جوزيف كحَّالة في ‘ باقةٌ من المؤلِّفين العرب المسيحيِّين‘ - بقلَم : البروفِسُّور جوزيف أبو نهرا
الدُّكتور جوزيف إلياس كحَّالة باحثٌ متعدِّدُ المواهب، واسعُ الثقافة، يُدهشك بتنوُّع الموضوعات الَّتي يتطرَّق إليها في مؤلَّفاته الوفيرة الَّتي يُنتجها بوتيرةٍ متسارعةٍ وكأنَّه في سباق مع الزَّمن سعيًا
صورة من الكاتب
لتحقيق الكثير في وقتٍ قصير. يَتبدَّدُ العجبُ حول مصدر حماسته ورحابة آفاقه عندما تعرفُ أنَّه من حلب، الميدانِ الفسيحِ لتفاعل الأفكار ودوامِ الإبداع، والشَّاهدةِ في التَّاريخ على عظمة الفكر والفنِّ والأدب، وفيها يَتبارى الشُّعراء منذ أيَّام الحمدانيِّين.
حلبُ الشَّهباءُ هي قصيدة شعر على لسان كلِّ حلبيّ، فكيف إذا كان كجوزيف كحَّالة عاشقًا وَلهانَ بحُبِّها، ولكن، شاءت ظروف الحياة أن يعيشَ في الغربة بعيدًا عنها منذ حوالى أربعين سنة! وهل لِضفاف نهر السّين الپَّاريسيِّ أن تُطفئ غليلَ الحَنين إلى زحمة ميادين الصِّبا ومرابِع الأهل والخلاَّن والقدود الحلبيَّة؟
جوزيف أبو نهرا وناجي نعمان
الكتابُ الصَّادرُ عن دار نعمان للثَّقافة
يضمُّ الكتابُ الصَّادرُ عن دار نعمان للثَّقافة مجموعةَ مقالاتٍ سبقَ أن نشرَها جوزيف كحَّالة عن مؤلِّفين عرب ميسحيِّين في مجلاَّت عربيَّة، وقد عاد إلى الأصول والينابيع لإبراز خصائص أربعة عشر مؤلِّفًا لَمعوا في ميادين الدِّين والدُّنيا، في الفلسفة واللاهوت والشِّعر والتَّاريخ والصِّحافة والموسيقا والطَّرب. كلُّهم حلبيُّو المَولد والنَّشأة عدا ثلاثة: جورج جبُّور والخوري بطرس التُّولاوي والشمَّاس مكرديج الكسيح؛ والأخيران لم يولَدا في حلب ولكن قَضَيا معظم حياتهما فيها.
عشقُ كحَّالة لحلب لا يوازيه إلاَّ شغفٌ بلغة الضَّاد وأربابها، وبالأدب العربي وأعلامه، وقد كرَّس كتابَه لِبَاقة منهم. وما يلفت القارئ في صفة المؤلِّفين موضوعِ الكتاب أنَّ ثمانية من أصل أربعة عشر منهم يَنتمون إلى سلك الإكليروس الملكيِّ الكاثوليكيِّ أو الماروني: إثنان شمامسة، خمسة كهنة، وأسقف واحد. وهذا ما يؤكِّدُ أنَّ رجال الإكليروس المسيحيِّ على نَحوٍ عامٍّ تميَّزوا بثقافة عالية، وامتلكوا ناصِيَة اللغة العربيَّة، فساهم بعضهم في نهضتها وانفتاحها على العلوم الإنسانيَّة والوَضعيَّة، ومن بين المَذكورين في الكتاب: الخوري بطرس التُّولاوي والمطران جرمانوس فرحات، والشمَّاس مكرديج الكسيح.
تنوُعٌ في ميادين الأدب والفِكر
تَنوَّعَت ميادين الأدب والفكر الَّتي رادَها المؤلِّفون الَّذين يتناولُ الكتاب سيرتَهم ونتاجَهم، وهم، بِحَسب ترتيب ورودهم الألِفبائيّ:
1- الأرشمندريت إغناطيوس ديك، وهو من أهمِّ مؤرِّخي كنيسة الروم الملكيِّين الكاثوليك والكنائس الأنطاكيَّة الأخرى. إهتمَّ بتاريخ المسيحيَّة المشرقيَّة على نَحوٍ عامٍّ وبالحوار المَسكوني. هو من روَّاد نشر التراث العربيِّ المسيحيِّ القديم، إذ نشرَ عدَّة مخطوطات لتيودورُس أبو قرَّة، أسقف حرَّان (755م-825م) مُلقِيًا الضَّوء على موقف المسلمين من رسم الصُّوَر وإكرامها في مطلع العصر العبَّاسي. وللأب ديك عدَّة مؤلَّفات مهمَّة حول العلاقات الإسلاميَّة المسيحيَّة عبرَ التاريخَين، القديم والحديث.
2- الأرشمندريت أناطوليوس كحَّالة الَّذي ترك عدَّة مخطوطات سردَ فيها أخبارَ عصره، بالإضافة إلى سيرة حياته الَّتي تحوي معلومات هامَّة عن تاريخ الرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة والكنيسة المَلَكيَّة.
3- الخوري بطرس التُّولاوي، وهو من أهمَّ أعلام الموارنة الَّذين درسوا في مدرسة روما المارونيَّة، وقد عاصرَ البطريرك الدُّويهي الَّذي رسمه كاهنًا وأسندَ إليه إدارة المدرسة المارونيَّة الَّتي كان أسَّسها في حلب عامَ 1666. وعرفَت مدرسة حلب المارونيَّة عصرَها الذَّهبيَّ في عهد التُّولاوي، ومن خِرِّيجيها روَّاد النهضة الأدبيَّة والرهبانيَّة وأبرزُهم المطران جرمانوس فرحات، تلميذ التُّولاوي. كما وصلت مدينة حلب إلى قمَّة الإشعاع بعدما جعل الخوري بطرس التُّولاوي من مدرستها المارونيَّة صلةَ وصل مع معاهد روما. وقد ترك عدَّة مؤلَّفات مهمَّة في الفكر الفلسفيِّ اليوناني، وكان موسوعةَ معارف، يُتقن اللُغات، اليونانيَّة واللاتينيَّة والإيطاليَّة والسريانيَّة والعبريَّة، وهذا ما ساعده على القيام بعدَّة ترجمات.
4- المطران جرمانوس فرحات، حلبيُّ المولد والنشأة وتعودُ أصول عائلته إلى بلدة حَصرون اللبنانيَّة. تميَّزَ بهِمَّة وَقَّادة وبشغف في الاستِزادة من مختلِف العلوم، وتتلمذَ على أفضل المعلِّمين في حلب: سليمان النَّحَوي والشيخ يعقوب الدبسي والخوري بطرس التُّولاوي الَّذي قال عنه: "سيكون من أفراد العلماء البارزين في الشَّرق". وبالفعل، كان المطران فرحات، قبل سيامته أسقفًا، من مؤسِّسي الرهبانيَّة المارونيَّة بجبل لبنان في أواخر القرن السابع عشر، ومن روَّاد نهضة اللغة العربيَّة، وهو من أوائل المسيحيِّين الَّذين كتبوا الشِّعر العربيَّ الفصيح. ترك إلى جانب ديوان شعره عدَّة مؤلَّفات يَربو عددُها على المئة، أبرزُها في عِلم النَّحو، وكذلك عدَّة ترجمات إلى العربيَّة. وأبرزُ ما قام به في حلب أنَّه أنشأ مكتبة هامَّة في المطرانيَّة جمعَ فيها أكثر من ألف مخطوطة، العديد منها نادرٌ ونَفيس، وهي اليومَ من أهمِّ المكتبات الَّتي تحوي مخطوطات عربيَّة وسريانيَّة.
5- العلاَّمة جورج جبُّور، رجلُ فكرٍ سوريٌّ بارزٌ وأستاذٌ جامعيٌّ في السياسة والعلاقات الدّوليَّة. له اهتمامات خاصَّة بتاريخ العرب وحضارتهم، وهو من أوائل الَّذين نادَوا بتكريس يومٍ عالميٍّ للغة العربيَّة. معظم مؤلَّفاته في الفكر السياسيّ.
6- المُفكِّر حِكمَت حمصي، يحملُ شهادتَي دكتوراه في الفلسفة وفي العلوم السياسيَّة من ألمانيا وفرنسا. لم يكن غزيرَ الإنتاج لكنَّ ما تركه من مؤلَّفات فلسفيَّة بالغُ الأهمِّيَّة، وبخاصَّةٍ ما كتبه عن فلسفة إمَّانويل كانط وما ترجمه له ولغيره من أئمَّة الفِكر.
7- رزق الله حسُّون، الشَّاعر والصِّحافي، أرمنيُّ الأصل، درس في دير بزمَّار، ثمَّ سافر إلى پاريس ولندن والقاهرة لطلب مزيدٍ من العِلم. نسخَ العديدَ من المخطوطات ثمَّ اهتمَّ بالصِّحافة فأنشأ في إسطنبول، سنة 1855، جريدةَ "مرآة الأحوال"، وهي أوَّل جريدة بالعربيَّة غير رسميَّة في العالَم.
8- الأديب رياض حلاَّق، شاعرٌ مُبدعٌ وصحافي لامع تولَّى رئاسة تحرير مجلَّة "الضَّاد" ومجلَّة "الكلمة" في حلب. برعَ في الشِّعر وترك ديوانًا سَمَّاه "حصاد السِّنين" وله العديد من الكتب والمقالات.
9- الأديب عبد الله يوركي حلاَّق، والد رياض حلاَّق. صحافي بارز وشاعر مميَّز برز في الميدان الوطنيِّ والقوميِّ فلُقِّب بـ "شاعر العروبة الفَذّ" لأنَّه كان يُجيد استعمال الألفاظ الوطنيَّة المناسبة. أسَّس مجلَّة "الضَّاد"، وكان رئيسَ تحريرها، ثمَّ تولَّى رئاسة تحرير مجلَّة "الكلمة". إلى جانب الصِّحافة كتب في القصَّة والمسرح وترك العديد من المؤلَّفات المخطوطة.
10- الأب فلابيانوس كحَّالة، راهبٌ باسيليٌّ حلبي، لا مؤلَّفات له سوى مقالٍ عن تاريخ الرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة، ويتضمَّن الكتابُ الحاليُّ موجزًا لهذا المقال.
11- قسطاكي الحمصي، شاعرٌ موهوبٌ تميَّز بحُسن البَيان. يَعتبرُ أنَّ الشِّعر هو من الفنون الفطريَّة وليس صناعةً تحصيليَّة. من أشهر مؤلَّفاته كتاب "منهل الموارد في عِلم الانتقاد"، وفيه فصولٌ عن عِلم الجمال. يربطُ فنونَ الصِّناعات الجميلة بالمَنحى الأخلاقيِّ عند الإنسان، وبخاصَّةٍ في فنِّ الشِّعر.
12- الشمَّاس مكرديج الكسيح، امتازَ بمتانة لغته وبساطة أسلوبه. برعَ في المعارف والعُلوم، واشتهر بالموضوعات الاجتماعيَّة والإنسانيَّة والروحيَّة. ترك العديد من المؤلَّفات أغلبُها في الروحانيَّات وأمور الدِّين، ويُعَدُّ من روَّاد النهضة الفكريَّة.
13- الأرشيدياكون ميخائيل بَجَع، اشتُهر بفصاحة اللسان وبلاغة الوعظ حتَّى لُقِّبَ بـ "الذَّهبيِّ الفَم". ترك العديد من المؤلَّفات المهمَّة في الروحانيَّات والتعليم والمواعظ.
14- الشمَّاس نعمة الله بن توما الحلبي، طرقَ مختلِف أبواب الشِّعر، وترك ثلاثة مؤلَّفات ما تَزال مخطوطةً بينها ديوان شعره وكتاب "حب الفؤاد بنصح الآباء للأولاد"، وهو عبارة عن إرشادات أب لأبنائه.
جوزيف كحالة وجوزيف أبو نهرا
طويلُ الباع، لا يَهابُ الصِّعاب!
يَبرزُ بوضوح في الكتاب شغفُ جوزيف كحَّالة بالتراث العربي المشرقي، ولا سيَّما لجهة رافده المسيحيّ. كرَّس معظم وقته وجهده في البحث عن معالمه وأعلامه وإبراز غناه ودوره في الثَّقافة العربيَّة. له في تاريخ الكنائس الشرقيَّة واللُّمَّع من أبنائها ورؤسائها الروحيِّين ما يزيد عن الخمسة عشر كتابًا، وفي فلسفة التصوُّف الإسلاميِّ وتاريخه وطرقه وأعلامه أربعة مؤلَّفات. واهتماماتُ الباحث غير محصورة بالتراث الدينيِّ المسيحيِّ والإسلاميّ، إذ يتجاوزُه إلى الفِكر الإنسانيّ، إذْ له في الفلسفة والأدب عدَّة مؤلَّفات.
جوزيف كحَّالة باحثٌ طويلُ الباع والبال، يُلَملمُ بصَبرٍ وأناةٍ نتَفَ المعلومات في ثَنايا المصادر وصفحات المراجع، ثمَّ يستنطقُ أشخاصًا أصحابَ اطِّلاع حول أمور غفلَت عن ذكرها المخطوطاتُ والمراجعُ المطبوعة. وما يلفتُ القارئَ وفرةُ الهوامش في الكتاب وغناها بالمعلومات المتنوِّعة الَّتي تُلقي المزيدَ من الضَّوء على ما وردَ في مَتن النصّ، أو توضح بتفصيل سيرةَ أعلامٍ وَرَدَ ذكرهم في سياق البحث.
فَهمَ الباحث كحَّالة الثَّقافة على أنَّها صلة إنسانيَّة. كتاباتُه تحاكي العقلَ والقلبَ فتَشحذُ العقل ليتذوَّقَ طعم المعرفة والحقيقة مُشَرَّعًا على تنوُّع الانتماءات ورحابة الآفاق، وتَغسلُ القلبَ بماء المحبَّة والتَّفاعل والتَّلاقي. نقرأه فنشعر أنَّه يحملُ رسالةً يؤمنُ بها ويسعى لِتَرجمتها حبرًا على ورق. أُعطِيَ نعمة العِلم وشغفَ البحث فسبَرَ الأغوارَ وتجاوزَ الأخطارَ أمانةً للحقيقة وإبرازًا للحقّ.
جوزيف كحَّالة الحلبيُّ النَّشأة والهوى أحبَّ حلب حتَّى العشق فرسَخَتْ صورتُها عميقًا في وِجدانه وأصبحت جُزءًا أساسيًّا من كيانه. تراه لا يكفُّ عن ذكرها في كلِّ فصول الكتاب مُسهِبًا في إبراز مميِّزات طبيعتها ومفاتنها وخصائص مجتمعها الراقي في تنوُّعه والمُبدع في الفِكر والفنّ.
الكتابُ مرجعٌ مهمٌّ يؤرِّخُ على نَحوٍ غير مباشر للحالة السياسيَّة والاجتماعيَّة والأدبيَّة والفِكريَّة والدِّينيَّة في المَشرق العربي، وبخاصَّةٍ في سورية ولبنان وفِلِسطين ومِصر منذ أواخر القرن السَّابع عشر، زمنَ الحكم العثماني، وحتَّى عصرنا الحاضر. فيه إضاءاتٌ جديدةٌ حول النشاط الأدبيِّ والصِّحافيّ، وتطوُّر التَّعليم، وإنشاء المدارس، وتعدُّد اللُغات وموادِّ التدريس، والتفاعل بين الشرق والغرب. غالبًا ما يتوسَّعُ الباحثُ في وَصف الإطار العامِّ الَّذي عاش فيه المؤلِّفون الَّذين يتناولُ سِيَرَهم ونتاجاتِهم الأدبيَّةَ والفكريَّة، وهذا ما يجعلُ مضمون الكتاب وفائدته أوسع ممَّا يُشير إليه عنوانُه.
جوزيف كحَّالة باحثٌ لا يهابُ الصِّعابَ، ولا يعرفُ الكَلَلَ والمَلَل، وهو صديقٌ عزيزٌ نتمنَّى له طول العمر ودوام العطاء، كيما نستمرَّ في تكحيل العين بقراءة كتاباته الشيِّقة، وفي إغناء العقل بأفكاره المُبدِعَة.
من هنا وهناك
-
‘شهيدة التخلف ‘ - بقلم : رانية فؤاد مرجية
-
‘أبو إسلام يحترف صنعة الدهان‘ - قصة قصيرة بقلم : محمد سليم انقر من الطيبة
-
الجيّد.. السيّء.. الأسوأ.. - بقلم : زياد شليوط من شفاعمرو
-
قراءة في ديوان ‘على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت‘: الجرأة والجمال - بقلم : د. أحمد رفيق عوض
-
زجل للزَّيتون - بقلم : أسماء طنوس من المكر
-
قراءة في الديوان الرابع عشر للشاعر سامر خير بعنوان ‘لا بُدّ للصّخر أن ينهَزِم‘
-
قصيدة ‘كُنتَ الفتى الأبيَّ المُهَاب‘ - بقلم : الدكتور حاتم جوعية من المغار
-
‘وذرفت العاصفة دمعة‘ - بقلم: رانية فؤاد مرجية
-
‘ الاستيقاظ مبكراً صحة ‘ - بقلم : د. غزال ابوريا
-
قصة كفاح - بقلم : رانية فؤاد مرجية
أرسل خبرا