ناجي ظاهر - صورة شخصية
ولم يكتف بهده المفاجأة وانما تجاوزها بزيارة ليلية ليطلب مني المساعدة بالعثور على زوجة مناسبة له.. تملأ الفراغ الرهيب الذي تركته زوجته المرحومة، هززت راسي محبذا ومباركا، فنحن نعيش في فترة تختلف عن سابقاتها من الفترات، بما فيها فترة تهجيرنا من قريتنا، بقوة السلاح، واكدت رايي قائلا انها فترة لا يوجد للمرء الا نفسه، وقلت له بالعبرية "ام اين لي مي لي"، فطلب مني عمي ان اترجم له ما قلته بالعبرية الى العربية فرفضت، واردفت حتى لا ازعله "بحكش جسمك مثل اظفرك"، ابتسم عمي ومضى في ليله، لاكتشف في اليوم التالي انه شرع في اخبار الجميع بما انتوى ان يفعله.. وان قصة رغبته بالزواج، قد انتشرت على كل شفة ولسان من السنة ابناء الحارة.
سمعت في الايام التالية انه لجأ الى احد متشردي الحارة وشذاذي افاقها ليساعده بالعثور على زوجة تملأ ما خلفته زوجته الراحلة من فراغ، وان هذا اوصله بعد دعوته على ثلاثة ارغفة فلافل، الى احدى العوانس، المعروفات بهبلهن، فحملت نفسي وهرعت اليه: هل ما سمعته يا عمي صحيح؟ ماذا سمعت يا ابن اخي؟ سمعت انك تفكر بالزواج من تلك الهبلة. اه.. وشو فيها يا ابن اخوي.. على الاقل بتدير بالها على عمك. بس هاي هبلة يا عمي. هبلة.. هبلة يا ابن اخوي.. ولك ان شا الله بتشُخ على حالها. بدي وحدة تونسني بوحدتي.
تركت عمي وانا افكر في كلماته الجارحة.. هل اوصلته وفاة زوجته الى تلك الحالة التي تحدث عنها؟ هل هو يعيش مثل هكذا وحدة ونحن حوله موجودون؟ ركبني شيطان الاسئلة، لقد بات امر ارتباط عمي جديا، لكن هل يوافق ابناؤه وهم كثر وبينهم الشرس الحاضر طوال الوقت للشجار، هل يوافقون على ارتباطه في سنه تلك المتقدمة؟ هكذا وجدت نفسي اردد سؤالا يحتاج الى اجابة ليست بيدي. اتصلت بعمي وسألته عما اذا كان ابناؤه موافقين على زواجه؟.. فجاءتني اجابته الفورية: شو دخل اولادي.. وين بكونوا لما بكون لحالي في الليالي الطويلة.. كل واحد منهم ملتهي بتَبع مرته.
أثّرت فيّ كلمات عمي، وقررت من فوري مساعدته.
في اليوم التالي ابتدأت رحلة البحث عن زوجة لعمي، فرحت اسال عمن ترضى به زوجا له في تلك السن المتقدمة، وكان ان قللت عقلي واتصلت بمن سبق لعمي وان اسأله، فأخبرني انه توجد في بلدة مجاورة امرأة في الخمسين من عمرها وتريد ان تتزوج. وراح يعدد مناقبها الطيبة، توجهنا، عمي، انا وذاك المتشرد، من فورنا الى تلك البلدة، عندما اوقفنا سيارتنا بعيدا عن بيت كبير فاره، اخبرنا مرافقنا المتشرد ان ذاك هو البيت المقصود، طلب منا ان نبقى في السيارة، وترجل منها قبل ان يستمع لإجابتنا، وولى مسرعا كمن ضربته بعصا على قفاه. لم يطل انتظارنا، لنستمع الى جلبة وصراخ، وشتم وسباب، تنبعث من البيت قبالتنا، عندما عاد المتشرد بثيابه الممزقة، ادركنا ما حدث معه، فقطب عمي ما بين حاجبيه، فيما لاحت ابتسامة على شفتي. ومضينا في طريق عودتنا الى بلدتنا خائبي الرجاء، على امل ان نجدد البحث في اليوم التالي.
في اليوم التالي تكرّر موقف اليوم السابق، لكن بفداحة اكبر، فقد راينا امرة معافاة تقذف متشردنا من بوابة بيتها، وتلحق به، ليدخل الى سيارتنا وليطلب منا ان نهرب ناجين بجلدنا، غير ان تلك المرأة تمكنت من منعنا من الانطلاق، وراحت تتساءل مين هذا الشايب العايب اللي بده يتزوجني؟ انكمش خالي، فيما هتفت بها قائلا.. انه كان معنا وهرب خوفا منها. تقبلت المرأة الحانقة الغاضبة روايتي وسط علامات شك بدت على وجهها، وسألتني عما اذا كنت متأكدا مما اقول؟ فأرسلت نظرة استجارة بعمي، عندها مد لي حبل النجاة وهو يقول، نعم نعم هو هرب. ابتسمت تلك المرأة ومضينا نحن الثلاثة هاربين، وحامدين الله انه نجانا من براثنها ومن لكماتها.
بعد يوم من هذه الحادثة وقعت الحادثة الثالثة، فقد انتهت بان اكل مرافقنا المتشرد نصيبه من اللكمات والصفعات، ووزعت العروس العتيدة، هي واهلها، علينا ما تبقى من لكمات لا تنسى، بعد ان اكلنا نصيبنا من الضرب، وتوقف مهاجمونا عن توجيه الاهانات رأيناهم ينصرفون عن سيارتنا واحدا وراء الآخر حتى انهم بدوا مثل صف عسكري ادى مهمته على وجهها المنشود وعاد غانما سالما. فما كان منا الا ان لجانا الى ما تبقى في سيارتنا من قوة واندفعنا اندفاع عاصفة قاصفة مبتعدين عن تلك الشريرة واهلها الكرام.. سامحهم الله.
عندما اتخذ كلٌّ منّا، نحن الاشقياء الثلاثة، لم نجد افضل من هذه التسمية، مجلسه في احد المطاعم الشعبية في حارتنا، لم يسالنا عمي عما ننوي اكله وطلب لكل منا رغف فلافل، فأتينا من غلنا وفتكنا به عن بكرة ابيه، ما دعا عمي الى طلب رغيف آخر وبعده آخر.. بعد ان شبعنا، اولا ضربا وثانيا فلافل، تفرقنا وقد تأكد لنا اننا لن ننجح فيما وطّنا انفسنا عليه. غير ان ما حدث في الايام التالية جاء مختلفا. كما تبين لي على الاقل فيما بعد. ويبدو ان ذلك المتشرد، بحث عن طريقة اخرى يلهي بها عمي، فاقترح عليه ان يجلس في المحطة المركزية للحارة، وهناك تجد ما هب ودب من النساء، كل ما هو مطلوب منك، هو ان تفتعل اي حركة، ان تقول على مسمع من تروق لك، مثلا، ان الباص قد تأخر، فاذا تجاوبت معك، تابع معها، اما اذا لم تفعل، فانصرف الى غيرها.
ما إن دخل كلام متشرّدنا عقل عمي وركب على عقله، كما علمت فيما بعد، حتى سارع من فوره لارتداء كل ما على الحبل من ملابسه الجديدة، واغرق نفسه في بحر من الروائح العطرية، وتوجه في ساعات الصباح المبكرة الى محطة الحارة المركزية، اتخذ هناك مجلسه مثل ملك غير متوج، وجعص يعج على سيجارته المارلبورو الثمينة، وما ان لاح له طيف بغيته من النساء، حتى شبّ على قدميه وتعمد الوقوف قريبا منها، وهو يتمتم بكلمات عن تأخر الباص، افتعلت المرأة حركة، فهم منها انها غير معنية بالتحدث اليها، فعاد الى مجلسه كسيرا متهدل الاذنين. بعد ساعة من الانتظار شاهد امرأة تقترب من المحطة فراودته احاسيس جدية ان صنارته قد غمزت، الا ان نقبه طلع على شونة هذه المرة ايضا. فعاد الى مقعد الرئاسة في محطة الحارة المركزية. بعد ساعات من الانتظار، وقع حادث مكّن عمي من تحقيق بغيته. كان ذلك عندما رأى شابا يحاول معاكسة احدى الواقفات فانتابته حمية ونخوة عُرف بهما في ايام الصبا والشباب الغابر، فدنا من الشاب مشددا قبضته في محاولة منه للكمه، الامر الذي لفت نظر تلك المرأة. الشاب على ما يبدو فضل الانسحاب وولّى مختفيا في الفضاء الرحب. اقترب عمي من تلك المرأة فابتسمت له، فتجرأ وهو ينتقد شبيبة هذه الايام: اما شباب. عندها انفكت عقدة لسان الاثنين، خالي وبعده تلك المرأة التي اكتشف انها حسب الطلب .. ربلة.. ملانة وملظلظة، واخذهما الحديث، الى ان جاء باصها فانصرفت. هكذا وجد عمي ضالته.. وبادر في صبيحة اليوم التالي الى المحطة ليجري محادثة عمره مع تلك المرأة.
دبّ هذا النجاح الحمية في راس متشرد حارتنا، فتحدث عنه لآخرين بصورة هامسة.. بلغ خبر علاقة عمي بتلك المرأة اسماع ابنائه، فما كان منهم الا ان ارسلوا اليهم اشرسهم، ليخبره ان امر علاقته بامرأة محطة الحارة، قد انتشر وذاع، وان اخوتها قرروا اطلاق النار عليه في اول فرصة يرونه يتحدث فيها لأختهم. ما ان سمع عمي هذا التهديد الواضح المكشوف، حتى انكمش وانطوى على نفسه.. واغلق باب بيته على نفسه.. منذ ذلك اليوم لم ير احد عمي.. فاعتقد البعض انه مات.. علما انه حي يرزق.. ويتطلع الى يوم امن يجمعه فيه رب العالمين بفتاة احلامه.