الكاتبة عناق مواسي - صورة شخصية
هكذا قالت لي ... دالية
حين نزلت بفستانها المخملي الأسود وكانت متهجمة الوجه شاحبة.. ولم أفهمها كثيرًا …
" كنت أكتب بجريدة الاتحاد فانشغلت فابتعدت
أكتبي
أكتبي عني
إمراة عادت تكتب… "
اخترت أن أبدا مشواري الأكاديمي في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية (الاسم سابقًا)، كان ذلك بعد انهائي مباشرةً دراسة الثانوية واستحقاق معدل عالي جدا في شهادة الثانوية العامة، أهلني للدراسة في الجامعة بالموضوع الذي رغبت دراسته " الانثروبولوجيا" .
لكن رغبة أمي أن أكون معلمة ورغبة أبي بالإنجليزية دفعتني أن اختار دراسة في كلية إعداد المعلمين
قبلت حينها في المعهد التأهيلي بيت بيرل، وكذلك جوردون في حيفا وكلية الشريعة باقة الغربية
اخترت المكان الأقرب الي مكان سكني، قريبة من العائلة موفرة عناء السفر وتكاليفه لصالج الدراسة
واكتفيت بأول خطواتي التأسيسية من والدي على أن أؤسس نفسي وانطلق في الحياة.
في الرابع والعشرين من شهر تشرين الاول عام 2000.
دخلت الكلية الاسلامية التي كانت مزدانة من الفتيات العربيات آنذاك.
وجدت نفسي أجلس في السرب الثاني لجانب زميلات من عدة قرى عربية من المثلث والجليل والساحل والنقب.
ودخلت المعلمة الجميلة بفستان بلون الليلك مخملي وأنيق وفي سبابتها اليسرى خاتم فضة مرصع بالأحجار الليلكية متناسقًا مع لون الفستان، الشال الحقيبة والحذاء.
هذا الدخول الأنيق، الواثق بالجسد والواثق بالروح كفيل ان يجتاز كل شيء بصمت وهيبة، كفيل أن يجسد أمامي نموذجًا جميلًا لحياة مزهرة بالتعليم بالثقافة بالطموح بالجمال والنجاح.
كانت أمرأه في طليعة العمر الجميل، بين كادر ذكوري من المحاضرين مسؤولة آنذاك عن تأهيل التدريب في المدارس، معلمة مساق القواعد ومساق أدب إنجليزي حديث وستكون المشرفة على الطالبات.
وهي تذيل كلامها، نجاح كل واحدة فيكن هو نجاح لي.. أنا لكن ومعكن.
ربما يتصعب علي أصف حب يقعُ بين فتاة ومعلمة من أول نظرة، هذا الحب الذي ترى الواحدة منهما الأخرى انعكاسًا صافيًا في وجه العمر الازرق، الاقل سنًا ترى بالمعلمة النموذج للمرأة الجميلة الشابة المتنورة المثقفة الداعمة، بينما المعلمة ترى بالطالبة الفتاة العنفوان، الاثارة، الطموح التمرد وقوة الشخصية.
وبدا هذا الحب بالنمو والاخضرار.
أول محادثة أتلقاها من معلمة على هاتف البيت حينها كان في شهر تشرين الثاني بنفس السنة 11/2000.
واستغربت من الاتصال لكني لم أحبس ارتجافي، ارتباكي وشعوري الجميل.
حين قالت لي: كوني أنت وثقي بقدراتك وأنت ستكونين شيئًا كبيرًا ومعلمة رائعة… واكتبي
مد صوتها يدًا حطت على كتفي، هدأ من وجفة جناحي الخائف حينها.
وفي مساق الأدب هناك قصة ثانية حيث كانت تدرسنا أدب حديث…
بدأت تكشف الستار أمام الأدب النسوي، ثم أدب الكاتبات الشابات، ثم أدب الأقليات، ثم أدب الكاتبات الأقليات السود في امريكا، ومع كل حكاية وقصة ورواية كان تفتح امامي الكثير من صفحات التغيير الفكري فالأدبي والاجتماعي من نساء لنساء.
وفي كل وظيفة كنت أضع القصص التي كنت أكتبها دون أن يلحظ ذلك أحد، أو كتبٌ قرأتها، وكنت اكشف لها باطمئنان عن أحلام فتية بان تكون كاتبة، وشعرت أن قلمي يسير نحو هذا التيار، الكتابة من الوعي النسوي وأدب الكاتبات في مجتمع ثنائي اللغة والقومية غير منصف وغير متوازٍ.
وبدأت اشحن نفسي وانهمر بالقراءة وانشغلت بالقراءة النسوية، وبدأت تعطيني المحاضرة قصص وروايات وكتب منها ل نوال السعداوي وغيرها لتكون شهيتي أكبر وأوسع.
ربما كانت بنظري أجمل من نوال السعداوي، واحلام مستغانمي وهيفاء البيطار وسلوى عثمان ونازك الملائكة. داليا بشارة كانت بالنسبة لي كل هذا لأنها احتوت كل هذا وشحنتني بها وبهن وبالخيال وبالأدب. هذا هو الأدب الذي يهذب النفس ويسمو بها ويعطي للمرأة بعدًا رابعًا عن الجسد والنفس والروح.
والغريب ذات مرة انها اعطتني دفتر المذكرات وقصص كتبتها، لاكتشف من جديد امرأة كاتبة ذات ذائقة وذوق كتابي جميل، تكتب وتنشر وتكتب ولا تنشر ، تبتعد عن الكتابة وتقترب من الكتابة وتعيش وتعيش بين الحالات كلها. ونتبادل هدايا خاصة بيننا من كتب وقصص ومنشورات وهدايا تبعث نسيمًا معطرًا في الروح. نتبادل الاسرار، والخفايا تدعم كل منا الأخرى بطريقتها وشخصيتها ونكون معًا المتسع الآمن والقلب المحتوي الواسع .
اخبرتني أنها كانت تنشر في الصحف العربية المطبوعة الورقية حينها، حين كان للصحافة والملاحق الأدبية الثقافية وزناً وقدرًا وقراءً ومساحة ابداع ترتقي بالمجتمع العربي.
وفهمت أي كاتبة مصقولة الذهن، حادة الرؤية، طويلة المدى غنية في التصاوير، تملأ حبر قلمها في غمد التمرد، لتكتب. كي لا تصاب بالمرض او الحزن او الأسى. فحبر الكاتبات هو زمرة دم تمنح الحياة لكل الأجساد والعقول المسمومة مهما كانت فصيلة دمهم.
وأكثر موتيف صوتي وأدبي سواءً درست الأدب أو كتبت في الأدب أو عنه، كان يصدح من حنجرتها نحوي بهمس أو بصخب كتابي، الرفض والتمرد على القسوة والظلم والجهل، تكبيل أحلامنا كفتيات، وإخراس أصواتنا وتكفيننا أحياء أو اقتلاع الروح من أجسادنا لنصير قطيعًا خشبيًا.
أقف اليوم سنة بعد رحيلك عزيزتي دالية بشارة فضيلي، بموتك غرقًا، عندما اغمضتِ للمرة الاخيرة في موج آب 2023 ، موج هادئ وعميق كروحك، لتغرق معها الحكاية ، ليأخذك الموج حورية مكللة زعانفها بالألق والجمال، ربما لتسافر هذه الروح لجسد آخر على بعد سفر آخر في الزمن فتنجو والروح لا تغرق.
الان فهمت.... فهمت
حين نزلت عن الدرج الطويل لماذا كنت متهجمة في عينيك حزن وتمردٌ مكبوت!
فهمت معنى
أن إمراة كتبت ... ونشرت وتوقفت
وأن إمراة عادت لتكتب... ربما
ولتبقى ذكراك عطرة