صورة للتوضيح فقط - تصوير: iStock-Choreograph
نظرت العجوز حولها ، فرأت كل شيء في الغابة ينبض بالحركة والحياة ، فالزهور الجميلة المتفتحة تتمايل مع النّسيم ، ناشيرة عطرها وأريجها في أرجاء الغابة ..
وعادت العجوز بذاكرتها إلى الوراء قائلة : وقتها لم أكن أجمل فتاة في الدنيا ، بل لم أكن جميلة جدا، لكن الدنيا كانت في عيني رائقة مثل هذه السماء الصافية ، وكانت الحياة جميلة مثل هذه الزهور المتفتحة وتلك الفراشات الزاهية . وقتها كان كل شيء مغردا مثل زقزقة العصافير، وتغريد الطيور..
وسكتت العجوز قليلا ، ثم تنهدت قائلة : أما الآن فلم أعد أحس طعم الحياة .. لقد فارقني الأهل، وذهب الأصحاب والخلان، لقد بقيت وحيدة لأعيش أرذل العمر في هذه الحياة ، خائفة من الغد، وما تأتي به الأيام .. هكذا أنا الآن..
وكانت شجرة التوت تنصت إلى حديث السيدة العجوز ، فتأثرت من كلامها ، وردت عليها قائلة في تعجب : أيتها العجوز الطيبة الطاعنة في السن ، هل تتحدثين مع نفسك ؟! فنظرت إليها العجوز قائلة : وأنت مع من تتحدثين يا شجرة التوت ؟! فقالت شجرة التوت : أنا أتحدث إليك أنت .. ومن الأفضل أن تنصتي إلى حدیثي ، فربما تعلمت منه شيئا .. فضحكت العجوز ، وقالت مستنكرة : وماذا أتعلم وأنا في هذه السن ؟! هييه .. لم يبق إلا حسن الختام ..
فقالت الشجرة : تقولين هذا لأنك يائسة من الحياة ، وتعيشين في فراغ دائم ، فلا تجدين ما تفعلينه .. فقالت العجوز : وماذا أفعل في هذه السن ؟! لقد ربيت أولادي وعلمتهم ، والآن صار لي أحفاد كثيرون .. فقالت الشجرة : هل شاهدت من قبل دودة قز؟ فقالت العجوز : كثيرا ما شاهدتها على شجر التوت من أمثالك، وهي تزحف ملتوية لتأكل الأوراق الغضة .. فقالت الشجرة :طالما أنك تعرفين الدود ، فسوف أعطيك اثنتين ، حتى تشغلي وقت فراغك بتربيتهما ..
فقالت العجوز فزعة : وهل ما زال في العمر بقية ، حتى أشغلها بتربية دود الحرير ؟! فقالت الشجرة : حاولی ، ولن تخسري شيئا .. فقالت العجوز مستسلمة : الأمر لله ، ولكن علميني كيف أربيهما .. فقالت الشجرة : الأمر أبسط كثيراً مما تتصورين .. تحضرين علبة فارغة، وتضعين فيها الدودتين ، وكل يوم تأخذين مني بعض أوراق التوت ، لتطعميهما .. وسوف تجدين في ذلك تسلية لك .. وفعلت العجوز ما أمرتها به الشجرة ، فظلت تخضر أوراق التوت الغضة وتضعها في العلبة باستمرار، وكانت سعيدة وهي ترى الدودتين تنموان بسرعة ..
وذات يوم حدثت مفاجأة أذهلت العجوز، فعندما فتحت العلبة وجدت ورق التوت الذي وضعته بالأمس كما هو ، ولم تجد الدودتين .. تعجبت العجوز ، وتملكها الذهول ، وراحت تتساءل : أين ذهبت الدودتان، والعلبة كانت محكمة الغلق..؟! : وفتشت العجوز العلبة جيدا، فوجدت كرتين صغيرتين ناعمتى الملمس ، ولونهما فاتح جدا فحملت الغلبة وأسرعت إلى الشجرة ، فقصت عليها ما حدث.. فضحكت شجرة التوت ، وقالت: قاعe .. قدميه لا تخافي .. لم تهرب الدودتان لقد صنعت كل منهما حولها شرنقة ، وتقوقعت بداخلها .
فتعجبت العجون ، وقالت: وما معنى شنقة ؟! فقالت الشجرة: الشرنقة هي خيوط دقيقة من الحرير، تلفظها الدودة من فمها ، وتحيط بها جسمها ثم تبقى بداخلها فترة من الوقت.. فقالت العجوز: ولماذا تفعل الدودة ذلك ؟! فقالت الشجرة : بعد أسابيع قليلة سوف تعرفين السر ، ولكن لي رجاء .. اتركي إحدى الشرنقتين كما هي ، وافتحي الأخرى.. وحاولت العجوز فتح إحدى الشرنقتين ، فوجدها قوية ومتينة جدا ، لكنها بعد محاولات تمكنت من فتحها ، ولكن العجوز لم تجد داخل الشرنقة سيوى قطعة جلدية صغيرة لا تشبه الدودة في شيء ، ولذلك حملتها ، وتوجهت إلى الشجرة فقالت لها : لقد مات الدودة ..
فقالت لها الشجرة: صبرا .. صبرا .. المهم أن تتركي الشرنقة الثانية ، ويوما ما سوف أخبرك بما تفعلين .. نفذت العجوز كلام الشجرة ، وفي اليوم المتفق عليه ، فتحت العجوز العلبة بحذر ، فوجدت الشرنقة تنفتح من تلقاء نفسها وتخرج منها فراشة جميلة زاهية الألوان ، ثم طارت بعيدا .. فقالت الشجرة : لعلك الآن تكونين قد تعلمت أن الحياة على الأرض ليست هي النهاية ..فقالت العجوز متعجبة : من كان يصدق أن الدودة التي تزحف على و الأرض ، يمكن أن تتحول إلى فراشة ، وتطير بجناحيها في الهواء ؟! حقا سبحان الخلاق العظيم، مبدع كل شيء بعلم وحكمة ..