يوسف أبو جعفر - تصوير: موقع بانيت وقناة هلا
اللذين يأخذانك بعيدًا حيث يختلط عليك كل شيء. هذا الفيلم اصبح ايقونة منذ الأيام الأولى لعرضه في عام 1994 أي قرابة الثلاثين عامًا وما زلت مشدوهًا كل مرة اشاهد فيها مقطعًا هنا أو هناك.
ولطالما حاولت الفهم، ما السر وراء عظمة وروعة هذا العمل؟ فمن المنطقي أن هناك العشرات وربما مئات الأعمال الفنية التي ترقى إلى هذا المستوى، غير أن أيً منها لم يكتب له هذا النجاح وقسم كبير منها لم يبقى في الذاكرة.
صحيح أن عمالقة الفنانين كانوا هناك ولكن المتمعن في الأمر يعرف جيدًا أن هناك عنصر التشويق وهناك عنصر أساس في نجاح أي رواية هو عامل الأمل، فرغم إتهام الشخصية الرئيس بقتل زوجته ورميه في أصعب السجون إلا أنه قرر ألا يفقد إنسانيته ويبقى محافظًا على نفسه رغم وجوده في مستنقع من الذئاب البشرية، رجل طوَّع علمه وقدراته لتخطي الواقع، ويخبئ الكاتب في جميع مراحل الفيلم أهم شيء حتى من أقرب أصدقاء الشخصية أنه خلال عشرين عامًا كان يخطط للهرب، الهرب إلى الأمل، الهروب أم الخروج إلى الحرية ! لقد شاهد بأم عينيه كيف تقتل الحقيقة أمامه ودليل البراءة المنشود يختفي للمصالح الضيقة.
الموضوع الثاني هو الصداقة الخاصة بين قطبي الفيلم رغم كل الفوارق بينهما جمعهما الإخلاص والقدرة على تخطي العقبات، بعض المشاهد التي جمعت هذين القطبين بين الأمل واليأس والقنوط، بين الشجاعة والذكاء، بين الإفراط والتواكل وبين التخطيط بعيد المدى، لحظات تشعر فيها بقدرة المخرج على تحطيم خيالك ولكن بواقعية ممتازة.
لماذا كل هذا السرد؟ أولاً كل من لم يشاهد هذا الفيلم فليذهب لمشاهدته، ثانيًا نحن نعيش في هذا السجن بقوانين بشرية صرفة، من يعتقد أن السجون تحوي عملاء وخونه وقتلة ومجرمين وطبقات المسيطر والمسيطر عليه وغيرها خالٍ فلينظر حوله، كل تراكيب السجن موجودة في حياتنا اليومية، المظلوم الذي يبحث عن العدل، الذي ينظر ويشرح والمجرم والزاني والقسيس والشيخ، كله في حياتنا، احيانًا في السجن حريتك أكبر من الخارج، في السجن الكبير نخاف السجن الصغير، وفي السجن الصغير لا يوجد سجن سوى النفس البشرية، ولذلك صراع فريمان ليس صراع الذي يبحث عن العفو ليخرج، بل صراع من يريد الصعود إلى الأعلى، إلى تذوق الموسيقى، إلى الحرية بمعناها الذي يتعدى الطعام والشراب والقدرة على التنقل بدون أمر، بل الحرية المخبأة عن الأنظار، تبحث عن العدل الإلهي، ليس البشري وفي قدرة الخالق على تعذيب مأمور السجن وفضحه رغم أنه في المجتمع هو الشريف وهو المأمور، إلا أنه حري به أن يكون في اصغر الزنازين( يطلق على نفسه الرصاص ويموت منتحرًا خوفًا من السجن الصغير).
والسؤال هو كم منا يسكن زنزانة رغم أنه حر طليق؟ وكم صاحب زنزانة طليق يحوم الدنيا؟ قد يبدو الموضوع فلسفياً لكنها الحقيقة، كم تقيدنا عقول تربت على الكذب والدجل والنصب؟ كم نحن مشغولون بالقشور ونحاول في كل حديث إبعادنا عن الحقيقة بحجج واهية؟ كم من القضايا المهمة مدفونة تحت زنازين البيروقراطية والعائلية والقبلية؟ استطيع رسم عشرات الزنازين حولنا، وبعضنا يخشى حتى الخروج من قوقعته وزنزانته التي دخلها برغبته أو عنوة .
وحتى نلتقي، أعتقد ببساطة أن الغالبية العظمى من الناس تتوهم الحرية والسعادة، تتوهم القدرة على القرار، تتوهم العدل والإنصاف، تتوهم في كل من حولها، ولو استطعنا النظر في قلوب الناس لرأينا العجب ولكن الأعجب هو أن ندخل زنازين الحياة برغبتنا وفوق ذلك كله نغني أننا احرار، ننشد ونرقص ونتمايل ونتظاهر نصرخ يحيا العدل الذي أوردنا المهالك، لا نملك الشجاعة لأن نقول بكل صراحة هيّا بنا نتحرر ونحرر عقولنا، لا أملك هنا إلا القول عندما تتحرر العقول سيصبح حديث الغد أمل والعدل واقع والخوف حبيس الزنزانة.