محمود غنايم
على جبهتين هامتين جدًا، هما: التعليمية والبحثية. في الجبهة الاولى تخرّج على يديه البيضاوين السخيتين المئات وربما الآلاف من الطلاب المتأثرين بمنهاجيته العلمية الصارمة، التي استقت نسغها من منهجية أخرى مميزة تمثّلت في منهجية استاذه الصديق المرحوم ساسون سوميخ، وتنمّت عبر مجهود خاص تواصل طوال أيام حياته ولياليها لتطوير الذات ومدّ أبناء الاجيال الطالعة الجديدة بكلّ ما هو منهجي وعلمي.. لا يرضى بالقشور الخارجية للأشياء وإنما يتغلغل في أعماقها ليكشف عن مكنوناتها وخفاياها، أما على الجبهة الاخرى فقد قدّم الراحل الكريم اجتهادات مميزة تمثّلت في دراساته العلمية الرزينة التي حرص على إصدارها في كتب محبةً لها وخشية عليها من إلا تصل إلى عناوينها الصحيحة وربّما رغبة في بقائها شاهدة على أنه كان هنا وأراد أن يُقدّم ما يفيد الناس مبتعدًا عن كلّ غثاء.
لن أتحدّث هنا عن جبهته الاولى، فقد كفّى طلابُه من عارفي فضله ووفوا، ونشروا، منذ انتشار رحيله المؤسي، العشرات من الشهادات وكلمات الرثاء، وإنما سأتحدث عنه دارسًا وباحثًا رافقته خلال مسيرته المديدة مع الدراسة والبحث، منذ بداياته الاولى في أوائل السبعينيات حتى لحظاته الاخيرة.
كما اسلفت، عادت علاقتي بالراحل الكريم إلى بداياته الاولى وأذكر في هذا المجال أنني كلّما كنت أزور صديقي الشاعر الراحل ابن عمه محمد حمزة غنايم، كان هذا الاخير يقترح علي أن نتوجّه لزيارته في بيته القائم قريبًا من مدخل بلدته باقة الغربية، فكنّا نتوجّه إلى هناك لنلتقي بعدد من الأصدقاء، منهم من رحل ومنهم من بقي ومنهم من أقعده المرض، ونأخذ في التحدث في امور الادب والادباء حتى ساعات متأخرة من الليل، واذكر من اصدقاء تلك السهرات كلًا من الصديقين المرحومين فاروق مواسي وجمال قعدان – الاصمعي. منذ اللحظات الاولى لعلاقتي به أيقنت أنني إنما التقي انسانًا جادًا مجتهدًا ، ويبدو أنه هو أيضًا رأى فيّ شيئًا مما رأيته فيه، ما وطّد العلاقة بيننا أكثر فأكثر.
كتب فقيدنا وأصدر خلال عمره العديد من الابحاث والدراسات، أشير إليها للشهادة والتوثيق نقلًا عن الموسوعة الالكترونية ويكبيديا .. هي: 1980 "بين الالتزام والرفض - دراسة في شعر عبد الرحيم محمود". * 1987 في مبنى النص": دراسة في رواية إميل حبيبي: "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، *1992تيّار الوعي في الرواية العربية الحديثة"- دراسة أسلوبية*. 1995المدار الصعب- رحلة القصة الفلسطينية في إسرائيل". *2000 "مرايا في النقد- دراسات في الأدب الفلسطيني". * "2004الجديد في نصف قرن- مسرد ببليوغرافي". * 2008 The Quest for a Lost Identity: Palestinian Fiction in Israel. * "2015غواية العنوان: النص والسياق في القصة الفلسطينية". * 2015- The Lure of the Title: Text and Context in Palestinian Fiction, 1948-2012.* بالإضافة إلى عشرات المقالات في المجلات المتخصّصة بالعربية والعبرية والإنجليزية. نشر غنايم مقالاته حول الأدب العربي الحديث في العديد من الصحف والمجلات المحلّية والعربية والعالمية: في صحيفة "الأنباء" و"الاتحاد" ومجلة "الشرق" و"الجديد" و"لقاء" و"مشاوير" و"الكرمل" (جامعة حيفا) و"المواكب" و"مواقف" و"مشارف" و"המזרח החדש" و"الناقد" و"أدب ونقد" وPoetics Today, Arabic and Middle" " Eastern Literatures وغيرها. كما شارك في تحرير عدة مجلات أدبية في فترات مختلفة، مثل: "الجديد"، "لقاء"، "الشرق"، وبقي حتى يوم رحيله عضوًا في هيئة تحرير سلسلة "دراسات عربية وإسلامية"، التي تصدر عن قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة تل أبيب، ومحررًا لمجلة" المجلة" التي تصدر عن مجمع اللغة العربية في حيفا.
*بعد رحيل صديقي الشاعر محمد حمزة غنايم توقّفت اللقاءات مع فقيدنا الغالي محمود غنايم، لتتواصل عبر هذا اللقاء الادبي أو ذاك، وقد توزّعت على جانبين أعترف أنهما اثلجا صدري وأثارا سروري، أحدهما خلال تولّيه منصب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة تل أبيب عام 1985 خلفًا لأستاذه ساسون سوميخ طيّب الله ذكراه، والآخر عبر دراساته ومؤلفاته القليلة لكن كبيرة الفائدة، فقد وجّه في الجانب الاول العديد من طلّاب قسم اللغة العربية لدراسة بعض مما انتجته في المجال السردي، وبرز من هؤلاء الطالبة الفنانة التشكيلية المجتهدة مها أبو حسين، أما في الجانب الآخر، فقد كان كثيرًا ما يفاجئني بالإشارة العارفة المطّلعة والمدركة إلى وجودي كاتبًا قصصيًا مجتهدًا، وهو ما سبق واشار إليه في العديد من الدراسات والابحاث الصديق ساسوسون سوميخ، وقد كان من أوائل من التفتوا إلي وإلى إنتاجي السردي، فكتب عن مجموعتي القصصية " جبل سيخ"، وخصّ قصتي "الكنز" بإشارة خاصة، لافتًا إليها الانظار، وأذكر أنه يوم اهداني كتابه " المدار الصعب"، وبعده بسنوات مديدة كتابه " غواية النص"، قال لي بالحرف الواحد، اقرأ هذا الكتاب ففيه لك نصيب الاسد.
للتأكيد أكرّر ان المرحوم كان في كلّ ما مكتبه دارسًا جادًا وباحثًا مميزًا، ولفت اهتمامي منذ اللحظات الاولى لقراءتي دراساته أنه يواصل السير على خطى استاذه المرحوم الدارس المبدع ساسون سوميخ، لا سيما في رأيه ان العديدين من الساردين العرب في بلادنا انما يكتبون وعينهم على النقاد في العالم العربي، غير أنه ما لبث أن تعمّق في دراساته هذه فاستقل بآرائه المتوغّلة في أعماق النصوص المدروسة ليستخرج منها ما يراه ملائمًا ومناسبًا من ملاحظات لا أخفي أنني كثيرًا ما اختلفت معه فيها، إلا أنني لم امتلك إلا أن احترم اجتهاده المخلص الخاص، ومما اعترف بتقديري له من هذه الآراء واقرّ باختلافي فيه معه أيضًا، أنه رأى في مجموعتي "جبل سيخ"( صدرت عام 1989)، نوعًا من التقوقع في جرح التهجير الفلسطيني وهذا تعبيره حرفيًا، فيما ضمّته المجموعة من قصص، وهو ما اختلفت معه فيه وأذكر أنني أوضحت موقفي منه في أكثر من مناسبة وكتابة وتمثّل هذا الموقف/ الرد، في أن الكاتب لا يمكن أن يبتعد مهما حاول عن واقعه المحيط به وجراحه الخاصة بشخصه، أضف إلى هذا أن الكاتب لا يملك أكثر من حياة واحدة وتجربة واحدة ليكتب بعيدًا عن ذاته وهمومه الشخصية الخاصة به، وهو ما ردّ به الكاتب الامريكي المبدع ارنست همنجواي عندما واجه موقفًا نقديًا مماثلًا. اختلفت أيضًا مع الفقيد في رأيه حول الشعارية – نسبة إلى الشعارات- في "جبل سيخ"، ففي حين رأى هو أن المجموعة ضمّت شيئًا من الشعارات، رأيت في المقابل أنه ليس المهم أن ما ينطق به شخوص القصص يقارب الشعارات، وانما الاهم هو أن تكون تلك الشعارات، إذا صدقت الصفة، موظفةً في خدمة النصّ وفي سياقه، وقد اعتمدت في رأيي هذا على أن النص السردي يُعتبر في المجمل وحدةً واحدة واننا يُفترض عند دراستنا له وبحثنا فيه ألا نبتعد عن هذا.
مهما يكن الامر، أجمل فأقول، إن المرحوم كان فعلًا لا قولًا فحسب، دارسًا جادًا وباحثًا ادبيًا مميزًا، لهذا أقول في ذكراه الثانية.. ان خسارتنا فيه جاءت مضاعفةً وضربةً موجعةً. الراحل الغالي محمود غنايم. سيفتقدك طلابك، وسوف يفتقدك اصدقاؤك اكثر.. وانا واحد منهم.. فنم قرير العين.