logo

قصة ضوء بحجم النهار بقلم الكاتبة اسماء الياس من البعنة

27-12-2025 06:56:19 اخر تحديث: 27-12-2025 12:13:09

أصبحت الوجوه شاحبة. والعيون شاخصة، تبحث عن الأمل في عيون طفل ما زال يحبو، استدركت الأمر عندما لاح من بعيد ضوء خافت سرعان ما اتسع وأصبح وسع ضوء النهار، كان هذا الضوء مصدره نجمة هاربة

اسماء الياس - صورة شخصية 

 من مجموعتها الشمسية، اقتربت من الأرض التي كان الظلام يغشاها، أرادت أن تعطينا الأمل بأن الأفضل لا بد آتٍ، ولأننا نعيش في جو كئيب، كان لا بد من شيء يزيل هذا الضباب الذي ملأ الكون بالسواد، سألت أبي لماذا الإنسانية لا تحارب من أجل السلام؟ ولماذا كل هذا الهيلمان من أشخاص عديمي الرحمة، كأنهم معجونين بالسواد الأعظم؟ قال لي الوالد يا ابنتي لو كانت البشرية اختارت خط السلام لكانت حياتنا خالية من الفيروسات القاتلة، ويسألون كيف لطفل قتله فيروس لا يرى بالعين المجردة، وهؤلاء مشعلي الحروب هم السبب بوجود مثل تلك الفيروسات بحياتنا.

 كلامك صحيح يا والدي.

نظرتُ إلى الضوء الساطع الذي كان يغمرنا، ضوء لم يكن دافئًا كالشمس، بل كان باردًا ونقيًا، كأنه يغسل الهواء من الغبار المتراكم عليه. كان كلام والدي لا يزال يتردد في أذني: "مشعلو الحروب هم السبب بوجود مثل تلك الفيروسات." تنهد والدي وقال بصوت خافت وهو يرفع رأسه باتجاه النجمة الهاربة: أتعلمين يا ابنتي؟ إنها أشبه بدمعة كونية، دمعة سقطت من السماء لتذكرنا بأن هذا الظلام الذي نصنعه بأيدينا ليس هو الحقيقة الوحيدة. أدركتُ حينها أن هذه النجمة لم تأتِ لإنقاذنا، بل جاءت لتكون مرآة لما فقدناه. تسارعت دقات قلبي، وشعرتُ برغبة جامحة، رغبة تفوق مجرد الجلوس وانتظار معجزة.

انطلقت الرغبة الجامحة مني كصرخة صامتة. نظرتُ إلى الطفل الذي كان يحبو بين ركام الظلام، والذي كان وجهه الشاحب هو آخر ما التمست فيه الإنسانية قبل ظهور النجمة. أدركتُ أن الضوء يجب أن يبدأ من مكان ما، وليس هناك مكان أنقى من روح لم تلوثها بعدُ سياسات الكراهية.

يا والدي، قلتُ بحزم لم أعهده في صوتي، هل ترى الطفل؟ إنه النقطة البيضاء الوحيدة التي لم يغب عنها الوعي. لننتظر أن تضيء النجمة شيئًا في هذا العالم المليء بالغيوم، بل سنأخذ نحن الضوء إليه. لن يغير البشر خط السلام إلا إذا رأوا عيون طفل تبتسم في وجههم وهم يلوحون بسلاح.

أومأ والدي وكأنه انتظر مني هذا القرار تحديدًا، وشيئًا فشيئًا، تراجع الضوء العملاق للنجمة ليصبح بحجم كوكب صغير معلق في الأفق، لكنه ترك وراءه وهجًا غريبًا على الأرض. كان ذلك الوهج يتركز على الشيء الوحيد الذي ما زال يحمل روحًا حية بين أيدي البشر... كتاب قديم كان والدي يحمله دائمًا في جيبه.

سألتُه: ماذا سنفعل بهذا الكتاب يا أبي؟

ابتسم والدي، ابتسامة هادئة لأول مرة منذ زمن، وقال: إنه دليلنا يا ابنتي... دليل إرشادي لكيفية صناعة السلام قبل أن يختفي ضوء النجمة تمامًا.

مدّ والدي يده بالكتاب. لم يكن كتابًا عاديًا، بل كان مجلدًا عتيقًا يلفه جلد سميك ومهترئ، تفوح منه رائحة الزعتر والتراب القديم. عند فتحه، لم نجد فيه نصوصًا متواصلة، بل كانت صفحاته أشبه بمخططات ورموز ونبوءات قصيرة مكتوبة بخطوط يد قديمة جدًا. كانت الصفحة الأولى التي فتح عليها والدي تتلألأ بلون أزرق خافت من نور النجمة، وكأنها تنتظر هذه اللحظة.

كانت الكلمات واضحة رغم قدمها، لكنها محيرة:

لكي ينمحي الضباب الأسود ابحثوا عن الصدى الأول، في مكان ولدت فيه الابتسامة الصادقة. وهناك، أضيئوا فانوس الجدة.

تجمدتُ مكاني. سألت والدي بهمس: ما هو الصدى الأول؟ وماذا يعني فانوس الجدة؟ هل هذا لغز؟

أغلق والدي الكتاب بهدوء، وعيناه تلمعان بجدية غير مسبوقة. هذا ليس لغزًا، يا ابنتي، بل هي تعليمات. الصدى الأول ليس صوتًا، بل هو ذكرى السلام المنسية، اللحظة التي اختار فيها أجدادنا أن يزرعوا أول شجرة بدلاً من حفر أول خندق حرب. أما مكان ولادة الابتسامة الصادقة، فقد عرفته على الفور.

أين؟

رفع والدي إصبعه نحو الشمال، حيث كان الضباب الأسود أكثر كثافة. إلى القرية القديمة المهجورة، حيث تربيت أنا وأجدادكِ. هناك، في بيت عمتكِ الكبيرة، يوجد فانوس مهجور لم يشتعل منذ عقود. لن يضيئه إلا شعلة أمل حقيقية.

نظرتُ إلى ضوء النجم الهارب، ثم إلى وجه والدي، ثم إلى يدي التي تمسكت بالكتاب بقوة. عرفت أن رحلتنا قد بدأت للتو.

كانت الفكرة تبدو جنونية في هذا الجو الكئيب. أن نترك المنزل وننطلق إلى قرية مهجورة بحثاً عن فانوس قديم، كل ذلك بناءً على إشارة من نجمة هاربة وكلمات غامضة في كتاب عتيق. لكنني شعرتُ بقوة غريبة تسري في عروقي، وكأن النجمة أودعت في داخلي طاقة للمضي قدمًا.

جهز والدي حقيبة صغيرة بسرعة، وضع فيها الماء وبعض الأطعمة الجافة، ولم ينسَ أن يحمل مصباحاً يدوياً احتياطياً، رغم وجود ذلك الضوء الساطع في الأفق. الضوء الكوني لن يدوم طويلاً يا ابنتي، وعلينا الاعتماد على أنفسنا.

انطلقنا نحو الشمال، عبر طرق موحلة كان الضباب يحجب نهايتها. كانت الوجوه الشاحبة التي ذكرتها في البداية ما زالت قائمة، لكنهم لم يعودوا ينظرون إلينا. كانوا جامدين، متجمدين في يأسهم، كتماثيل من الملح.

شعرتُ بالخوف للمرة الأولى في رحلتنا القصيرة. همستُ لوالدي: أبي، ماذا لو كانوا على حق؟ ماذا لو كان اليأس هو النهاية الحتمية؟

لم ينظر والدي إلي، بل نظر إلى الأمام مباشرة، حيث كان الضوء الأزرق الخافت يتركز على الكتاب الذي يحمله.

اليأس يا ابنتي، هو اختيار يتخذه المرء، وليس قدرًا مفروضًا. وتذكري ما قلته لكِ: نحن ذاهبون للبحث عن الصدى الأول، عن اللحظة التي كانت فيها الابتسامة الصادقة هي أقوى سلاح. إن القرية المهجورة هي المكان الذي بدأ فيه كل شيء.

بعد سير طويل تحت سماء مثقلة بالسواد، بدأنا نرى بيوتًا متداعية من بعيد. كانت القرية لا تزال محتفظة بجمالها القديم تحت الضباب، لكنها كانت صامتة تماماً. وصلنا إلى بيت عمتي الكبيرة. كان البيت صغيراً ومبنيًا من الحجر، وتحيط به أشجار تين ذابلة.

فتح والدي الباب الخشبي بصعوبة. الهواء داخل البيت كان أثقل من الخارج، مملوءاً بذكرى الأيام الخالية.

الفانوس يا أبي أين نجده؟

أشار والدي إلى ركن في المطبخ، حيث كانت خزانة خشبية قديمة. وفوقها، كان هناك فانوس نحاسي مغطى بطبقة سميكة من الغبار. كان الفانوس نفسه يبدو كئيباً، لكن عندما لمسته يدي، شعرتُ وكأنني لمست شيئاً حيًا.

والآن يا ابنتي، كيف نشعل شعلة الأمل الحقيقية؟

مددتُ يدي إلى الفانوس النحاسي البارد، وتذكرتُ كلام والدي: لن يضيئه إلا شعلة أمل حقيقية.

أدركتُ أن الأمل الحقيقي ليس شيئًا ننتظره من نجمة، بل هو شيء نملكه ونحمله في قلوبنا. تذكرتُ شيئًا كنتُ قد وضعته في جيب حقيبتي قبل أن نغادر المنزل. لم يكن شيئًا ذا قيمة مادية، بل كان رسمًا رسمته في اليوم الذي بدأ فيه الضباب الأسود يغشى سماء مدينتنا.

أخرجتُ الورقة المطوية بعناية. كانت رسمة بسيطة لـوردة بيضاء تنمو بين الصخور، وحولها مجموعة من الأطفال يضحكون، من بينهم الطفل الذي رأيناه يحبو. لم تكن الوردة موجودة في الواقع، بل رسمتها كتعبير عن المستقبل الذي أتمناه.

هذا هو الأمل الحقيقي يا أبي، قلتُ وأنا أضع الرسمة داخل الفانوس الزجاجي الفارغ، بدلًا من فتيل الزيت.

ابتسم والدي، وعيناه تراقبان بعناية. لكن الرسمة وحدها لا تشتعل، يا ابنتي.

بالتأكيد، أجبتُ بسرعة، لكنها تحتاج إلى ما يشعلها تذكر يا أبي، أنت قلت إن الصدى الأول هو اللحظة التي اختار فيها أجدادنا أن يزرعوا أول شجرة بدلاً من حفر أول خندق حرب.

تقدمتُ نحو الجدار الحجري في المطبخ، حيث لاحظتُ وجود شق صغير في الحائط. وضعتُ إصبعي فيه، واستخرجتُ منه بذرة صغيرة جافة، كانت مختبئة في الطين، ربما منذ زمن الجدة. كانت هذه البذرة هي بقايا الصدى الأول، بذرة الأمل المادي.

وضعتُ البذرة بجوار الرسمة داخل الفانوس. وفجأة، حدث ما لم نتوقعه: انفجر الفانوس بضوء داخلي خافت، ليس لهيبًا، بل وهجًا هادئًا بلون الوردة البيضاء التي رسمتها.

ومع اشتعاله، لم يضئ الفانوس المكان فحسب، بل بدأت الجدران الحجرية للقرية المهجورة تهتز، وسمعنا همسات من بعيد، ليست همسات خوف، بل همسات ذكرى قديمة.

مع اشتعال الفانوس بوهج الوردة البيضاء وبذرة الأمل، تضخمت الهمسات حولنا لتصبح كأصداء الرياح القديمة التي تدور داخل القرية المهجورة. كانت الهمسات تتحدث بلغة الأجداد، لغة لم نفهمها بوضوح، لكننا شعرنا بمعنى كلماتها.

أمسكتُ بيد والدي، بينما كان الفانوس يرتفع قليلاً عن الخزانة كأنه يطفو، ووجه ضوئه مباشرة نحو الكتاب القديم الذي كان والدي لا يزال يمسك به.

توقفت الهمسات للحظة، ثم سمعنا صوتًا واحدًا واضحًا، كأنه قادم من عمق الأرض: الصدى الأول قد استيقظ. الآن، اتبعوا الجذور، حيث يرقد التاريخ.

تلقائيًا، فتح والدي الكتاب على الصفحة التالية التي أضاءت فورًا بنفس وهج الفانوس. وتحت الرموز الغامضة، كانت هناك ثلاث كلمات مكتوبة بخط يد مرتبك:

شجرة النسيان قريبة من الماء احفروا، تجدوا الخلاص.

رفع والدي رأسه، والدهشة مرسومة على وجهه. شجرة النسيان؟ في هذه القرية؟

لا يا أبي، انظر إلى الرموز المحيطة بالنص قلتُ وأنا أشير بإصبعي إلى رسم مبسط لأشياء لم أرها من قبل: مبنى عالٍ، وعجلات ضخمة، وكأنها آلة قديمة تعمل بالبخار. هذا ليس في القرية، هذا وصف للمدينة الصناعية القديمة القريبة من النهر... المدينة التي تسببت في نشر أول ضباب أسود.

أدركنا أن مهمتنا الثانية كانت أكثر خطورة وأكبر حجمًا. كان علينا أن نترك القرية الآمنة، ونتجه إلى قلب الظلام المتمثل في المدينة التي تعتبر مصدر التلوث واليأس.

أخذ والدي الفانوس، الذي ظل مشتعلاً بهدوء، وأخفيناه داخل حقيبتنا ليظل دليلنا السري. كان علينا أن نجد شجرة النسيان ونحفر تحتها قبل أن يتمكن مشعلو الحروب من إيقاف ضوء بحجم نهار الذي ما زال مرئيًا في الأفق.

كانت المدينة الصناعية، أو كما نسميها مدينة النسيان، تبعد مسيرة يوم كامل عن القرية المهجورة. كانت مغطاة بطبقة ثابتة من الضباب الكثيف، ضباب له رائحة الكبريت واليأس. هذا هو المكان الذي ولد فيه الهيلمان وبدأ منه انتشار الفيروسات القاتلة، حسبما ذكر والدي.

كان التسلل إليها هو التحدي الأكبر. المدينة لم تكن مهجورة بالكامل؛ كانت تُحرس من قبل أشخاص قساة الملامح يرتدون زيًا داكنًا. كانوا يسمون أنفسهم "حماة النظام"، لكنهم في الحقيقة كانوا أتباع "السواد الأعظم"، مهمتهم هي ضمان بقاء الضباب واليأس.

سلكنا طريقاً جانبياً وعراً بين التلال الصخرية بدلاً من الطريق الرئيسي الموحل. كان علينا أن نسير في الظلام، معتمدين فقط على وهج النجمة البعيد والفانوس الذي كان مصدر ضوئه مخبأ داخل حقيبتنا، يضيء خريطة الكتاب القديم فقط.

يجب أن نكون كالأشباح يا ابنتي، لا يُسمع لنا صوت ولا يُرى لنا ظل، همس والدي وهو يشد على يدي.

عندما وصلنا إلى مشارف المدينة، كان المنظر مثل الكابوس. مداخن المصانع كانت تطلق أدخنة سوداء سميكة، والحراس كانوا يتناوبون على مراقبة بوابات ضخمة من الفولاذ.

اكتشف والدي مجرى نهر جاف كان يمر أسفل سور المدينة. هذا هو طريقنا يا ابنتي. لا يمكنهم أن يتوقعوا أن يمر أحد عبر طريق لا يسير فيه الماء منذ سنوات.

انزلقتُ أنا ووالدي داخل النهر الجاف. كنا نتحرك ببطء شديد، نختبئ خلف الصخور وأكوام النفايات المعدنية. كان الهواء قاسياً، يكاد يخنقنا، لكننا تمسكنا ببعضنا البعض، وبفكرة أن فانوس الجدة المضيء يمنحنا حصانة داخلية ضد هذا السواد.

نجحنا في الوصول إلى أسفل السور. كان هناك شق ضيق في الأساس الصخري حيث كان النهر يمر سابقاً. لم يكن يتسع إلا لشخص واحد.

تفضلي أنتِ أولاً، قال والدي، أنتِ صغيرة الجسم، يمكنكِ المرور بسهولة. أنا خلفكِ مباشرة.

زحفتُ ببطء عبر الفتحة الضيقة، وشعرتُ وكأنني أغادر العالم الذي أعرفه إلى عالم آخر، عالم الشر الذي ولد فيه الهيلمان عندما خرجتُ إلى الجانب الآخر، تشتت الضباب قليلاً أمامي، وظهرت خلفه مباشرة... شجرة ضخمة ذات أغصان ملتفة، تبدو كأنها تبكي. كانت بالتأكيد شجرة النسيان.

خرجتُ من الشق الضيق، واندفع والدي خلفي. الضباب كان هنا أثقل، يلتف حولنا كالأفاعي. لكن كل تركيزي كان على الشجرة.

كانت "شجرة النسيان" ضخمة بشكل مرعب، جذعها داكن سميك، وأغصانها ملتفة الى أسفل وكأنها منحنية تحت وطأة الحزن والتاريخ. 

والأدهى من ذلك، هو ما كان معلقاً عليها.

لم تكن الشجرة تحمل أوراقًا، بل كانت أغصانها محملة بـأجراس زجاجية صغيرة شفافة، وكل جرس كان فارغًا، لكنه كان يصدر صوتًا خافتًا متقطعًا كلما حركته نسمة هواء باردة. كانت هذه الأصوات أشبه بـأنين، أو ضحكات مكبوتة.

يا إلهي، ما هذا؟ همست لوالدي.

رفع والدي الفانوس المخبأ قليلاً ليضيء الجذع، وبدأ يقرأ النص في الكتاب القديم الذي كان يتألق في ضوء الفانوس.

شجرة النسيان، قريبة من الماء، احفروا، تجدوا الخلاص... قال والدي، ثم أضاف: إن هذه الأجراس يا ابنتي ليست أجراسًا عادية. إنها تمثل الأصوات التي نسيها الناس، أصوات السلام والفرح التي طواها الضباب. 

هذه الشجرة هي مقبرة الذاكرة السعيدة.

فجأة، بدأت الأجراس تهتز بقوة، وازداد أنينها. نظرتُ إلى أعلى، ورأيتُ أن هناك شيئاً مختلفاً معلقاً على أغصانها العليا، شيء واحد فقط لا يشبه الأجراس الزجاجية.

كانت لعبة طفل قديمة، ربما دمية قماشية مهترئة، مربوطة بحبل رفيع حول غصن سميك. بدت هذه اللعبة غريبة ومؤثرة في هذا المكان القاسي.

لعبة طفل صرختُ في همس، ربما هي تخص الطفل الذي قتلته الفيروسات، أو تخص الطفل الذي ما زال يحبو.


فتح والدي الكتاب على الصفحة التي كانت تضيء، وأشار إلى النص: ...احفروا، تجدوا الخلاص.

الخلاص ليس في الأجراس الزجاجية التي تحمل اليأس، بل يجب أن يكون وراء شيء له علاقة بالذاكرة التي يجب أن نتذكرها، قال والدي وهو يشير إلى لعبة الطفل المعلقة. سأصعد وأجلبها، وعندما تكون في يدنا، سنحفر تحت جذع الشجرة مباشرة.

وبينما كان والدي يتأهب لتسلق الشجرة، سمعنا صوت صفير مدوٍ قادم من داخل المصانع. لقد اكتشف الحراس وجود متسللين.

أسرعي يا ابنتي خذي الكتاب والفانوس، وابحثي عن آلة حادة للحفر. أنا سأجلب اللعبة بسرعة.

صفارة الإنذار كانت تمزق صمت المدينة، مما يعني أن الحراس سيتدفقون باتجاهنا في غضون دقائق. 

كان والدي يتسلق الشجرة ببراعة، يتشبث بأغصانها الحزينة، متجهًا نحو لعبة الطفل المعلقة.

أمسكتُ بالكتاب القديم والفانوس، وبدأتُ أبحث بسرعة بين الجذور المتشابكة لـشجرة النسيان. الأرض كانت صلبة ومغطاة بطبقة سميكة من الأتربة الملوثة.

وبينما كنتُ أحاول إزاحة جذر سميك، لمحتُ شيئًا لامعًا. سحبتُه بقوة، فخرجت قطعة معدنية ثقيلة. كانت مجرفة صغيرة قديمة وصدئة لا شك أنها كانت أداة لزراعة إحدى الأشجار منذ زمن بعيد، تخلى عنها أصحابها عندما استبدلوا البناء بالزراعة.

وجدتُها يا أبي صرختُ في همس، وبدأتُ أحفر بحماس شديد عند قاعدة الجذع.

في هذه الأثناء، كان والدي قد وصل إلى اللعبة القماشية. سحبها بحذر، وألقى بها نحوي. أمسكتُ بها. كانت الدمية، رغم اهترائها، تحمل بقايا رائحة الياسمين القديمة.

وبمجرد أن لمستُ الدمية، شعرتُ بالدفء يسري في يدي، وازداد وهج الفانوس خفوتًا للحظة، وكأنه يتبادل طاقة مع اللعبة.

عدتُ للحفر بقوة أكبر. 

بدأت أتربة سوداء تتطاير حولي، وكنتُ أحفر وأحفر، بينما كان صوت خطوات الحراس يقترب من الجهة الأخرى للمصنع.

سريعًا، يا ابنتي إنهم يقتربون !! قال والدي وهو يقفز بمهارة إلى الأرض.

فجأة، ارتطمت المجرفة بشيء صلب. حفرتُ آخر طبقة من التراب، وظهر صندوق خشبي صغير محفور عليه رمز نجمة سداسية محاطة بوردة. كان نفس الرمز الموجود في صفحات الكتاب.

سحبنا الصندوق بسرعة قبل أن يصل الحراس. في اللحظة التي أمسك فيها والدي الصندوق، بدأ الضباب الأسود المحيط بنا بالانسحاب فجأة، وكأن المدينة تتنفس الصعداء للحظة.

لكن الضوء الساطع كان له ثمن. رأينا ثلاثة حراس يقفون على بعد أمتار قليلة، وجوههم القاسية مصوبة نحونا.

قفوا مكانكم ماذا تفعلون في محرمات النظام؟ صرخ أحدهم بصوت أجش.

كانت المسافة بيننا وبين الحراس ضئيلة جدًا، ولم يكن هناك متسع للفرار. الحراس كانوا ثلاثة، وكل واحد منهم يحمل عصا معدنية ثقيلة.

ماذا سنفعل يا أبي؟ همستُ في رعب بينما كان الحراس يتقدمون بخطوات واثقة ومميتة.

هذه هي اللحظة، يا ابنتي، قال والدي، ووضع الصندوق الخشبي الثقيل والدمية بجوار جذع الشجرة، ثم سحب الفانوس المضيء من الحقيبة، ورفعه عالياً فوق رأسه.

في تلك اللحظة، تحرر ضوء الفانوس الذي كان مقيدًا بالحقيبة. لم يكن الضوء قويًا بما يكفي لإضاءة المدينة، لكنه كان مركزًا جدًا، بلون الوردة البيضاء التي رسمتها.

انفجر الضوء الخافت فجأة وتحول إلى شعاع مباشر، كأنه شعاع ليزر أبيض نقي، يتجه مباشرة نحو وجوه الحراس الثلاثة.

لم يصدر الضوء حرارة، لكنه كان يحمل معه قوة غير مرئية. توقف الحراس في منتصف خطواتهم، كأنهم اصطدموا بجدار زجاجي.

كانت وجوههم قاسية وشاحبة، كما وصفتُ وجوه الناس في بداية القصة. لكن عندما ضربهم ضوء الفانوس، حدث شيء مذهل: بدأت القسوة تذوب عن ملامحهم تدريجياً.

لم يصبحوا مسالمين فجأة، بل أصبحوا مرتبكين. سقطت عصا من يد أحدهم.

ما هذا؟ قال الحارس الذي سقطت عصاه، بصوت ليس أجش، بل ممتلئًا بالحيرة.

نظر إلينا الحارس الثاني، ولم تكن نظرته نظرة كراهية، بل نظرة استفهام. كأنه يرى وجهه لأول مرة منذ زمن طويل.

قال والدي بصوت قوي وواثق، وهو يثبت الفانوس في يديه هذا هو الصدى الأول، ذكرى السلام المنسية أنتم لستم حماة النظام، بل أنتم أبناء القرية القديمة الضباب الأسود جعلكم تنسون كيف تبدو وجوهكم عندما تضحكون.

اهتز الحراس بعنف. أحدهم وضع يديه على أذنيه، كأنه يسمع صوتاً غير محتمل.

لا... لا يمكنني أن أتذكر... همس الحارس الثالث، ودمعة سقطت من عينه التي كانت شاخصة باليأس. كانت هذه أول قطرة ماء نقية تسقط في هذه المدينة الملوثة منذ زمن.

استغل والدي لحظة ارتباكهم، وأشار إليّ: افتحي الصندوق يا ابنتي قبل أن يغشاهم السواد من جديد.

مددتُ يدي المرتعشة إلى الصندوق الخشبي الصغير. كان محكم الإغلاق. تحت الضغط الهائل، استخدمتُ حافة المجرفة القديمة كرافعة، فصدر صوت "طقطقة" خافت، وانفتح الصندوق.

لم يكن بالداخل بذرة أو ذهب، بل قطعة قماش قديمة مطوية بعناية، ملفوفة حول قلم رصاص صغير لم يبرَ قط.

فتحتُ قطعة القماش. كانت رسالة بخط يد أنيق وعصري، وليست بخط الأجداد الغامض. قرأتها بصوت عالٍ، بينما كان الضوء الأبيض للفانوس يغلفنا، والحراس الثلاثة ما زالوا جامدين في حيرتهم.

يا من ستحمل النور من بعدي.

أنا لستُ جدتكِ، بل أنا الطفل الذي رأيته يوماً، والذي قتله الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردة. لم أمُت يائساً، بل تركتُ ورائي وصية: كلما ضحكتُ، كنتُ أرسمُ.

هذه اللعبة (الدمية) كانت لي. وداخل هذا القلم، توجد بذرة صغيرة، لكنها ليست بذرة شجرة. إنها بذرة الألوان.

لإزالة الضباب الأسود، يجب أن تطلقي سراح الألوان من هذا القلم، وترسمي بها الابتسامة الصادقة التي يبحث عنها العالم. الأمل ليس شيئاً نضيئه، بل شيء نرسمه لكي يراه الجميع.

والآن، ارسمني وأنا أضحك. 

تجمدتُ في مكاني، أدركتُ أن الطفل الذي قتله الفيروس كان هو نفسه الصدى الأول، وأن روحه قد انتظرتنا تحت الشجرة.

نظرتُ إلى القلم. كان قلمه، الذي لم يبرَ بعد. سحبتُ من قطعة القماش ورقة بيضاء صغيرة كانت مطوية مع الرسالة. أخذتُ القلم وبدأتُ أرسم، أرسم وجه الطفل الذي قتله الفيروس، أرسمه كما تخيلته يضحك، بابتسامة صادقة بعيدة عن الخداع والسواد الأعظم. 

وفي اللحظة التي انتهيتُ فيها من رسم الابتسامة، شعرتُ بالدمية القماشية تهتز بين يدي. ثم، انفجر القلم برذاذ من الألوان الزاهية، ليس حبراً، بل ألواناً حقيقية طائرة، غطت اللوحة الصغيرة ووجهي، ثم انطلقت الألوان كأشعة قوس قزح، لتضرب الضباب الأسود الذي يغلف المدينة.

بدأ الضباب يتراجع بسرعة جنونية، وكأنه نسي كيف يبقى ثابتاً أمام الألوان. وتحت أشعة الألوان، رأينا الحراس يرمون أسلحتهم، وتتساقط دموعهم بغزارة. لم يعودوا حراساً، بل أصبحوا بشراً عاديين يذرفون دموع النسيان المتبددة.

نظرتُ إلى السماء، فوجدتُ أن النجمة الهاربة، ضوء بحجم نهار، قد توقفت عن الهرب. لقد ثبتت في مكانها، كنقطة أمل دائمة.

انطلقت الألوان من قلب المدينة الصناعية كرسالة كونية، ممزقة كل خيوط الضباب الأسود التي غلفت الكون. وبمجرد زوال الضباب، عادت الشمس تشرق بقوتها الحقيقية، وتمكنّا أخيراً من رؤية "ضوء بحجم نهار" الذي كنا نراه كنجمة هاربة؛ لقد كان انعكاساً هائلاً لشمس ساطعة، لم نتمكن من رؤيتها بسبب اليأس.

تحول الحراس إلى أناس يبحثون عن طريق العودة إلى منازلهم، تائهين في ذكرى السواد الأعظم الذي غشاهم. قام والدي بإغلاق الصندوق القديم ووضع فيه رسمة الابتسامة الصادقة والقلم، ثم وضعنا الدمية الصغيرة على جذع شجرة النسيان كنصب تذكاري للطفل الذي ضحى بألوانه من أجل خلاصنا.

لم يكن لدينا ما نفعله في مدينة النسيان بعد أن أشرقت فيها الحقيقة. أدركنا أن مهمتنا قد اكتملت.

سلكنا طريق العودة إلى القرية القديمة. وفي كل خطوة كنا نخطيها، كنا نرى أن الوجوه الشاحبة التي مررنا بها في البداية لم تعد كذلك؛ لقد رفعت رؤوسها نحو السماء الصافية، وبدأت الابتسامات الخجولة ترتسم على الشفاه. لقد اختار البشر خط السلام أخيرًا، ليس بالإقناع، بل بـرؤية الألوان التي أطلقناها.

عدنا إلى القرية القديمة، ووجدنا أن الفانوس المضيء كان لا يزال مشتعلاً في بيت عمتي، لكنه الآن يضيء بضوء دافئ وهادئ، كأنه عاد ليعمل كفانوس حقيقي. وفي الخارج، كان الطفل الذي ما زال يحبو، يلعب في حديقة البيت، لا يحيط به ضباب ولا يأس، ووجهه يشع بـالبراءة المطلقة.

أخذتُ الكتاب القديم، وأعدتُه إلى والدي. نظر إليّ وقال بنبرة ملؤها الاطمئنان: لقد انتصرتِ يا ابنتي، لقد أزلتِ الخداع، وأظهرتِ للعالم أن الأمل ليس انتظارًا، بل هو قرار داخلي نرسمه ونزرعه.

وفي تلك اللحظة، شعرتُ أن النجمة الهاربة قد أكملت مهمتها؛ فهي لم تكن سوى مرآة لنورنا الداخلي الذي كنا نخشى إظهاره. وهكذا، عادت الإنسانية إلى مسارها الصحيح، بعد أن أضاءت فتاة صغيرة عالماً كاملاً بـضوء بحجم نهار مصدره قلم رصاص ووردة بيضاء في رسمة