رانية مرجية - صورة شخصية
على جدارٍ يكتبُ عليه العدمُ وصاياه.
صحتُ… فلم يُجبني أحد،
إلا الريحُ،
وهي تُصفّر في خواء القلب،
كأنها تضحكُ من نَجواي.
يا حياةُ،
كم خذلتِ الذين وثقوا بوعودِك،
وكم ربّيتِ فيهم شهوةَ البقاء،
ثمّ ذبحتِها… على مائدةِ الغياب.
أنا لم أعد أسألُكِ المعنى،
فالمعنى صارَ مقبرةً.
ولا أطلبُ منكِ عدلًا،
فالعدلُ يُولَدُ أعمى،
ويموتُ في طوابيرِ الانتظار.
كم من وطنٍ سكنَ في صدري ثمّ اغتربْ،
كم من حبيبٍ وعدني بالضوءِ،
ثمّ سلّمني للظلّ،
وكتبَ على جبيني: “اصبري”.
لكنّي لا أصبرُ…
أنا لستُ أيّوبًا.
أنا الجرحُ الذي علّمَ الأرضَ كيف تنزفُ بكرامة،
وكيف تضحكُ من وجعها… دون أن تنهار.
أحملُ في دمي أنينَ الأمهات،
وفي صوتي تراتيلَ الذين سقطوا واقفين،
وفي عينيّ مرايا لأحلامٍ لم تولد.
كلُّ ما فيّ ينزفُ،
حتى النورُ الذي ظننتهُ خلاصًا،
صارَ شوكةً في خاصرتي،
يُذكّرني أن النجاةَ ليستْ هبةً… بل حرب.
ومع ذلك،
سأكتبُ،
وسأزرعُ على رمادي بستانًا،
يُنبتُ من بين شقوقِه نايًا،
يعزفُ للغائبين،
أنّ في الوجعِ جمالًا،
وفي النهايةِ بدايةً،
وفي موتِ الأحلامِ قيامة.
فلتنحني الحياةُ قليلًا،
وتصغي إليّ،
أنا التي خرجتْ من الحطامِ،
تحملُ في يدٍ رمادَها،
وفي الأخرى… المعنى.
الفصل الثاني – نشيد البقاء
يا أيّتها الأرضُ،
كم صبرتِ علينا…
وكم خنّاكِ أولادُكِ حين ظنّوا أن الصمتَ نجاةٌ،
وأنّ الانكسارَ حكمة.
أنا لم أعد أؤمنُ بالنجوم،
فهي بعيدةٌ كالأماني،
ولا بالقُدُر التي يكتبها الغيبُ بأحبارٍ لا تُقرأ.
أنا أؤمنُ بالبقاءِ رغمَ الخراب،
بأنّ جذورَ الروحِ لا تموت،
ولو مرّت عليها ألفُ ريحٍ من وجع.
يا قلبي،
يا حجارةً طريةً في نهرِ الحياة،
كُنْ لي وطنًا،
حين تخونُ الأوطان.
لا تصالحِ الغياب،
ولا تُصافحِ السكاكين.
ازرعْ في لحمِكَ وردة،
وفي دموعِكَ شمعة،
وفي جرحِكَ معنى.
أنا التي هُزِمت ألفَ مرة،
لكنّ الهزيمةَ كانت لي مِحرابًا،
أصلي فيه كي لا أنسى… أني إنسانة.
يا وجعي،
يا معلمي الأول،
كم جعلتني أرى الأشياءَ أوضح،
وأحبُّ الناسَ أقل،
وأحترمُ الصمتَ أكثر.
لقد تعلمتُ أن لا أطلبَ شيئًا من الحياة،
بل أُدهشها بصمودي.
أن أكونَ القصيدةَ التي لا تُقال،
بل تُحسّ،
تُلمسُ في هواءِ الصباح،
وفي ارتجافةِ يدٍ تُودّعُ يدًا أخرى دون وداع.
أنا الآن أتنفّسُ الرمادَ… وأغنّي،
فمن قال إن الغناءَ لا يُولد من الألم؟
الفصل الثالث – القيامة (حين ينهض الضوء مني)
أنا لستُ ما كنتُ،
ولا ما ظنّوا أني سأكون.
كنتُ رمادًا يائسًا في كفّ الحياة،
ثمّ تعلّمتُ كيف أُشعلُ نفسي… لأُضيء.
لم أعد أخافُ من الموت،
فقد متُّ بما يكفي وأنا أتنفّس.
ولم أعد أرجو الغد،
فالغد طفلٌ خائفٌ من ظلالِنا،
يبحثُ عن أمٍّ تعلّمه الحنان.
الوجعُ لم يعد عدوّي،
بل صار معلمي،
يأخذني إلى أقصى العتمة
ليُريني وجهَ النور في داخلي.
أيّها الحزن،
يا صديقي القديم،
لقد شربنا المرّ معًا،
لكنّي اليومُ أشربُ النورَ من جُرحك،
وأضحكُ من كوني ما زلتُ أُحبُّ الحياة… رغمها.
أنا التي داستْها الخطوبُ،
ثم نهضتْ من الركامِ امرأةً من زجاجٍ ونار،
شفافةً كالحقيقة،
صلبةً كالإيمان،
جميلةً كالحزن حين يتطهّر بالدمع.
لم أعد أكتبُ لأحزن،
بل أكتبُ لأحرّر الحزنَ من نفسه،
لأقول للعالم:
“انظروا إلى الوجع، كيف يصير وطنًا.”
أنا القيامة،
أنا النشيدُ الأخير،
أنا صرخةُ الأمّ التي فقدتْ أبناءها
ثمّ تبسّمت وقالت: “ما زال في القلب متّسعٌ لله.”
سأظلّ أكتبُ حتى تتعبَ اللغةُ مني،
وحتى يفهمَ الكونُ أنني لستُ مجرّد أنثى تبكي،
بل نهرٌ من نورٍ يسري في عروقِ الليل،
يوقظُ الصمتَ،
ويعيدُ للعالمِ صوته الأول.
الخاتمة
لا تموتُ الكلمات،
تموتُ النوايا التي كُتبت بها.
والآن، أنا النية التي بقيت،
والشهادة التي كتبتُها بدمِ قلبي،
كي يعرفَ الناسُ…
أن في كلّ امرأةٍ
حكايةَ قيامةٍ مؤجّلة.
