logo

قصة بعنوان ‘الكرامة فوق كل اعتبار‘ - بقلم : الكاتبة اسماء الياس

موقع بانيت وصحيفة بانوراما
04-01-2024 19:12:59 اخر تحديث: 05-01-2024 05:29:41

ابتدأت زخات المطر تتساقط رذاذًا، وبعد ذلك اشتدت الأمطار وبدأت تهطل بغزارة. تذكرت طفولتي عندما كنت أعود من المدرسة مبللة وأرجلي قد تجمدت من الصقيع.


اسماء الياس - صورة شخصية

في ذلك الزمن كنت أسكن في حي تبدو شوارعه مثل ثياب الفقير. "من كل قطر أغنية" في فصل الشتاء تظهر عيوب الطريق. برك أوحال أوساخ تتجمع وتعيق تسرب المياه في الأقنية. لكن الذين أكثر ضررًا هم طلاب المدارس الذين كانت تغوص أقدامهم بالماء حتى الركب.

  عند عودتهم للبيت يتعين عليهم تنظيف أرجلهم خارج المنزل مع إبقاء أحذيتهم بالخارج حتى لا يتسخ المنزل. 

 وحتى لا يتعرضوا لنزلات شعبية كانوا يبدلوا ملابسهم بملابس جافة. يجلسون بعد ذلك أمام المدفأة حتى يستدفئوا من البرد الذي أصابهم بطريق عودتهم سيرًا على الأقدام من المدرسة إلى البيت.

ذكريات كثيرًا ما أسترجعها فهي محفورة بذاكرتي. حتى بعد أن أصبحت كبيرة ناضجة واعية، لكن تلك الذكريات لها مكانة حميمة أعود إليها كلما عصف بي الشوق لأيام زمان، أيام كنا نقطف البرتقال والليمون من حديقة الجيران، وعندما يشاهدنا الجار كان يصرخ علينا "من قراقيح قلبه" ومن خوفنا منه كنا نركض مسرعين خوفًا من كرباجه وعصاته التي يهددنا بها كلما شاهدنا نسرق من حاكورته.  

عدت أراقب المطر من خلف النافذة، فقد كانت متعتي منذ كنت طفلة ان اخربش على زجاج النافذة أرسم قلوبًا وأشكالاً، وددت لو كان باستطاعتي رسمها على لوحة حتى أعلقها بمدخل كل قرية وكل مدينة حتى يعلموا بأن السلام هو الحل الأفضل لمشكلات هذا العصر الآلي.

بتلك اللحظة دارت برأسي عدة أفكار. عدت وتساءَلت: ما حال أهل الخيام ومن فقد البيت والدفء والأمان؟ كيف يتدبرون معيشتهم طعامهم ومشربهم. والأطفال كيف يصمدون بهذا البرد القارص والجوع الكافر؟ 

فقد شاهدت فتاة تبكي من البرد والجوع وضياع الأمل وسط هذا الدمار المخيف الذي حل في البلاد وشرد به العباد.

 أشفقت على حالها. كنت أود أن أعانقها حتى أخفف عنها. لكن مع الأسف تفصل بيننا مسافات وحدود وجيش ونظام لا يجيز لنا الدخول لتلك المناطق المعزولة عن العالم. لأنهم يعيشون في سجن كبير مفتوح حراسه النظام الذي لا يكف عن تعذيبهم بشتى الأساليب التي لا تتفتق إلا عن عقل تدرب على سلب حياة الآخرين دون أن يرف له جفن أو يعذبه ضمير. هكذا هو حال أهل الخيام، مشردين جائعين، ينقصهم البيت الدافئ الذي هدمه جيش الاحتلال وقتل من فيه والذين بقوا أحياء، عاشوا بالذل والحرمان، تنقصهم أدنى مقومات الحياة، الطعام والشراب والدواء والمكان الذي يشعرون فيه بأنهم بشر يحق لهم العيش بسلام، بعيدًا عن آلة الحرب والدمار. لكن أين أحلامهم من تلك الحقيقة المرة التي يعيشونها تحت القصف والدمار والموت المحقق. 

لدي نداء أنا الكاتبة شرين سالم التي ولدت في عالم الشر فيه مباح. والسلام يذبح أمام مرأى المنظمات التي ترعى حقوق الإنسان، لكن لا أحد يتحرك كأن ما يحدث بعيدًا على أن يلمس فيهم إحساسهم أو انسانيتهم المهترئة. 

أيها البشرية التي لا تعلم بأنها ذاهبة نحو الهاوية. كوني على يقين بأنك إذا لم تقفِ بوجه صانعي الحروب. ستفقدين الحياة لأن الكون بالمجمل لن يعود صالحًا للحياة. ستكثر الأمراض والفيروسات التي بالماضي كان الطب يتغلب عليها. لكن اليوم بحاضرنا وبكل ما يحصل من اختراق لموازين الحياة، سوف يكون من المستحيل القضاء على الفيروسات التي أصبح لديها مناعة قوية للمضادات الحيوية التي ينتجها الطب محاولة منه أن يقضي عليها. 

لكن من الأسف الذي تزرعه يا إنسان سوف تحصده. خذها مني حكمة، إذا لم تتعظ سوف تقضي على الحياة، والبيئة سوف تتضرر لأن كل الذي تفعله سوف يؤثر على طبقة الأوزون التي سيكون ضررها أكبر مما تتخيل. لذلك عندك فرصة أخيرة أن تصلح ما أفسدت قبل فوات الأوان.

وأنا وسط كل تلك الأفكار التي دارت برأسي جاء صوت والدتي تنادي عليَّ:

- شيرين هيا إلى المطبخ فوالدك على وصول وأنت تعلمين بأنه يعود من العمل متعبًا جائعًا. يريد أن يأكل. لذلك وجب تحضيره الآن.

- لحظة واحدة يا والدتي فأنا أراقب قطة بللها المطر، مسكينة لا بيت يأويها ولا أحد يطعمها. فأنا أشفق عليها، أريد إدخالها للبيت حتى أطعمها وأجعلها دافئة آمنة. ما رأيك يا والدتي؟

-أفعلي ما تجديه مناسبًا. فأنا أعرف مدى طيبة قلبك، وأنك لا تتحملين مشاهدة أحد ما يحتاج مساعدة إلا وكنت من المبادرين لمساعدته. وإذا احتاج أن تدافعي عنه لا تتأخري عن فعل ذلك.

- نعم يا والدتي أنا هكذا نتيجة أثر تربيتك التي أثمرت وجعلتني إنسانة محبة عطوفة. أدافع بشراسة عن كل مظلوم. لو كان في قلوب الناس رحمة لكان الكون يغمره نور السلام. لكن مع الأسف الرحمة غابت عن القلوب، والسبب الطمع والشجع وحب الذات. 

الرحمة شيء إنساني. حتى الحيوانات المفترسة في قلوبها رحمة أكثر من البشر. إذًا لماذا لا نحول البغض إلى تسامح ورحمة؟ لأنه بامتلاكنا الرحمة نكون قد وصلنا لنتيجة حب لأخيك مثل ما تحب لنفسك.

  الرحمة هي الوحيدة التي تجعل من عالمنا مكانًا يستحق العيش به.

 منذ اندلاع الحرب وأنا كل يوم أرى مئات من العائلات قد نزحت عن بيوتها. وأشخاص ماتوا تحت الأنقاض لأن تم قصفهم في وقت كانوا فيها نيام. شيءٌ مخيف يا والدتي الذي يحصل من انتهاكات للبشر للأطفال والنساء والشيوخ. الجوع يفتك بالصغير والكبير. كثير من الأطفال ماتوا جوعًا. والسبب عدم السماح بإدخال المساعدات الإنسانية التي من المفروض ان تدخل. على الأقل هذا ما ينص عليه قانون الحرب.

- حبيبتي شيرين أنا خائفة عليكِ لأن من يمتلك قلبًا مثل قلبك ويفكر بغيره، ولا يتحمل رؤية شخص مظلوم. سوف يعاني كثيرًا جراء طيبة قلبه. لذلك أنصحك بأن تتركِ طيبة القلب جانيًا وتهتمي بنفسك على الأقل.

- لكن يا والدتي الرحمة يجب أن تكون بكل القلوب، فكيف نرتقي لمرتبة الإنسان ونحن لا نمتلك أدنى مقوماتها، وهي الرحمة واغاثة الملهوف.

 لبيت نداء والدتي وساعدتها بإعداد الطعام وعندما أنهينا كل شيء جاء والدي، كما ذكرت والدتي كان والدي متعبًا منهكًا كأن تعب العالم كله فوق أكتافه. بعد أن رحبنا بعودته من العمل بالسلامة. سألته:

-ما بك يا والدي أرى إمارات الغضب على محياك؟ هل حصل لك شيئًا أثار غضبك وحنقك؟

- الأخبار يا ابنتي لا تسر عدو ولا صديق، الأزمة كل ما لها تشتد والحرب تجر معها الويلات، ألوف من البشر قد شردوا من منازلهم، غير البيوت التي هدمت وسويت بالأرض. طفلة تصرخ وتدعو العرب لمساعدتها فقد تعبت جراء ما يحصل لهم من تجويع وإبادة جماعية. لكن العرب لا يسمعون ولا يشاهدون، كأنهم موتى لا رجاء منهم.

- نعم صدقت يا والدي كنت قبل أن تأتي أتحدث مع والدتي عن الوضع الذي نعيشه، وقد أخبرتها بأنه يجب على المجتمع الدولي أن يأخذ قرارًا بوقف الحرب والإبادة الجماعية. يجب أن تتحقق العدالة، لأن الشعوب تعبت من الحروب والموت. لكن كيف تتحقق العدالة ومن يتحكمون بالعدالة هم بالأصل فاقدين لها؟

ما رأيك يا والدي لقد قررت ان اكتب رواية ربما استطعت من خلالها أن أوثق شهادات حية لأشخاص عاشوا تلك الحرب وخرجوا منها سالمين؟ 

-وانا أدعمك بذلك يا ابنتي يجب علينا جميعًا أن نكون مع الجهة الضعيفة المغلوب على امرها. يجب أن نفضح كل المتآمرين على الشعوب التي تطالب بالاستقلال وبالحرية والعيش الكريم. وإذا لم نقف مع شعوبنا واهلنا فلا كلامنا يفيدهم ولا بكائنا يشفع لهم ولا حزننا قد يطعم طفلاً أو يقيه من البرد.

- بعد أن تنهي طعامك وترتاح قليلاً ما رأيك أن نبدأ بكتابة اول فصول الرواية. 

- ما الاسم الذي سوف تطلقين عليها؟

- الكرامة فوق كل اعتبار.

- جميل جدًا هذا العنوان. تخيلي الإنسان عندما يفقد كرامته كيف يكون حاله. فالإنسان العربي يعتز جدًا بكرامته لأنها تاج على رأسه.

- كلامك صحيح يا والدي كرامتنا هي رمز عروبتنا. لكن يا والدي لماذا أرى حال العربي غير عما قرأنا عنه في كتب التاريخ. فقد قرأنا بأن من شيم العربي اكرام الضيف واغاثة الملهوف. والعربي بعباءته وحضوره بمجالس عقد رايات الصلح. أين هم الآن؟ هل توفاهم الله؟

-ربما توفاهم الله بعد أن رأى بأنهم لا يعملون بتعاليمه التي نصت عليها الشرائع السماوية والمزامير.

كرامتنا من عزة أنفسنا. يا إنسان كن على يقين إذا لم ترحم من في الأرض لن يرحمك من في السماء. هذه قصتي كتبتها حتى تكون مرجعًا للأجيال القادمة لعل وعسى يكون فيها كل العبر..