‘مركب بلا صيّاد.. مسرحية لافتة وسؤال خالد ‘ - بقلم : ناجي ظاهر
تطرح مسرحية " مركب بلا صياد" للكاتب والشاعر الاسباني اليخاندرو كاسونا، واحدة من أبرز القضايا الاخلاقية التي تواجه الانسان المعاصر في كلّ مكان وآن، فهل تقبل أن تقتل شخصًا
بلا ذنب جناه مقابل أن تعيش سعادتك وتستمتع بعطاياها، ثم هل ترضى بأن تبني سعادتك على تعاسة آخرين، أو أن تستعيد قوتك الغائبة بعد أن فقدتها، أو كدت وبتّ مُهدّدًا بالإفلاس؟ مقابل تنازلك عن كلّ قيمة إنسانية وأخلاقية.
صاحب هذه المسرحية اليخاندرو كاسونا ( 1903- 1965)، يُعتبر واحدًا من أبرز الكُتّاب الاسبان في القرن العشرين. باتت معظم اعماله منذ زمن بعيد جزءًا هامًا من تراث بلاده الكلاسيكي، وتمّ التعامل معها سينمائيًا ومسرحيًا داخل بلاده وخارجها. حصل عام 1932 على الجائزة الوطنية للرواية من وزارة الثقافة في بلاده، على روايته " زهرة الاساطير"، كما حصل في فترة تالية على جائزة الكاتب الاسباني ذائع الصيت لوب دي فيجا، لقاء ابداعه أفضل نصّ درامي. كتب مسرحيته هذه " مركب بلا صياد"، عام 1945، وقد تمّت ترجمتها إلى العديد من اللغات وتمّ إنتاجها فيلمًا سينمائيًا أيضًا، وقد تمّت ترجمتها إلى العربية أكثر من مرة، منها واحدة نفذها وقام بها الكاتب والمُترجم العربي المصري الخبير بالأدب الاسباني الدكتور محمود على مكي، وقد صدرت عام 1965 ضمن السلسلة المسرحية الثقافية رفيعة المستوى " مسرحيات عالمية".
استوحى كاسونا عصب مسرحيته هذه من أسطورة فاوست الالمانية التي سبق واستلهمها أديب المانيا وشاعرها المُبدع جيته في مسرحية حملت اسمها ذاته، وعرفها الناس في معظم بقاع الارض وأصقاعها. تقع المسرحية في ثلاثة فصول، وتدور أحداثها حول رجل أعمال ناجح تتعرّض مشاريعه إلى هزّة شبه أرضية فيجد نفسه وجهًا لوجه ضمن مواجهة مصيرية قد تؤدي به إلى الافلاس أو قريبًا منه.
هنا يظهر له شخص أنيق يرتدي بدلةً سوداء وربطة عنق، ( ضمن إشارة مقصودة كما يقول الاذكياء من الناس)، وسرعان ما يعرف منه أن الشيطان، وهنا لا بدّ من الاشارة إلى واحدة من أبرز مواصفات كاتبنا المسرحية، وهي الخروج في اللحظة المناسبة، من تطويره حَبكته المسرحية، من العادي إلى غير العادي من الاحداث. يعرض الشيطان على بطل المسرحية ريكاردو اليخاندور، وهذا هو اسمه، مساعدته في استرداد عافيته المالية، ويشترط عليه أن يكون مقابل هذا الاسترداد، بالموافقة على مقتل شخص يعيش في مناطق بعيدة قصية، دون ذنب اقترفته يداه، وعندما تظهر علامات التردّد على بطل المسرحية، يقنعه الشيطان بأسلوبه الجهنمي بالموافقة، مذكّرًا إياه أنه قَبِلَ أن يستغل المحيطين به ورضي أن يُصاب عُمّال مناجمه بالأمراض، وما إليها من مصائب يتسبّب بها رجال الاعمال لمستخدميهم وعمالهم دون أن يطرف لهم جفن، ولم يبق عليه إلا الموافقة، ويُبالغ في الاقناع يقول له :" اعزم أنت على القتل وسوف أتكفّل أنا بالبقية"، إنه يذهب أبعد من هذا فيقول له :" لا تنس كلماتك ان القلب شيء قبيح!!".
بعد تردّد يوافق بطل المسرحية ريكاردو، على أن تتمّ عملية القتل، خاصة بعد أن يُخبره الشيطان أنها سوف تتمّ دون أن تُسفك فيها دماء، وأن كلّ ما سيحصل هو هبّة ريح تودي بحياة صياد يدعى بيتر أندرسون، تمكّن بعد تضحيات جسيمة شاركته فيها زوجته الوفية، من شراء مركب صيد. هكذا يوافق ريكاردو على الفعل الفظيع وغير الاخلاقي، وهنا تبدأ الاحداث بالتطوّر في اتجاه آخر، صحيح أن بطل المسرحية ريكاردو يستعيد توازنه المالي المُهدّد بالفقدان، غير أن سؤالًا مُقلقًا يلحّ عليه مفاده ما الذي حصل. عندما يصل هذا الحد من التساؤل يُقرّر السفر إلى " مكان الجريمة"، ليكتشف أن الشيطان أوهم هناك شخصًا يدعى كريستيانو بأنه هو مًن قتل زوجها الصياد بيتر اندرسون، جراء منافسات تسببت في ضغينة كامنة وحقد دفين، وان هذا القاتل الموهوم اعترف لزوجة الصياد، وتدعى ستيلا، أنه هو مَن قتل زوجها، ويُفاجأ ريكاردو بغفران زوجة الصياد لقاتل زوجها، الأمر الذي يدفعه لإعادة طرح الأسئلة الاخلاقية التي شغلته منذ زيارة الشيطان له في مكتبه. هذا كلّه يدفعه لاكتشاف الحياة في أعمق اعماقها.. وهنا يستفيق الإنسان في داخل ريكاردو فيخبر الشيطان أنه قرّر أن يقتل ذاته القديمة وأن يستأنف الحياة بالقرب من ستيلا زوجة الصياد القتيل.. تلك الزوجة الوفية المُحبة للحياة والامان.
يقول ريكاردو :" قبل أن أصل إلى هذا المنزل لم أكن أعرف معنى المنزل وقبل أن أتعرّف على ستيلا لم أكن أعرف حقيقة المرأة" ، ويطلب من ستيلا أن يكافحا معًا قائلًا: " عندما تنظر امرأة إلى رجل فإن ذلك كفيل بأن يجعله يعمل".
كما يرى الاخوة القراء تثير هذه المسرحية واحدًا من أهم الاسئلة المطروحة بإلحاح على الانسان المعاصر، وهي تلك القضية القديمة الجديدة التي أشار إليها السيد المسيح في مقولته الخالدة.. فإما تخسر العالم وإما تخسر نفسك..
من هنا وهناك
-
‘شهيدة التخلف ‘ - بقلم : رانية فؤاد مرجية
-
‘أبو إسلام يحترف صنعة الدهان‘ - قصة قصيرة بقلم : محمد سليم انقر من الطيبة
-
الجيّد.. السيّء.. الأسوأ.. - بقلم : زياد شليوط من شفاعمرو
-
قراءة في ديوان ‘على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت‘: الجرأة والجمال - بقلم : د. أحمد رفيق عوض
-
زجل للزَّيتون - بقلم : أسماء طنوس من المكر
-
قراءة في الديوان الرابع عشر للشاعر سامر خير بعنوان ‘لا بُدّ للصّخر أن ينهَزِم‘
-
قصيدة ‘كُنتَ الفتى الأبيَّ المُهَاب‘ - بقلم : الدكتور حاتم جوعية من المغار
-
‘وذرفت العاصفة دمعة‘ - بقلم: رانية فؤاد مرجية
-
‘ الاستيقاظ مبكراً صحة ‘ - بقلم : د. غزال ابوريا
-
قصة كفاح - بقلم : رانية فؤاد مرجية
أرسل خبرا