صورة للتوضيح فقط - تصوير: shutterstock_Gajus
كانت تلك الايام في الثمانينيات الاولى، عندما وقعت عيني خلال تصفحي لاحد أعداد مجلة "العربي" الكويتية العريقة، على قصيدة حملت، على اتذكر عنوان " لو انبأني العرّاف"، كانت تلك القصيدة موقّعة باسمها، ولفت اهتمامي فيها تلك النبرة النسوية الفريدة التي أعتقد أنها ميّزت المرأة العراقية في أعماق وجودها وكينونتها، ومَن يعلم ربما كانت تلك النبرة أو شبيهتها هي ما جذب الشاعر المعلّم نزار قباني إلى زوجته ورفيقة دربه بلقيس الراوي، فعاش معها وإلى جانبها ملكًا الى جانب ملكة، وخلّدها بعد قضائها في عملية إجرامية تفجيرية في بيروت، بواحدة من أجمل ما قيل في شعرنا الحديث. كانت تلك القصيدة باختصار نابضة بحس انثوي فريد، ذكّرني بما قالته شاعراتٌ عربيات مجلّيات في شعرنا العربي القديم أمثال رابعة العدوية وولادة بنت المستكفي.. وشاعرات أخريات برزن في شعرنا الحديث أذكر منهن مثالًا وليس حصرًا كلًا من المصريات: وفاء وجدي، ملك عبد العزيز- زوجة الناقد المشهور محمد مندور-، وجليلة رضا.
أقول أعادتني ذكرى هذه الشاعرة الهامة جدًا، إلى تلك الايام العذبة، وانا اقصد ما أقوله، فلست واحدًا ممن عايشوا شاعرتنا الراحلة، ولست ممن عرفوها شخصيًا، وإن كنت أدّعي أنني عرفت أعماقها وتغلغلت بعد قراءتي تلك القصيدة إلى أبعاد روحها القصيّة السحيقة، مستنيرًا بكلمات ما زالت تتردّد في ذاكرتي رغم مضي العشرات من السنين، وهنا أشير إلى نقطتين هامتين جدًا في رأيي، قد يكون في إيرادي لهما دلالة وعمق نحن أحوج ما نكون إليه في فترتنا الفظة الراهنة، إحدى هاتين النقطتين، اننا لسنا بحاجة إلى قراءة أطنان مطنّنة من الشعر حتى نقتنع بأن صاحبها شاعر مبدع ومُجلٍّ، واننا عادة ما نحتاج إلى قصيدة واحدة لنكتشف عالمًا كاملًا متكاملًا من العمق القولي الابداعي، النقطة الاخرى هي أن المكتوب يُقرأ من عنوانه، كما ردّدنا عندما اردنا الاختصار وعدم الاكثار من الكلام واكاد أقول الثرثرة، فاذا ما توفّرت الموهبةُ وجمالية القول، وصلت إلينا بسرعة البرق، وفي لحظة واحدة، وهي بأية حال لا تحتاج للاطلاع على كلّ ما قاله الشاعر.
اطّلاعي على ما كتبته وابدعته الشاعرة لميعة عباس عمارة في قصيدتها تلك" لو انبأني العرّاف"، دفعني للاهتمام بمتابعة كلّ ما تمكّنت من التوصل إليه من إنتاجها الشعري، وبما أننا كنا منقطعين إلى حدٍّ بعيد عن عالمنا العربي وعمقنا الثقافي، إبان تلك الفترة التي تعود إلى الثمانينيات والتسعينيات، علمًا أن وسائل الاتصال الاجتماعي .. بما فيها النت وابنه المخلص غوغل.. لم تكن قد ظهرت، فقد كنت ما إن تقع عيني على قصيدة لشاعرتنا الفقيدة في هذه المجلة أو تلك الصحيفة حتى أسارع لقراءتها، ولفت انظار المحيطين بي إليها وكثيرًا ما كنا نقرأها ونترنّم بها لما حفلت به من حسٍّ انثوي اصيل يضرب في أعماق ثقافتنا العربية، ذلك الحس الذي دفع المستشرق الفرنسي البارز جاك بيرك إلى وصف لميعتنا إنها "شاعرة الرقة والجمال والأنوثة". وأذكر هنا بكثير من المحبة أنني كثيرًا ما اشركت القراء في بلادنا في قراءة ما تمكنت من الاطلاع عليه من قصائدها، فقمت بنشره في صفحة أدبية كنت أحررها آنذاك، في صحيفة الصنارة النصراوية، وقد تعدّى نشري ما وصل إلى يدي ووقع تحت عيني من قولها الشعري المعبّر والمؤثر في العديد من المجلات التي حررتها أو عملت محررًا فيها، مثل "الشرق" الشفاعمرية و"الشعاع" اليافاوية.
اهتمامي بما كتبته وانتجته شاعرتُنا الفقيدة لم يتوقّف إلا ليتواصل، وكان آخر عهدي بها، يوم شرعت بنشر مقالات نثرية جميلة في صحيفة "القدس العربي" التي تصدر في العاصمة البريطانية لندن. لقد كانت مقالاتها هذه مفاجأةً سارةً لي ولسواي من القراء أمثالي على ما اعتقد، ذلك أنها اكّدت أمرين أحدهما أن الطاقة الشعرية الخلّاقة إنما تتأكد في نثر صاحبها الشاعر، أي شاعر، كما ألف القارئ العربي وعرف في نثر كلٍّ من الشعراء المبدعين امثال: نزار قباني، محمود درويش وعبد الوهاب البياتي، طابت ذكراهم. النقطة الاخرى أن ما يتركه الشاعر من قول نثري عادة ما لا يكون مُعادًا، مكرّرًا ومألوفًا، إنما يحفل بطريف القول وعمق التجربة والاطلاع الواسع. تلك المقالات، توقفت بعد نشر "القدس العربي"، عددًا لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، غير انه كان بمثابة اكتمال القمر والايذان بغيابه، بعد دخوله في حالة المحاق، وهو ما قالته الفترات التالية بلسان من حزن واسىً.
رحم الله شاعرتنا فقد رحلت.. في ولاية كاليفورنيا الامريكية.. بعيدةً عن عراقها السعيد وذكرياتها الدافئة فيه، مع الشاعر بدر شاكر السياب زميلها في دار المعلمين البغدادية، وسواه من رجالات العلم والثقافة والابداع الشعري خاصة. السياب الذي ربطته بها علاقة ودّية طالما حدت بها الركبان ورددتها قوافل القول، أشير فيما يلي إلى ما قالته عن علاقتها به في قصيدة عنوانها " شهرزاد" اهدته اياها أيام كانا معًا في الدراسة، ورد فيها:
"ستبقى شفاهي ظِماءْ
ويبقى بعينيَّ هذا النداء
ولن يبرح الصدرَ هذا الحنين
ولن يُخرس اليأسُ كلَّ الرجاء".
لقد رحلت لميعة في مُغتربها الامريكي، وهي تعيش حيرة شاعرة أشبه ما تكون بسمكة أخرجت من بحرها عنوةً، فامتلكتها الحيرة، وقد انعكست حيرتها هذه في واحدة من أخريات ما ابدعته من قصائد، عندما قالت، في قصيدة كتبها اثناء شهر أيار 2019، جاء فيها:
"لماذا يحطُّ المساء
حزينًا على نظرتي الحائرة
وفي القرب أكثر من معجب
واني لأكثر من قادرة؟
أنا طائر الحب
كيف اختصرت سمائي
بنظرتك الآسرة؟".
ـــــــــــــــــــــــــ
*زيادة في الفائدة: عاشت لميعة 92 عاما وصدر لها خلال عمرها المديد ست مجموعات شعرية هي: "الزاوية الخالية" عام 1960، "عودة الربيع" عام 1963، "أغاني عشتار" عام 1969، "يسمونه الحب" عام 1972، و" لو أنبأني العراف" عام 1980، وأخيرًا "البُعد الأخير" عام 1988، وقد كُتبت عنها العشرات من المقالات والقصائد المنشورة والكتب النقدية التي تناولت تجربتها.