logo

يوم الأمّ - قصة بقلم: زهير دعيم

موقع بانيت وصحيفة بانوراما
02-04-2024 17:15:50 اخر تحديث: 05-04-2024 12:03:41

منذ أن عادت من المدرسة، طمرت حنان رأسها الصغير في فراشها، وهي تبكي وتتنهّدُ بصمت وهدوء ، فهي تخاف أن يلحظ ذلك أبوها العائد من العمل، والذي يشقى ويتعب كثيرًا من أجلها.

زهير دعيم - صورة شخصية

انّها لا تُحِبُّ أن تُزعجه، ولا تريد أن تُذكِّره بيوم غدٍ، فغداً عيد الامّ ؛ عيد التضحية والحُبِّ والعطاء ، والمُعلّمة في المدرسة قد طلبت من الطلاب أن يُقدِّمَ كلّ طالب هديةً رمزيهً لامّه، ثمّ يرى ردَّ فعلها ويكتبه من خلال موضوع إنشائيّ صغير، يتوخّى فيه الدّقة ورسم المشاعر بأحلى الصّور .

لم تنتبه المعلمة رَهَف الى أنّ حنان قد فقدت امّها منذ سنتين، حين كانت في الصّف الرابع ... وكيف تنتبه وهي معلّمة جديدة ومن بلدة اخرى؟ انها لا تعرف سكّان البلدة ولا أحوال معيشتهم، فلم يمرّ على عملها في المدرسة إلا عدة أشهر.
صحيح ان الطلاب نظروا الى حنان نظراتٍ لها أكثر من معنى، ولكنّ هذا الأمر لم يُثِر انتباه المعلّمة.

جفّفت حنان دموعها، وراحت تتذكّر اللحظات الجميلة والدفء الذي كان يغمرها من امّها. تذكُرها ملاكًا يحرسها، ونجمًا ساطعًا يُنير دربها، ونسمةً بليلةً تُنعشها في يومٍ قائظ. تذكرها وهي تأخذ رأسها الصّغير، وتروح تُداعب جَديلتيها وتُقبّلهما، ثُمَّ تضمُّها إلى صدرها وتقول : "ما أحلاكِ يا حنان ...ما أجملكِ يا صغيرتي!! 
لقد انقضى كلّ شيء ، ولم يَبْقَ سِوى الذكريات ، ولكن هيهاتِ ... فالذكريات مهما كانت حلوةً فهي لا تكفي ، ولا تساعد على الفَرضِ المدرسيّ .
فبعد غدٍ قريب وعليها أن تفعلَ شيئًا، عليها أنْ تتحرّك خاصةً وأنّها لا تُحبّ المواقف المُحرِجة ، وتكرهُ أنْ تكون مثارًا للشَفقة . نامتْ حنان ، ولم ينم تفكيرُها . نامت حنان ولم تنم دموعها .

وكان لا بدَّ للصُّبح أن يطلع ، فجاءَ ربيعيًّا مُشمسًا ، تُزقزق فيه الطيور على الأشجار الخضراء . 
ترَكَ الوالد بيته مُتوجّهًا إلى عمله بعد أن طبع على جبين حنان أكثر من قُبلة.
ولم تجرؤ حنان أن تطلب من أبيها شيئًا، وهو لم يلتفت بدوره إلى الحزن الغارق في عينيها ، والهمّ السّاكن في وجهها !! لم يطل تفكير حنان ، فقد قرّ رأيها على أن تنتهز عطلة نهاية الأسبوع ، والجوّ المشمس ، فتزور الطبيعة وتقطف إضمامة ورد مزركشةٍ لأمها . إنه أفضلُ يومٍ للزيارة ... إنه عيدها ،عيد الأم، وهي تحبّ أمها محبة ما بعدها محبة. كالغزالة الصغيرة درجت حنان فوق الزّهور والصخور، وقطفت باقة من البرقوق وعصا الرّاعي والياسمين، وعادت بها الى المكان الهادئ الصامت أبداً ...

هناك، ركعت عند القبر تقبّلُ أقدامه، تسبقُها دمُوعُها اليه.. ولم تستطع ان تقول سوى:
كل عام وانت بخير يا أمي .. يا حبيبتي!
وكرّرت هذه العبارة مرّاتٍ ومرّات، فكم هي جميلة هذه العبارة " يا أمي" فمنذ سنتين لم تنفرج شفتاها عن ذكرها!
وجاء اليوم التالي ، اليوم المدرسيّ..
وعندما جاء دور حنان لتقرأ ما كتبته ، خيّم السّكون على الصف بشكلٍ غريب، فالكلّ ينتظر ويترقّب، هل كتبت ؟ وماذا كتبت ؟
وسحّت الدموع سخينةً من عينيّ حنان، وتهدّج صوتها وهي تقرأ: أمّاه ! لقد أدمى الحصى قدميّ الصغيرتين وأنا أقطفُ لكِ هذه الباقة المتواضعة ، فلِمَ لا تهبّي لعناقي .. لماذا تبقين صامتةً ؟! إني أتوقُ الى أنفاسك الحارّة ، وأتوق الى لمسة حنانٍ ، وكلمة تشجيعٍ .. لماذا يلفَّك الصمت الذي أخافهُ ؟
ولم تستطع حنان أن تتابع ، فقد خنقتها الدموع.

ونظرت المعلمة الى طلابها، فإذا بنهرٍ من الدموع يسيل ، فاقتربت منها وبحنان فائقٍ وعانقتها بحرارةٍ ، وهي تقول : "حنان أنت ابنتي .. هل تقبلينني أمًّا لكِ؟! هل تقبلينني أمًّا لكِ؟!
وهزّت حنان برأسها الصغير، فعصَفَ الصّف بتصفيق حارّ طارَ الى البيوت البعيدة .