قصة ‘عندما يموت الشعور‘ - بقلم: الكاتبة اسماء الياس من البعنة
كل يوم نسمع نفس الحكاية، ونرى نفس الصور. مشاهد الموت أصبحت تتبوأ كل طالع خبر. كل يوم ننهض من نومنا على مشاهد أصبحت العين تألفها، مناظر تجعلنا نشعر بشيء يموت في داخلنا.
اسماء الياس - صورة شخصية
الخوف أن تتعود عيناك على تلك المناظر.
تتساءل مريم: لماذا أصبحنا من الشعوب التي استنزفت مواردها. ولم تعد تملك شيئًا سوى الدعاء، وحتى الدعاء لا يستجاب، رغم أنهم كتفوا الدعاء بصرخات وصلت لحد السماء. غير الدموع والآهات التي خرجت من صدورهم.
لكنهم رغم كل هذا فلا شيء تغير.
عندها قررت الخروج عن الصمت. فقد كنت أعلم بأن لا شيء يتغير إذا لم نقم نحن بالتغيير.
وبسرعة قررت البحث عن وسيلة من خلالها أستدل على مكان تواجد زملاء الدراسة. وحتى لا أستنزف الكثير من الوقت، ذهبت إلى مدير مدرستنا الذي أعرفه تمام المعرفة.
فهو قريب عائلتي من طرف الأب. تحدثت معه هاتفيًا:
-أريد أن أطلب منك خدمة بشكل مستعجل ابن العم جريس.
-خير يا طير تفضلي ست مريم نحن بالخدمة.
- أنت تعلم بأننا نعيش وضعًا مأساويًا، وهذا الشيء قد أثر على الكثير من مجالات الحياة، حتى بتنا ننام ونفيق كل يوم على مشهد محزن ومبكٍ ، والعالم صامت لا يبدي أي اعتراض او شجب. كأننا من الشعوب التي لا يحق لها العيش.
الأمر أكبر من أن يُشرح بالهاتف، وأنا لا أملك وقتاً لأسخّره في الشرح. كل ما أستطيع قوله الآن لم أعد أحتمل هذا الصمت. وكل يوم أشعر بشيء يموت في داخلي. لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي بعد الآن. أحتاج إلى قوائم بأسماء طلاب دفعاتنا الماضية، ووسائل التواصل معهم إن أمكن. هذا ضروري جداً.
صمتَ جريس للحظة على الطرف الآخر، لكن لم يكن صمتاً محيراً، بل صمت تفكيرًا. هو يعرف مريم جيداً، ويعرف أن كلماتها هذه المرة ليست مجرد انفعال عابر. لم تكن يومًا ممن يتحدثن عن الشعور بالعجز، بل دائمًا ما كانت تبحث عن الحلول.
ثم جاء صوته الهادئ الواثق: أفهمكِ يا مريم، وأنا معكِ. شعور العجز هذا يقتلنا جميعاً. سأفعل ما بوسعي. أرسلي لي رقم هاتفكِ على الخاص، وسأرسل لكِ قوائم بأسماء الطلاب، وسأحاول أن أجد لكِ وسائل التواصل المتاحة، وسأساعدكِ بكل ما أملك من نفوذ.
لكن يا مريم، أضاف بصوت أقل حزماً، تذكري أن القوة تكمن في داخلنا وعزمنا واصرارنا. وهذا ما يبدو أنكِ تنوين فعله. فكري جيداً في خطوتكِ الأولى.
انتهت المكالمة على امل أن تصلني عناوين وأرقام زملاء الدراسة. لم يكذب خبر ابن العم جريس أرسل لي العناوين والأرقام بعد أن عمل بكل طاقته حتى يساعدني من هذه الناحية.
بدأتُ بإرسال الرسائل النصية، أذكرهم بنفسي وبأيام الدراسة. كانت لحظات الصمت بعد إرسال كل رسالة أثقل من سابقتها. كنتُ أخشى أن تكون الذاكرة قد تلاشت، أو أن القلوب قد تعودت، تمامًا كما تخوفتُ.
لكن الردود جاءت مفاجئة. لم تكن مجرد موافقات عادية. بل كانت مقترحات، مقترحات عملية ومدهشة.
تذكرين مريم؟ أنا خالد، مهندس الديكور. يمكنني أن أجهز لكم مخططًا كاملاً للحملة.
وأنا سارة، طبيبة. لديّ فريق من المتطوعين، يمكننا أن نطلق حملة توعية سريعة.
أنا عادل، مصور صحفي. لديّ أرشيف كامل من الصور التي توثق.
كان كل رد بمثابة صرخة، صوت جديد ينضم إلى الجوقة التي كنتُ أظن أني أغني فيها وحدي.
كانت رسالة سارة الأكثر تحديداً. أنا وفريقي يمكننا أن نكون على أتم الاستعداد لتبني حملة توعية سريعة. متى نلتقي لنضع خطة؟
لم أتردد لحظة، فالمكالمات والرسائل وحدها لا تكفي. اتصلتُ بسارة فوراً وحددنا موعداً في اليوم التالي في إحدى المقاهي الهادئة.
عند وصولي، كانت سارة جالسة بانتظاري. لم تكن مجرد طبيبة، بل كانت تحمل في عينيها مزيجاً من الإصرار والحزن العميق.
شكرًا لأنكِ أتيتِ، قالت سارة وهي تشير إلى مجموعة من الأوراق والرسومات على الطاولة. كنتُ أعلم أن هناك من يفكر بنفس الطريقة، لكنني لم أتوقع أن أجدكِ أنتِ بالتحديد. عندما قرأت رسالتكِ، شعرتُ وكأنني وجدتُ البوصلة التي كنتُ أبحث عنها.
بكل صراحة، أضافت وهي ترفع رأسها وتنظر إليَّ مباشرة، أنا وفريقي نشعر بأننا نعالج الأعراض، لا المرض نفسه. نعالج الجروح الجسدية، لكننا لا نستطيع علاج الجروح التي في الروح. هذه الحملة ستكون مختلفة. سنحاول أن نعالج الألم من جذوره.
شعرتُ وكأن كلماتي هذه لم تخرج من فمي فقط، بل من قلب كل شخص يشعر بنفس الألم. بالضبط يا سارة، قلتُ بإصرار، لا يمكننا أن ننتظر السلام أن يأتي إلينا. بل يجب أن نصنعه بأيدينا، وأن نكون نحن أدوات التغيير. كل ما علينا فعله هو أن نكون فريقاً. كلٌ بما يتقن. أنتِ وفريقكِ من الأطباء، خالد المهندس، عادل المصور، وآخرون. كلنا أجزاء من لوحة واحدة يجب أن تكتمل.
ابتسمت سارة ابتسامة عريضة، وكأنها وجدت ضالتها. بدأت تُقلب الأوراق على الطاولة بحماس. تمام، قالت بنبرة عملية إذاً، فلنبدأ بخطة بسيطة. سنقسم أنفسنا إلى مجموعات صغيرة. مجموعة للتوعية الميدانية في المناطق الأكثر تضرراً، ومجموعة أخرى للتوعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. أما عن المحتوى، فسيكون هدفنا ليس فقط إظهار الألم، بل إبراز الأمل. سنستخدم صور عادل لنعرضها، ليس لتظهر الدمار فقط، بل لتظهر الإرادة التي تقاوم هذا الدمار. أجنحة من زجاج.
كانت مريم ترافق سارة وفريقها الطبي في أولى جولاتهم الميدانية. لم تكن الكاميرات أو الشعارات هي ما يملأ المكان، بل كانت الأوراق المليئة بالقصص والوجوه الشاحبة. تحدثوا مع الناس في المستشفيات والملاجئ المؤقتة. كانت كل قصة أكثر إيلاماً من الأخرى.
سمعوا عن أطفال شاهدوا رفاقهم يموتون أمام أعينهم، وعن أُسر فقدت كل شيء في لحظة، حتى ذكرياتها. كانت عيون الأمهات التي تروي قصص الجوع والدمار تحكي عن يأس عميق، لكنها كانت تتوهج أيضاً بشعلة مقاومة لا تنطفئ.
في نهاية اليوم، جلست مريم وسارة على حافة رصيف مهجور. كانتا منهكتين، لكنهما لم تفقدا الأمل. الكلمات لا تكفي لوصف ما رأيناه اليوم، قالت مريم بصوتٍ متهدج. كل قصة من تلك القصص تستحق أن تروى للعالم، حتى لا ينسى أحد... وحتى لا ينسى هؤلاء الناس أنهم ليسوا وحيدين.
صحيح، ردت سارة وهي تنظر إلى رسومات كانت تحملها في يدها. لذلك لن نكتفي بالكلمات. سنستخدم الفن، سنستخدم الموسيقى، سنستخدم كل ما يمكنه أن يروي قصصهم بطريقة لا يستطيع أحد تجاهلها.
بعد أن استمعت مريم وسارة إلى القصص المؤلمة، قررتا أن الكلمات وحدها لن تكفي. يجب أن تصل الرسالة إلى القلوب مباشرة.
في اليوم التالي، انضم إليهما عادل المصور. كان يضع على الطاولة مجموعة من الصور التي التقطها: صور لوجوه شاحبة، لأطفال يلعبون بين الأنقاض، ولأيدي مسنة تحاول أن تعيد بناء حائط متهدم.
هذه ليست مجرد صور، قال عادل بصوت هادئ، هذه قصص. كل صورة تحكي حكاية كاملة. سأقوم بإنشاء حملة رقمية، وسأعرضها للعالم كله. لن تكون مجرد مشاهد للموت والدمار، بل ستكون شاهداً على الحياة التي تقاوم، وعلى الأمل الذي يولد من رحم الألم.
بينما كان عادل يتحدث، كانت سارة ترسم بخطوط سريعة على ورقة بيضاء. رسمت يداً تمسك زهرة في أرض متشققة. وسنستخدم الفن، قالت سارة. سأطلب من فريقي رسم لوحات تعبر عن هذه القصص. كل لوحة ستكون رسالة. رسالة عن القوة، عن الصمود، وعن النور الذي يأبى أن ينطفئ.
وهكذا، أضافت مريم، ستكون مجموعتنا من الفنانين والمصورين والأطباء، معًا، صوتًا لا يمكن تجاهله. سنزرع الأمل في القلوب، ونريهم أننا لم نمت بعد.
كانت ردود الفعل على الحملة الفنية لعادل وسارة ومريم تفوق كل التوقعات. لم يكن الأمر مجرد إعجاب، بل كان مشاركة حقيقية. أرسل الناس رسوماتهم، وكتبوا قصصهم، حتى أن بعضهم أرسل تسجيلات صوتية بأغاني بسيطة ألّفوها بأنفسهم. لم يكن الناس يريدون مشاهدة الأمل فقط، بل أرادوا أن يكونوا جزءاً منه.
انظروا، قالت مريم وهي تعرض رسائلهم على شاشة كبيرة، كل رسالة من هذه الرسائل، كل رسمة، هي دليل على أننا لم نفشل. كل شخص من هؤلاء كان يشعر باليأس والعجز، تماماً كما شعرتُ أنا في البداية. لكننا الآن نُعيد لهم الأمل، خطوة بخطوة، ونُخبرهم أنهم ليسوا وحيدين.
أضاف عادل: لم أعد أرى كاميرتي مجرد أداة لتصوير الدمار، بل أصبحت وسيلة لتوثيق الصمود. كل صورة جديدة أرى فيها قصة لم تروَ بعد، وكل وجه يحكي حكاية إصرار.
وفي أحد الأيام، جلست مريم أمام شاشة التلفاز، لكنها هذه المرة لم تشعر بذلك الشيء الذي يموت في داخلها. كانت الأخبار لا تزال تعرض نفس المشاهد، لكن الفارق كان في الداخل. فبجانب صور الدمار، أصبحت مريم ترى الآن صوراً أخرى: صور الوجوه التي ابتسمت لها، والأيدي التي صافحتها، والأغاني التي سمعتها من أصوات الأطفال.
أدركت مريم أن الشعور لم يمت، بل كان نائماً. لقد كان يختبئ تحت طبقات من الألم، في انتظار من يوقظه. وأنها وفريقها لم يُرسوا السلام في الوطن بعد، لكنهم أرسوا بذرته الأولى في قلوب الناس.
ما عادت نفس الحكاية يا صديقتي، همست مريم لنفسها. فقد أصبح لكل حكاية نهاية، ولكل نهاية بداية جديدة.
من هنا وهناك
-
درجات الحرارة ترتفع بلا توقف.. ونوفمبر ‘يحرق‘ رقما قياسيا!
-
حالة الطقس : ارتفاع طفيف على درجات الحرارة
-
اعتقال شابة مشتبهة بطعن والدتها والتسبب باصابتها بجراح متوسطة
-
الوزير بن غفير: مسرور أن نتنياهو يدعم قانون الإعدام لمنفذي العمليات.. لن نهدأ حتى تمرير القانون بشكل نهائي
-
الطيبي: ‘بن غفير قد يجد نفسه أول من يتم إعدامه اذا تم تشريع ما يسمى بقانون ‘عقوبة الإعدام للمخربين‘
-
حلم تحقق بعد صبر طويل: أماني عدوي من طرعان تصبح أما لأول مرة بعد 17 عاما من الانتظار
-
مستشفى جديد تحت الأرض في تل أبيب.. لمواجهة الطوارئ
-
سيارة تصطدم بإشارة مرور وتسقط على أحد المارة قرب غان يفنه
-
لا صيف ولا خريف.. طقس متقلّب في مختلف المناطق اليوم | إليكم حالة الطقس الكاملة
-
‘إلى أمينة الأمينة‘ - بقلم: د. زياد محاميد





أرسل خبرا