهوريات
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
أرسل خبرا