logo

المحامي زكي كمال يكتب : حتميّة الاختيار بين مآسي الوضع الحاليّ وآمال اليوم التالي

17-05-2024 06:49:14 اخر تحديث: 17-05-2024 06:53:36

بينما تتواصل التطوّرات المتسارعة في ساحة الحرب في غزّة والتي انتصف شهرها الثامن تقريبًا، بين قرار للأمم المتّحدة يمنح فلسطين صفة عضو شبه كامل في الأمم المتّحدة وليس صفة مراقب


المحامي زكي كمال - تصوير: موقع بانيت وقناة هلا

 كما كان الأمر عليه حتّى اليوم، وهي خطوة بالغة الأهمّيّة تشكّل مقدّمةً ومبرّرًا لاعتراف دول أوروبيّة منها دول هامّة في الاتّحاد الأوروبيّ كإسبانيا والنرويج وغيرها، بفلسطين دولة مستقلّة، وتفاقم العمليّة العسكريّة الإسرائيليّة في مدينة رفح وسط معارضة أمريكيّة بدأت بإعلان الرئيس جو بايدن وقف تصدير أسلحة دقيقة لإسرائيل، ما أثار زوبعة كبيرة إسرائيليًّا وأمريكيًّا، ثمّ خفّت حدّتها ليصل الإعلان عن استئناف تصدير تلك القذائف الدقيقة مع اشتراط عدم استخدامها في رفح، إضافة إلى ازدياد الشرخ داخل إسرائيل وتعزّز المظاهرات المطالبة باستقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والتوجّه إلى انتخابات مبكّرة خاصّة على ضوء عرقلة أو فشل توقيع صفقة مع حركة "حماس" تعيد الأسرى والمخطوفين المحتجزين، ووسط أنباء عن عرقلتها بشكل مقصود من قبل نتنياهو عبر تصريحات غير مسؤولة، ومطالبة من قبل مسؤولين عسكريّين إسرائيليّين بأن يتّخذ المستوى السياسيّ قرارًا يوضّح وجهة إسرائيل في اليوم الذي يلي الحرب، أو مرحلة ما بعد الحرب، وإلّا ستواصل إسرائيل الغوص في وحل غزّة، يتكرّر الخطأ الكبير، فيه يتمّ تجاهل الصورة الكبرى أو الحقيقة الساطعة والهامّة، ونسيان المؤكّد وهو أنّ هذه الأحداث والتفاصيل الصغيرة، وما يرافقها من مواقف وتعليقات، إنّما هي تندرج في مجال التكتيك الذي يحاول كلّ طرف من طرفي النزاع اتّباعه لتحسين موقفه أو قدرته على المساومة مرحليًّا أو في قضية عينيّة، متناسين أنّ قيمتها الحقيقيّة تكمن في أمر واحد فقط، وهو مدى تأثيرها على الاستراتيجيّات، أي على الصورة الكاملة وبعيدة المدى، وبالتالي ينحصر الحديث في إسرائيل، والمتعلّق بمصطلح اليوم التالي أو ما بعد الحرب، على الجانب العسكريّ فقط دون غيره، أو على الجانب السياسيّ الداخليّ من حيث تأثيره على الوضع السياسيّ الداخليّ وتحديدًا استمرار حياة الائتلاف الحالي، وبالتالي فهو تركيز على التفاصيل الصغيرة، وهي التي تبني في النهاية الحدث الكبير، دون أيّ اكتراث بهذا الحدث، وبكلمات سياسيّة فهي تضحية بالاستراتيجيّة على مذبح التكتيك، وانشغال بالصغائر دون الأهمّ، وهذا ما يفعله السياسيّون بمعظمهم وأصحاب الأقلام والميكروفونات في وسائل الإعلام المختلفة، فاليوم بالنسبة لهم خمر وغدًا أمر.

هؤلاء من السياسيّين والإعلاميّين يتناسون ببالغ الخطورة والأسف أنّ الحقيقة الكبيرة هي في النهاية تجمّع لتفاصيل صغيرة ترسم الصورة كاملةً، وأنّ الحياة السياسيّة وحياة الدول وتصرّفاتها في كافّة المجالات، لا تختلف بشيء عن حياة الأفراد، التي وصفها أنتوني روبنز، المحاضر والكاتب والموجِّه الأمريكيّ، بأنّ "الحياة عبارة عن تراكم، وكل ما نواجهه من نتائج في حياتنا إنّما هو تراكم لعدد لا يحصى من القرارات الصغيرة التي اتّخذناها كأفراد، وكعائلات، وكمجتمع"، وبالتالي وعلى نفس المنوال، إنّ حياة الدول والحكومات وأوضاع مواطني دولة ما أو منطقة ما إنّما هي المحصِّلة لسلسلة لا تنتهي من القرارات التي يتّخذها أفراد هذه الحكومة كرئيسها ووزرائها وإعلاميّيها أو الحكومة بكاملها، وبكلمات أخرى الدولة بكاملها باعتبار الحكومة هي المنفّذة للسياسات والواضعة لها، وهو ما يحدث اليوم في إسرائيل التي ولغاية في نفس يعقوب من جهة، ومن منطلق التعاضد والتكاتف المفروض والمطلوب في حالات الخطر من جهة أخرى، والذي من البديهيّ، ولكن ليس من الضروريّ بل من الخطر بمكان، أن تتّجه فيه أنظار العامّة من جهة وقبلهم أنظار واهتمامات متّخذي وصنّاع القرارات والرأي العامّ، إلى عامل واحد يمكن وصفه بأنّه الخطر أو التهديد الخارجيّ في المكانة الأولى، وليس إلى الداخل واللحمة الاجتماعيّة والمتانة الاقتصاديّة والسياسيّة، وهي عوامل تشكّل مصدر القوّة والمناعة، متناسية وبشكل مقصود العلاقة الواضحة والمباشرة والمتينة بين قوّة الدولة الخارجيّة وقدرتها على مواجهة الأخطار الخارجيّة، خاصّة إذا كانت متعدّدة المصادر والجبهات، وكم بالحريّ إذا كانت سياسيّة دوليّة وإقليميّة وعسكريّة عالميّة وإقليميّة واقتصاديّة عالميّة ومحلّيّة على شاكلة تدهور اقتصاديّ متواصل ومستمرّ لا يمكن التستّر عليه، تكشفه قرارات شركات التصنيف الائتمانيّ العالميّة حول خفض التصنيف الائتمانيّ حاليًّا، والتحذير بأنّ القادم أسوأ، واجتماعيًّا من حيث ازدياد حدّة التنافر والتناقض، بل العداء الداخليّ وتعاظم قوّة الحركات الدينيّة الأصوليّة اليمينيّة التي تؤمن بدولة الشريعة التي تحكمها التوراة، وبالتالي تحكم حدودها الجغرافيّة والعلاقات الداخليّة بين فئاتها، وخاصّة المجموعات والجماعات غير اليهوديّة التي تعتبرها التوراة أقلّ شأنًا وقيمة وحقوقًا، وهي نفسها التي تؤمن أنّ استمرار احتلال الأراضي الفلسطينيّة هو تنفيذ لأوامر إلهيّة، وأنّ إبقاء ثلث المواطنين اليوم ونصفهم خلال عقد واحد بعيدين عن العلم والتعليم والعمل والإنتاج والمساهمة الاقتصاديّة والعلميّة ودون المشاركة في الخدمة العسكريّة، رغم العبر الواجب اتّخاذها من أحداث السابع من أكتوبر عام 2024، إضافة الى علاقتها بالمواطنين العرب، وكلّها عوامل صحيح أنّها تعكس ما تعيشه سياستها الداخليّة، لكنّها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمتانة الخارجيّة للدولة أي بسياستها الخارجيّة وقدرتها على مواجهة الأخطار والتوتّرات الخارجيّة، سواء كانت أخطارًا أو احتمالات عمليّة عسكريّة أو حربًا في غزّة فقط أم حربًا متعدّدة الجبهات تشمل "حزب الله" وربّما الحوثيّين وإيران وربّما انتفاضة جديدة أو صدامات واسعة في الضفّة الغربيّة، وسط بوادر تغيير واضحة، بل سيل من الأدلّة حول تدهور مكانة إسرائيل وتضاؤل تأييدها الأوروبيّ والعالميّ، وتقلّص احتمالات التطبيع مع دول عربيّة، وفوق كلّ ذلك التراجع الخطير في الدعم الذي تحظى به إسرائيل في أوساط الأمريكيّين، ما يذكّرني بقولين للسياسي المشهور هنري كيسنجر أوّلهما ما كتبه من أنّ السياسة الخارجيّة تبدأ عند النقطة التي تنتهي فيها السياسة الداخليّة، وأنّ كلًّا منهما له علاقة بالآخر، ويؤثر فيه ويتأثّر به خاصّة أوقات الأزمات، وهي الحالة الطبيعيّة والصحّيّة، وقوله الثاني إنّه ليس لإسرائيل سياسة خارجيّة بل سياسة داخليّة تتظاهر بأنّها خارجيّة، وهذا هو الخطر بعينه، خاصّة وأّنّه من الواضح لكلّ من في رأسه عينان أنّ إسرائيل اليوم تعيش داخليًّا أكبر وأقسى وربّما أخطر مظاهر الانقسام السياسيّ والاجتماعيّ والطائفيّ والدينيّ وربّما العرقيّ، وهو انقسام يؤثّر على قرارات الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة ويحدّد هويتها، وتحديدًا الانقسامات داخل الحكومة، والتشدّد والضغوط من جانب وزيري الأمن القوميّ والماليّة، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وغيرهما من الوزراء والنوّاب الذين يضغطون نحو استمرار الحرب وتعميق الاجتياح البرّيّ لمدينة رفح بدعوى ممارسة المزيد من الضغط على حركة "حماس" عامّة وقائدها يحيى السنوار خاصّة، حتّى لو كان ذلك على حساب تأخير أو تعطيل صفقة لتبادل المحتجزين والمخطوفين وتعميق الركود الاقتصاديّ والتضحية بأعداد أخرى من الجنود، رغم أنّه قد اتّضح أنّه لا إنجازات عسكريّة تذكر، فالصواريخ عادت لتنطلق من شمال القطاع ووسطه ومن رفح باتّجاه مدن الجنوب كلّها، ودون هدوء في الحدود الشماليّة، ورغم ازدياد الغضب الأمريكيّ والعالمّي والتلويح بمقاطعة عسكريّة ومنع تصدير الأسلحة إلى إسرائيل وقرارات اعتقال محتملة تصدرها محكمة العدل الدوليّة، وخسارة الدعم العالميّ، لكنّها من الجهة الأخرى، مواقف وتصرفات هدفها وهمّها الأوّل مُخاطبة الرأي العامّ الإسرائيليّ وإقناعه أنّ عدم دخول رفح بقّوات مكثفة، يعني أن تخسر إسرائيل شعارها الذي رفعته وهو "النصر المطلق" بل أن تنتصر "حماس"، وأنّ الحديث عن اليوم التالي حتّى بصيغته العسكريّة وهي الصيغة التكتيكيّة المختصرة والخاطئة، هو ضعف وانهزام، فكم بالحريّ الحديث عن اليوم التالي بمعناه الاستراتيجيّ والحقيقيّ، وهو ليس الجانب العسكريّ أو ذلك المتعلّق بالعلاقة مع الفلسطينيّين والدول العربيّة ودول العالم، بل ذلك الأوسع نطاقًا والأهمّ والمتعلّق بضرورة الحديث عن اليوم التالي بكافّة أبعاده الداخليّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتربويّة والأخلاقيّة والتشريعيّة والدينيّة وغيرها، إذا أرادت فعلًا إصلاح الأمر والبدء بالسلام الداخليّ والانطلاق الى السلام الخارجيّ وفقًا للقول المشهور للسير توماس براون: "السلام يبدأ من الداخل charity begins at home " ومن ثمّ الخارج، وأنّ السلام الداخليّ بمعنى ضمان السكينة والهدوء وإزالة الضغائن والأحقاد ورصّ الصفوف وتأكيد الوحدة الداخليةّ، إنّما هو المقدّمة الأساسيّة للسلام الخارجيّ، أي القدرة على التعايش مع الجوار وربّما التنازل لتحقيق سلام ومصالحة، وباختصار تمكين القيادات من اتّخاذ قرارات هامّة تنبع من المصالح الحقيقيّة والعامّة للبلاد وليس من حسابات شخصيّة وضيّقة وحزبيّة. وبالتالي المطلوب من إسرائيل ليس فقط التفكير في اليوم التالي بمفهومه الضيّق عسكريًّا، بل بمفهومه الواسع استراتيجيًّا وشاملًا والأمران سيّان بالنسبة أيضًا لحركة "حماس" خاصّة والفلسطينيّين عامّة.

ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة تتعلّق باليوم التالي، أي الفترة التي تلت الحرب، وربّما الأفضل والأنصع هي تلك المتعلّقة بدولتين لعبتا دورًا أساسيًّا ومركزيًّا في الحرب العالميّة الثانية، مُنِيَت الأولى منهما بهزيمة نكراء بل شبه إبادة جماعيّة وهي اليابان والتي ارتبط اسمها في تلك الحرب باسم "بيرل هاربر"، والهجوم الذي شنّته الطائرات اليابانية (الطائرات المنتحرة - الكاميكازا) على ميناء بيرل هاربر في هاواي والأسطول الأمريكيّ هناك ما غيَّر مجرى الحرب وأجبر الولايات المتّحدة عمليًّا دخول الحرب وبشكل فعليّ، وهي التي تعرّضت اثنتان من مدنها هما هيروشيما وناغازاكي لقصف بالقنابل الذرّيّة نهاية سنة 1945، والتي أدّت إلى قتل مئات الآلاف، علمًا أنّ نصف القتلى بالقنابل الذرّيّة وعددهم 140,000 قتيل تمّ قتلهم في نفس اليوم الذي تمّت فيه التفجيرات في السادس من أغسطس آب عام 1945، وروسيا التي شكَّل ثلجها مصيدة للجيش الألمانيّ ومقبرة لأطماع أدولف هتلر خلال نفس الحرب منتصف أربعينيّات القرن العشرين، والذي أراد احتلال وإخضاع روسيا، باعتباره مقدّمةً إلى فرض الأمر الواقع على بريطانيا والحلفاء وإخضاعهم لشروطه، تمامًا كما كان نفس الثلج من جهة والحرائق من جهة مقبرة لطموحات نابليون بونابرت الفرنسيّ الذي سيطر على موسكو عام 1812، قبل أن ينسحب مهزومًا، حيث خضعت كلّ من الدولتين المذكورتين لترجمة مغايرة بل متناقضة لمصطلح اليوم التالي، جعلت الحرب العالميّة الثانية ورغم نتائجها الكارثيّة فترة حاسمة للغاية في تاريخ اليابان، جعلت البلاد تشهد تحوّلات وتطوّرات هائلة وغير مسبوقة اقتصاديًّا واجتماعيًّا منذ انتهاء الحرب، بعد أن قرّرت القيادة اليابانيّة تبنّي المفهوم الاستراتيجيّ لمصطلح اليوم التالي بمعنى النظر إلى المدى البعيد ومصلحة البلاد عامّة، بعيدًا عن مشاعر العداء والحقد والرغبة في ردّ الاعتبار للدول التي هزمتها والانتقام منها على ما فعلته بها، وإجبارها على التوقّف عن مواصلة الحرب وليس ذلك فقط بل الاستسلام، ومن هنا بذلت جهودًا جبّارة لإعادة بناء اقتصادها ومجتمعها الذي مزّقته الحرب وأنهكه الدمار، واستعادة إمكانيّات النموّ وبناء الاقتصاد، أو بكلمات أدقّ "إعادة الإعمار الاقتصاديّ" الذي تعرّض للتدمير بشكل شبه كامل، وكان على الحكومة اليابانيّة تحمّل تكاليف إعادة الإعمار عبر تبنّي سياسات اقتصاديّة تركّز على تحفيز الإنتاج وتعزيز التجارة الخارجيّة والتصدير، وفوق كلّ ذلك إزالة كافّة الخلافات الداخليّة وجعل اليابانيّين أمّة واحدة يشكّل كلّ فرد من أفرادها عنصرًا فاعلًا ومنتجًا، ورفع شأن التعليم العاديّ والأكاديميّ وتعزيز تماسك النسيج الاجتماعيّ والابتعاد عن المغامرات والنزعات العسكريّة، وبناء علاقات مع الجيران تعتمد التعاون والاحترام المتبادل والسلام وتبتعد عن المعاداة، وباختصار سياسة تعتبر التكنولوجيا الثروة الأهمّ والعامل الأوّل في بناء الدولة بكافة هيئاتها وبمشاركة كافّة مواطنيها دون استثناء، ومن أجلهم ولرفاهيّتهم ومصلحتهم جميعًا دون استثناء، لتعيش اليابان تحوّلات اجتماعيّة وثقافيّة وزيادة في المستويات التعليميّة والتغيّرات العالميّة، وقد تبنّت الطابع الاستهلاكيّ وأسلوب حياة ديمقراطيًّا، وقرّرت التصالح ومن ثمّ التحالف مع الغرب، وتلقّت الدعم منه وخاصّة الولايات المتّحدة التي قدّمت الدعم الاقتصاديّ والتكنولوجيّ وسمحت بتطوير علاقات التجارة الدوليّة، وسادها السلم الداخليّ والاجتماعيّ والمساواة التامّة رغم تنوّع سكّانها بين أغلبيّة يابانيّة وأقلّيّات كوريّة وصينيّة ومئات الآلاف من اليابانيّين من أصل برازيليّ وغيرهم، والديانات البوذيّة والكونفوشيوسيّة وطائفتي الشنتو والزن الشهيرتين.

روسيا التي انتهت الحرب إلى اعتبارها ضمن الدول المنتصرة في الحرب العالميّة الثانية، رغم العدد الهائل من الخسائر البشريّة التي وقعت فيها والتي يقدّرها كثيرون بأكثر من 26 مليون قتيل بين مدنيّ وعسكريّ خاصّة في ستالينغراد ، كان لها تفسير آخر ومغاير لمصطلح اليوم التالي، فهي بدلًا من تطبيق معناه الاستراتيجيّ خاصّة في الشؤون الداخليّة، وتحسين الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل وتوجيه الموارد الاقتصاديّة لرفاهيّة المواطنين وحرّيّتهم وديمقراطيّتهم، ذهبت إلى تكريس وتخصيص معظم ميزانياتها للأغراض العسكريّة وتعزيز الصناعات المتعلّقة بالحرب وإخضاع المواطنين لسلطة دكتاتوريّة وقف على رأسها الحزب الشيوعيّ، الذي سيطر قادته على السلطة والمال والجيش وقمعوا الحرّيّات، وتناسوا أنّ الاتّحاد السوفييتيّ هو تركيب هجين من الجمهوريّات لا بدّ من صيانة متانته الداخليّة ولحمته والمساواة بين مجموعاته ضمانًا للقوّة الخارجيّة، ولم تكتفِ بذلك فحسب، بل اعتبرت أنّ اليوم التالي يعني مواصلة الاعتماد على القوّة العسكريّة وتكريس التكتّلات السياسيّة والمعسكرات الدوليّة والعداوات مع الغرب التي كادت تصل حربًا عالميّة ثالثة عبر أزمة الصواريخ في كوبا وغيرها، ولتأكيد ذلك جاء حلف وارسو الذي تمّ الإعلان عنه رسميًّا في الرابع من أيار عام 1955، أي بعد عشر سنوات بالضبط من انتهاء الحرب العالميّة في أيّار 1945، معلنة بذلك بداية حرب باردة استمرّت أربعة عقود تقريبًا انتهت مطلع تسعينيّات القرن الماضي بتفكّك الاتّحاد السوفييتيّ، بعد أن اتّضح أنّ "تماسكه" الداخليّ كان أكذوبة سببها القوّة العسكريّة وعلاقات الترهيب، وأنّ مواطنيه ما كانوا ولو مرّة واحدة شعبًا واحدًا، بل شعوبًا متناحرة، أخفت أسلحتها وخلافاتها خوفًا وليس طوعًا، والحرب الأوكرانيّة الحاليّة خير مثال ومعها الحروب السابقة في جمهوريّات روسيّة أخرى، آسيويّة وأوروبيّة، لم تنجح القيادة السوفييتية في صهرها في بوتقة واحدة، والنتيجة تفكّك سياسيّ وضعف اقتصاديّ وعلميّ في معظمها وقيادات دكتاتوريّة.
الحديث عن اليوم التالي ما بعد الحرب يلزم القيادات الإسرائيليّة والفلسطينيّة اختيار واحد من النموذجين، فإمّا اليابانيّ الذي يعتمد البدايات من جديد، واعتبار الفشل محفّزًا للنجاح، ويؤكّد أنّ إعادة النظر في المواقف والسياسات هي دليل قوّة ونضج ووضوح في الرؤية وليس عكس ذلك، وإمّا الروسيّ الذي يريد المزيد والمزيد من القوّة ويتوقّع نتائج مغايرة ومختلفة، فاليوم التالي في إسرائيل وتزامنًا مع الذكرى السادسة والسبعين لقيامها، وإذا ما أرادت حكومتها وسياسيّوها النجاح والفلاح، يجب أن يتمّ التطرّق إليه استراتيجيًّا بمعناه الشامل، الذي يضمّ إعادة ترتيب البيت الداخليّ بل ضرورة ذلك، من حيث إشفاء الجهاز السياسيّ والقضائيّ والتشريعيّ والكفّ عن تشريعات تخدم الواقع الحاليّ وتتجاهل اليوم التالي، ومنها قوانين القوميّة والمواطنة وكامينيتس، وغيرها، وتبديل السياسات واعتبار السلام الداخليّ وبعده الخارجيّ مع الفلسطينيّين، ومن بعده التطبيع مع باقي الدول العربيّة وإنهاء حالة الحرب نحو شرق أوسط جديد يعيش فيه الفلسطينيّون والإسرائيليّون كلّ في كيانه المستقلّ، الحلّ لحالتين تكمّلان بعضهما البعض، والنظر إلى المساواة الداخليّة وخاصّة مساواة المواطنين العرب، كمصلحة إسرائيليّة عامّة وليس منّةً من أحد، وحقًّا ديمقراطيًّا يلزم الدولة، والتي يحكمها اليوم الليكود وتواليًا منذ العام 1977، بتوفير خمسة مقوّمات وحقوق لكلّ مواطن، هي المنزل والمأكل والمشرب والعلاج والتعليم، وهي المقوّمات الخمسة التي وضعها زئيف جابوتنسكي مؤسّس الليكود التاريخيّ، إضافة إلى عقد علاقات سلام مع العالم الخارجيّ تخرج إسرائيل من عزلتها وتجعلها أمّة كباقي الأمم لا تعيش على حدّ السيف، يمكّنها من تكريس ميزانياتها للرفاهيّة والتقدّم من جهة، كما يجب أن يشمل اليوم التالي قرارات شجاعة تتّخذها القيادة حول وجهة الدولة، وهل ستتحوّل إلى دولة شريعة وليس دولة يهوديّة وديمقراطيّة كما يريد قانون القوميّة، وليس ديمقراطيّة كما تنصّ وثيقة الاستقلال، وهل ستقبل الدولة بوجود فئات غير منتجة وغير متعلّمة تكون حجر الرحى على عنق تعليمها واقتصادها وصناعاتها، وهو ما يبدو أنّها تريد تكريسه عبر قانون التجنيد الذي يعتبر اليهود الحريديم جماعة فوق القانون تعيش مع كامل الحقوق دون واجبات، وتتمتّع بميزانيّات غير معقولة مصدرها اعتبارات سياسيّة ضيّقة تتجاهل المبدأ والمصلحة العامّة.

الطرف الفلسطينيّ مطالب أيضًا بمفهوم استراتيجيّ لليوم التالي، ينظر إلى الفلسطينيّين في الضفّة والقطاع على أنّهم مجموعة واحدة، فهُم إن شاءت "حماس" أم أبت وإن شاءت "فتح" وغيرهما من القوى أم أبت، شعب واحد، وبالتالي النظر إلى ضرورة تغليب المصلحة العامّة وهي الكيان المستقلّ والرفاهيّة الاقتصاديّة والحرّيّة والتعليم العالي والأمن والأمان، والعيش بسلام داخليّ وصلح خارجيّ، والتحوّل إلى أُمّة كباقي الأمم علميًّا وسياسيًّا وإنسانيًّا، تتغلّب مصلحتها العامّة على مصلحة قياداتها وتكون قدراتها وثرواتها مكرّسة للتقدّم والتطوّر وليس الحرب التي لا تبقي ولا تذر ولا تغيّر من الحال شيئًا، بل تنذر بمزيد من البؤس والمعاناة، وأن يتمّ استغلال الميزانيّات للحساب العامّ وليس الحسابات المصرفيّة الخاصّة، وأن تقرّر هذه القيادات ما إذا كانت تريد السلام الداخليّ أم التحارب والانقسام، وما إذا كانت تريد مجتمعًا متحضّرًا ينعم الجميع فيه بالمساواة والحرّيّة، أم مجتمعًا أصوليًّا يحكم على مواطنيه وأفراده بحياة قوامها التمييز والنار والحديد، ورفع رايات غيبيّة تريد خلافة إسلاميّة ودولة شريعة، وفتوحات تعيد الوقف الإسلاميّ، وفوق كلّ ذلك: هل تريد القيادات الفلسطينيّة لشعبها حقّ الاستقرار والرغد والعلاقات الجيدة مع الدول المجاورة العربيّة والخليجيّة، وشعوب العالم عامّة، والشعب الإسرائيليّ خاصّة؟

ختامًا: هي مرحلة مفصليّة في سياقنا المحلّيّ والإقليميّ، على القيادات فيها اتّخاذ قرارات شجاعة، وهي تستطيع ذلك والسؤال إذا ما كانت تريد حول المستقبل، أهمّها الحسم بين تغليب المستقبل على الماضي والحاضر وتغليب المصلحة العامّة على تلك الخاصّة وتقديس نحن وليس غيرنا، وبكلمات مختصرة، السعي إلى كيانين تحكمهما سلسلة مختصرة لكنّها شاملة، والأهمّ من ذلك قابلة للتطبيق والتنفيذ وليس مئات التشريعات المبتورة وغير المبرّرة التي تعكّر صفو العلاقات والحياة اليوميّة، عملًا بقول رينيه ديكارت: "يكون حكم الدولة أفضل إن كان عندها القليل من القوانين، وهذه القوانين مرعيّة بصرامة" ما يجعل الدولة أحسن حالًا وكذلك مواطنيها بحاضرهم ومستقبلهم، وتكريس الحقيقة التي لا تقبل الجدل إذ إنّ خيارات السياسيّين منذ عقود هي سبب مآسي هذه المنطقة ومعاناة شعوبها، وهي الحقيقة التي قال عنها وينستون تشرتشل: "الحقيقة لا تقبل الجدل. الخبث قد يهاجمها والجهل قد يسخر منها ولكن في النهاية، الحقيقة هي الحقيقة لا تتغيّر"، وبجملة واحدة على القيادتين: الإسرائيليّة والفلسطينيّة، الاختيار بين الحقيقة وهي ضرورة التفكير استراتيجيًّا في اليوم التالي لمصلحتهم أوّلًا، ومصلحة بلادهم وشعوبهم ثانيًا، أو مجانبتها وتكريس الوضع الحالي، بمعنى الغوص في وحل مآسي الوضع الحالي أو التقدّم نحو آمال اليوم التالي، وفي هذا السياق نعود إلى قول الإمام الشافعيّ:
نَـعِـيـبُ زَمَـانَـنَـا وَالْعَيْبُ فِينَا وَمَـا لِـزَمَـانِـنَـا عَـيْـبٌ سِـوَانَـا
وَنَـهْـجُـو ذَا الزَّمَانَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَلَـوْ نَـطَـقَ الـزَّمَـانُ لَنَا هَجَانَا

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .

يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]