المحامي زكي كمال يكتب : القيادات الأمينة لشعوبها لا تخشى السلام
إزاء الأوضاع الحاليّة في العالم عامّة، وتحديدًا على وقع ما حذّرت منه من أن تسارع الأحداث ووتيرتها، قد يؤدّي إلى حرب عالميّة ثالثة، بفعل قرارات سياديّة وقياديّة تتّخذها دول بمفردها ومنها روسيا مثلًا، وعلى وقع
المحامي زكي كمال
استمرار الحرب الأوكرانيّة، أو إسرائيل في حالة الحرب في غزة التي تنهي هذا الأسبوع شهرها الثامن، أو بفعل قرارات تتّخذها مجموعة من الدول سواء كانت بمحض إرادتها، أو بفعل ضغوط من قوى كبرى كما تشير الأنباء الواردة من أوروبا والتي تتحدث عن منظومة عمل جديدة، ربما ستتّبعها دول الاتّحاد الأوروبيّ بدعم ومبادرة وربما تخطيط أمريكيّ، تعتمد أسلوبًا جديدًا وهو مهاجمة روسيا بآلاف الطائرات المسيّرة التي تمّ استخدامها، ولكن بأعداد قليلة في الحرب الأوكرانيّة حتى اليوم، ما ينذر ربما بتوسيع نطاقها، وزيادة عدد أطرافها، وتحويل بعضها ممّن كانت غير مباشرة حتى اليوم، وأقصد أوروبا وأمريكا، إلى أطراف مباشرة في نظر روسيا، وبالتالي الدفع باتّجاه صدام واسع يقترب من حرب عالميّة ثالثة، وهو الحال في حالة "حماس" و"حزب الله" على ساحة الحرب في غزة وشمال إسرائيل واللتين تأتمران بأمر إيران، وربما تأتي بعض قراراتهم، أو معظمها انطلاقًا من ذلك، تقتضي الشجاعة الفكريّة والإنسانيّة والمبدئيّة، قبل تلك السياسيّة والعسكريّة والحزبيّة والأيديولوجيّة على تنوّع أشكالها ومساحات طيفها، الجزم أنّه إذا ما أردنا الخروج من دوّامة الحروب والحروب المتبادلة، بمعنى إنهاء الحروب بتحقيق سلام يدوم، فإن السؤال الأهمّ، بل الأوّل على الإطلاق والذي علينا التحلّي بالشجاعة الكافية لطرحه على الجميع ابتداءً من المواطن العاديّ في كلّ بلد وبلد، مرورًا بالمسؤول وانتهاءً بالقائد، بمعناه الواسع الذي لا يقتصر على القيادة السياسيّة ولا العسكريّة، بل يتعداها إلى مواقع القيادة الأخرى، تلك الأكاديميّة والعلميّة والاقتصاديّة والحقوقيّة والفكريّة والاجتماعيّة والإنسانيّة عامّة، هو ماذا فعلنا وماذا نفعل كلّ في مكانه كي يساهم كلّ منّا في محاولة منع الحروب. وهنا ورغم أهميّة هذا السؤال تبقى دائرته ضيّقة واحتمالات التأثير قليلة، خاصّة من منطلق إيماني المطلق بأن الحروب هي حالات وقرارات تصنعها القيادات، دون الرجوع إلى شعبها، وحتى دون استشارته وسؤاله، ودون الاكتراث بما إذا كان مستعدًا لقبول ذلك، وبالتالي ربما يكون بعضها لأهداف غير تلك المعلنة، ومن منطلقات تكون في السرّ مختلفة عن العلن، بل وربما متناقضة، يبقى السؤال الأهمّ هو ذلك الذي يتطرّق إلى الدور في تحقيق السلام، الذي يبدأ من الداخل، ثمّ تتّسع دوائره لتتواصل معًا نحو خلق دائرة سلام واسعة النطاق إن لم تكن شاملة وهذا هو الأفضل، تضمن انتهاء الحروب، وإحقاق الحقوق وحقن الدماء وصيانة الأرواح والممتلكات، وتتيح المجال أمام الشعوب كي تبني مستقبلها وتحدّد وجهتها، نحو صياغة مستقبل أفضل تكون لغة السلام هي السائدة، ليس من باب الاستسلام، أو الضعف، بل من بابين أو أكثر، أوّلهما أن اتّخاذ القرار بصنع السلام ووقف الحرب هو القرار الشجاع الذي يستوجب من متّخذيه قوىً نفسيّة ومعنويّة وشجاعة سياسيّة كبيرة، خاصّة وأن السلام ووقف الحرب سواء كان عبر مفاوضات مباشرة، أو غير مباشرة، برعاية دوليّة، أو محليّة أو غيرها، يعني إلغاء وتجاوز، بل الاعتراف بزيف شعارات رفعها كثيرون لفترات طويلة، تتعلّق بشيطنة الطرف الآخر وتكريس سلبيّاته واعتباره جهة لا تقيم للحياة قيمة، ولا معنى، بل أحيانًا جهة، أو جماعة، أو دولة لا معنى، ولا قيمة لحياتها، وبالتالي فالحرب وقتل أكبر عدد منهم هي القرار الأسهل، بل الغريزة الطبيعيّة انطلاقًا من الغريزة الإنسانيّة، أو ذلك الميل الإنسانيّ لردّ الصاع صاعين، ولمقاتلة من جاء يريد القتال والسعي إلى إخضاع العدو، وإرغامه على الاستسلام، أو التسليم بهزيمته وضعفه أمام جبروت الطرف الآخر خاصّة إذا كان دولة ذاع صيتها عسكريًّا وتقنيًّا، تحارب دولة أقل قدرة مثل روسيا "الكبيرة" التي تحارب أوكرانيا" الصغيرة"، أو دولة ذاع صيتها تقنيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا تضطر لخوض حرب طويلة وقاسية مع جماعة أو مجموعة مسلّحة، تعتبر نسبيًّا قليلة العدد والعدّة، وهما حالتان ساد الاعتقاد أنها ستكون حربًا قصيرة وسريعة الأهداف المنشودة للطرف القويّ وبسرعة، ليتّضح أن الموجود مختلف، وأنه أخطر من المنشود بكثير وأقسى أضعافًا.
اليوم، وعلى وقع استمرار هاتين الحربين من جهة، واحتمالات متضاربة بين اتّساعهما، أو استمرارهما لفترة غير معلومة، أو ربما وهي احتمالات تعتبر الأقلّ حظًّا ، تعود إلى الحياة وبقوة الأسئلة الملحّة حول دوافع رفض قيادات ومسؤولين في العالم عامّة، والساحتين سابقتي الذكر، أي أوكرانيا ومنطقتنا خاصّة، السعي من أجل السلام، أو حتى قبول اقتراحات لوقف الحرب، رغم وجود المؤسّسات الدوليّة والأمميّة ورغم فهم القيادات السياسيّة عامّة والعسكريّة خاصّة، كما أكّدت تلك منها التي تبوّأت مناصب عسكريّة أوّلًا ثمّ سياسيّة، ومنهم العاهل الأردنيّ الراحل الملك حسين ذات الثقافة العسكريّة المعروفة، والرئيس المصريّ محمد أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيليّ إسحق رابين، وحتى رئيس الوزراء الإسرائيليّ أريئيل شارون الذي نفّذ عمليّة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة عام 2005. وهي عمليّة يدّعي البعض اليوم أنها كانت السبب في أحداث السابع من أكتوبر عام 2023، أنّ الحرب ليست غاية، بل إنها وسيلة لتحقيق السلام، أو دفع الأطراف المتنازعة إلى إدراك أن ثمن السلام مهما كان باهظًا يبقى الأقلّ والأخفّ، وأن من خاض الحرب بويلاتها وبكافّة أشكالها العسكريّة الواضحة والمكشوفة، أو تلك الجوانب الخفيّة منها المخابراتيّة والاستخباريّة وعمليّات التصفية والكوماندو، هم أولئك الذين يدركون أهميّة وقيمة السلام وضرورة تحقيقه، فأهل مكّة أدرى بشعابها، أو أن من ذاق نار وويلات الحرب هو الأكثر توقًا وشوقًا إلى ثمار السلام، وبالتالي وإزاء ما يحدث اليوم في العالم، والحربين اللتين تشغلانه مع تفاوت درجات الاهتمام، في غزة وأوكرانيا، يبدو أن السؤال الأهمّ هو ليس كيفيّة منع الحروب، فهي حتميّة وللأسف، بل مذا علينا أن نفعل لوقف الحروب ومنع استمرارها وتفاقمها وتحوّلها إلى هدف للبعض لخدمة أجندات شخصيّة، وحزبيّة ودينيّة، أو رغبة في العودة إلى أمجاد تاريخيّة انتهت وذهبت ربما دون رجعة، وماذا نفعل لتحقيق السلام حتى لو كان ذلك عبر وقف مؤقّت للحروب واتّصالات تخفّف الويلات والمآسي.
أقول هذا على وقع الأحداث المتسارعة التي تتعلّق بالحربين المذكورتين، والتي تدمج بين احتمالات مختلفة، بل ومتضاربة بكلّ منها، فالحرب في غزة تتواصل، بل تتفاقم ثمّ تعود لتخفت وتيرتها وقسوتها من حين لآخر، بموازاة ازدياد الحديث عن صفقة قريبة، لإطلاق سراح الرهائن تشكّل بداية لوقف الحرب وربما تتيح المجال، ولو بنسبة خفيفة على الأقلّ لتكرار وقف إطلاق النار بمسمّياته من هدنة إلى تهدئة إلى غيرهما من المصطلحات وصولًا إلى وقف تامّ، وسلام وهدوء، وهو حديث يحمل في طيّاته حتى دون اعتراف رسميّ من القيادات، الاعتراف الضمنيّ أن السلام ممكن، وأن الطرف الآخر مهما كان مغاليًا في العداء والمعاداة، ومهما قست أفعاله خلال الحرب، فإنه طرف يمكن الحديث إليه والتفاوض معه حتى عبر طرف ثالث، كما كان الحال في اتفاقيات أوسلو، عبر وساطة أوروبيّة جمعت بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة التي كان قادة إسرائيل قد صرّحوا أنهم يرون قادتها عبر فوهة البنادق فقط، وقال قادة المنظّمة أن لا سلام ولا اعتراف ولا مصالحة مع إسرائيل، حتى جمعتهما المفاوضات غير المباشرة وقرّبتهما أجزاؤها المباشرة وصولًا إلى اتّفاق. وهذا ما كان مع مصر التي قادت العالم العربيّ عبر أربع حروب مع إسرائيل منذ العام 1948، ثم 1956 ثم 1967 وانتهاءً بأكتوبر 1973، وكرّرت رفضها الاعتراف والسلام وشعارات أن ما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوّة ، ليثبت العكس فسيناء بكاملها تمّ استردادها عبر سلام ومفاوضات، بعد أن فشلت الحروب في ذلك، واليوم يضاف إليها حديث عن محاولات دوليّة خارجيّة، لفرض وقف الحرب في غزة، ولو مؤقّتًا أو جزئيًّا، عبر تنفيذ لقرار محكمة العدل الدوليّة ، وقف الحرب في رفح، ومنع خلق أزمة إنسانيّة خطيرة تشكّل تهديدًا لحياة البشر، وتمنع أو تعرقل أيّ إمكانيّة للتهدئة والسلام من جهة، ولعقد صفقة لإطلاق سراح الرهائن من جهة أخرى، وبالمقابل فضّ هذا القرار بشقّيه من طرفي النزاع، وبالتالي رفضهما لوقف الحرب، ووأد أيّ محاولات لسلام ما، فإسرائيل ترفض وقف العمليّة العسكريّة في رفح، ويصرّ رئيس وزرائها ومعه ائتلافه الأصليّ، ومن انضمّ إلى ائتلاف الحرب لاحقًا، على مواصلة الحرب رغم الإدراك الذي يصل حدّ الحقيقة أن لا إنجازات ولا طائلة للحرب، وأن الهدوء والسلام هما ما سيكون في النهاية، وبالتالي الأفضل هو تقصير أمد الحرب. لكن هذا ما لا يحدث للأسف، والثمن إسرائيليًّا هو استمرار إزهاق الأرواح وهدر المال والإضرار بالممتلكات، وهدم البيوت والركود الاقتصاديّ الخطير، وتدهور القيم الديمقراطيّة والعزلة الدوليّة واحتمال اعتقال قادتها اليوم خاصّة بنامين نتنياهو ويوآف غالانت، ومن ثم قادة غيرهم ومواطنين إسرائيليّين عاديّين خدموا في الجيش، وعلاقات اقتصاديّة منهارة مع دول العالم، ووقف لتصدير أسلحة الى إسرائيل.. وغيرها وغيرها، وكلّها أثمان يدرك القادة أنهم سيدفعونها، أو تحديدًا ستدفعها بلادهم، لكنّهم لا يجرأون على وقف الحرب ورفع راية السلام.. والأسباب لاحقًا..
" الدوران في حلقة مفرغة"
فلسطينيًّا الأمر لا يختلف، فحركة "حماس" بميثاقها ترفض السلام مع إسرائيل والعمليّات العسكريّة والتفجيريّة، بعد اتفاقيّات أوسلو الدليل الناصع، وتعديل ميثاقها لم يغيّر شيئًا، وذلك رغم إدراكها أن تكرار الحروب والمواجهات مع إسرائيل، يعني الدوران في حلقة مفرغة وجولات متكرّرة، لا تشكّل نهاية، أي منها إلا بداية الاستعداد لجولة أخرى، يتخلّلها الدمار والخراب والخسائر البشريّة، ومن ثمّ إعادة الإعمار مرّة تلو الأخرى، ما يعني عمليًّا المراوحة في المكان في أحسن الأحوال، والتقهقر إلى الوراء في الواقع، كما يعني الحكم على ملايين الغزييّن بالويل والثبور، ومنعهم من أيّ تقدّم، أو تطوّر، أو ازدهار وسدّ تامّ لآفاق الحياة والتطوّر الاقتصاديّ والأكاديميّ والإنسانيّ، وكأنها رغم معرفتها التامّة بأخطار الحرب وميزات السلام ترفض ذلك، وتصرّ كما الحال اليوم، وهي الحرب الأقسى والأخطر على القطاع منذ العام 1967، فها هي تماطل وتطيل أمد الحرب بمآسيها وترفض وفق لعبة صفريّة أيّة مساومة، فإمّا الكلّ، أو لا شيء، دون أيّ اكتراث بما يريده الشعب حقًا بعيدًا عن شعارات غوغائيةّ علنيّة حول التحرير والصمود والاستعداد للتضحية. فهذه ديباجة الشرق العربيّ منذ الأزل، ترافقها شعارات تحوّل كلّ هزيمة وخسارة إلى نصر مبين وفوز مظَفَّر، وبالتالي ترفض اليوم حركة "حماس" إطلاق سراح الرهائن، وتصرّ على اقتران ذلك بوقف الحرب رغم إدراكها استحالة ذلك، فوقف الحرب هو حلّ نهائيّ ينسف كافّة الأهداف التي رسمتها إسرائيل، مقابل إنجاز مرحلي هو اطلاق جزء من الرهائن والمختطفين، والأسباب لذلك واضحة، وهي تقديم وتفضيل الأنا القياديّ على نحن، أي المصلحة الخاصّة والضيّقة على المصلحة العامّة واعتبار البقاء السياسيّ للقيادة والزعامة والحزب والحركة، القيمة العليا، أما ما دونها فقد جاء لخدمتها فقط، وهو الحال ربما بفارق بسيط في إسرائيل، فاعتبارات مواصلة الحرب واضحة، والأسباب معروفة تتراوح بين الرغبة في ضمان البقاء السياسّي والشخصيّ للقيادات السياسيّة خاصّة رئيس الوزراء، وبين إشباع رغبة الانتقام، أمّا الأنكى من ذلك فهو السعي إلى إشباع رغبة القاعدة الانتخابيّة، عبر شعارات تتحدّث عن النصر المطلق والتامّ الذي يعني استمرار الحرب، ولعلّ الدليل على ذلك هو قرار البرلمان الإسرائيليّ تمديد سريان حالة الطوارئ حتى نهاية العام الحاليّ 2024، واللبيب من الإشارة يفهم، وهو إشارة إلى أن الحرب مستمرّة، وأن احتمالات وقفها واحتمالات الإصغاء إلى أصوات السلام والهدنة ووقف القتال، غير قائمة، لكنّه اعتراف ضمنيّ لكلّ من في رأسه عينان أن الأهداف المعلنة لم، وربّما لن، تتحقّق .
مجريات الأمور في هذا السياق تشير إلى أن وقف الحرب هو حالة مرفوضة لأسباب أعمق وأكبر حتى ممّا سبق، فلو كان الرفض لأسباب سابقة الذكر، لاستغلّت القيادة الإسرائيليّة ومقابلها الحمساويّة، قرارات محكمة الجنايات الدوليّة التي أصدرت أوامر اعتقال بحقّها، وسيلة للنزول عن الشجرة والتراجع عن استمرار القتال والحرب، ولاستغلّ الطرفان قرارات محكمة العدل الدوليّة، لوقف العمليّة العسكريّة في رفح وإعادة فتح معبر رفح أمام دخول المساعدات إلى القطاع، وضمان وصول أيّ لجنة تحقيق دوليّة لتقصّي الحقائق بشأن الحرب بالقطاع، وهي خطوات كانت ستزيد من احتمالات التهدئة ووقف الحرب، وإطلاق سراح الرهائن حمساويًّا، وهي خطوة من شأنها نشر التفاؤل، وإثبات حسن النوايا والالتزام بالقانون الدوليّ وحقوق الإنسان والتعليمات الإنسانيّة، وتقديس حياة الإنسان كقيمة عليا، فالرفض هو تضحية بهذه القيمة العليا واعتبارها في مرتبة متأخرّة..
وحالة الحرب الأوكرانيّة مشابهة فهي عبثيّة بعد أن بلغت من العمر نحو عامين ونصف، فاحتمالات انتصار أيّ من الطرفين غير قائمة، بل إن استمرارها جعلها تبدو، وكأنها تدور في الساحة الخلفيّة للعالم، وكأنّها حرب تواصلها روسيا لتحقيق أحلام عظمة ربّما لن تتحقّق، أو ربما جنون عظمة شخص واحد، كان من المتوقّع وبصفته رجل استخبارات أن يعرف ويلات الحرب والقتال والقتل، وأن يجنح إلى السلم، لكن يبدو أن أهدافه التي أصبحت مستحيلة التحقيق جعلته يتصرّف وفق منطق" ما لا يتحقّق بالقوّة يتحقّق بمزيد من القوّة"، بينما تواصلها أوكرانيا وهي واثقة أنها داود الذي لن ينتصر على جوليات القويّ، لكنّها تواصلها، لأنّها أسيرة مواقف مجموعة سياسيّة تنتمي إليها، وكأنها تريد إقناع الاتّحاد الأوروبيّ أنها مستعدّة للتضحية بالغالي والنفيس للانضمام إليه، وباختصار التضحية بحياة مواطنيها لتحقيق هدف سياسيّ واقتصاديّ وعسكريّ، فهذا هو سلّم الأولويّات، وفي ما سبق التفسير لتلك الحالة التي تشغل الباحثين والمطّلعين والمراقبين حول تفضيل السياسييّن لحالات الحرب، وخوفهم من عمليّات السلام، والتي حاول أستاذ علم النفس والمحاضر في جامعة ليدز بيكيت، ستيف تايلور النظر في أسبابها خاصّة في كتابه "العودة إلى التعقّل" ، ويقول علماء النفس التطوّريّ، إنها حالة طبيعيّة، وأنه من الطبيعيّ أن يخوض البشر حروبًا فهم مخلوقات تريد لنفسها الاستمرار والبقاء، وبالتالي يحاولون الحصول على موارد طبيعيّة ومساحات جغرافيّة ومقوّمات اقتصاديّة، لضمان ذلك البقاء والحصول على الموارد التي تساعدنا على البقاء والقتال من أجلها، هذا إلى جانب نظريّات تؤكّد أن السياسيّين يسعون أحيانًا إلى الحروب ويرفضون السلام، لأن الأولى أيّ خوض الحرب، لم تعد في العصر الحالي مقصورة على الجيش، بعكس الأزمان الغابرة، بل يشارك فيها كافّة أفراد المجتمع. وهي حالة تفرض على الجميع، أو الغالبيّة شعورًا بوحدة المصير واحترام الأهداف المشتركة، والتخلّي عن المصلحة الخاصّة من أجل خدمة الصالح العامّ، كما يقول ويليام جيمس العالم النفسيّ الذي خصّص جانبًا من أبحاثه للأسباب النفسيّة وراء الحروب، وربما أحد الدوافع التي تدفع السياسيّين، وليس القادة الذين يريدون أن يخلدهم التاريخ، إلى الابتعاد عن السلام وتفضيل الحرب.
خلاصة القول: تتنوّع وتختلف المواقع وساحات القتال والحرب علميًّا وإقليميًّا ومساحات الخلاف داخليًّا وتتنوّع مسبّبات الحالات السابقة، على اختلاف مواقعها وأماكنها وهويّة دولها وشعوبها على صعيد المنطقة والعالم، وتوزيعتها الطائفيّة والفئويّة وأحيانًا المذهبيّة والأيديولوجيّة داخل الدولة ذاتها. ولكن الحقيقة الواقعة أن كلّ ما سبق من جزئيّات لا يغيّر من السؤال الأساس الذي يتمّ طرحه حول ما إذا كان الإنسان لا يستطيع العيش في سلام؟ وهو سؤال يمكن صياغته بشكل آخر أكثر حدّةً، يتطرّق إلى نظريّة الرجال العظماء، الذين يصنعون السلام فيذكرهم التاريخ ويخلّدهم ابتداء من فريديرك دي كليرك ونلسون مانديلا، والرئيس الروسيّ ميخائيل غورباتشوف والرئيس المصريّ أنور السادات والعاهل الأردني الراحل، الملك حسين وإسحق رابين وغيرهم ممّن صنعوا السلام فخلّدهم التاريخ، والعظماء هنا هي شخصيّات سياسيّة واقتصاديّة وفكريّة تنشط، وتبرز في الحياة و في المجتمع لما تتمتّع به من قدرات ومواهب عظيمة، تجعلهم يملكون الشجاعة لتحقيق السلام والابتعاد عن الحرب عملًا بقول العظيم مارتن لوثر كينغ:"على الرغم من الانتصارات المؤقّتة التي تتحقّق بالعنف، إلا أنه لا يجلب سلامًا دائمًا أبدًا"، أو قول رالف والدو إمرسون، خطيبٌ، ومحاضرٌ، وفيلسوف
وشاعرٌ أمريكي، "إن الانتصارات الحقيقيّة والدائمة هي انتصارات السلام، وليست انتصارات الحرب".. وأعود الى ما قاله الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر واستبدل كلمة الناس بأخرى "إنّ القياديين الأذكياء جدا لا يمكن أن يكونوا أشراراً لأن الشر يتطلب غباءً ومحدودية في التفكير ".
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]
من هنا وهناك
-
علاء كنعان يكتب : حماس بعد السنوار - هل حان وقت التحولات الكبيرة ؟
-
د. سهيل دياب من الناصرة يكتب : ما يجري في الدوحة ؟
-
قراء في كتاب ‘عرب الـ 48 والهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة‘ للكاتب المحامي سعيد نفاع
-
مركز التأقلم في الحولة: نظرة عن الحياة البرية في الشمال
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - نحن ولست أنا
-
المحامي زكي كمال يكتب : سيفعل المتزمّت دينيًّا وسياسيًّا أيّ شيء للحفاظ على عرشه!
-
د. جمال زحالقة يكتب : زيارة بلينكن لإسرائيل - بين العمليات العسكرية والانتخابات الأمريكية
-
مقال: بين أروقة المدارس ( المخفي أعظم ) - بقلم : د. محمود علي
-
يوسف أبو جعفر من رهط يكتب : حتى نلتقي - ستشرق الشمس
-
المحامي زكي كمال يكتب : الحروب الآنيّة بين الاعتبارات العسكريّة وهوس الكرامة القوميّة
أرسل خبرا