logo

‘ يقظة آنا كارنينا ‘ - قصة بقلم : ناجي ظاهر

12-05-2024 14:04:32 اخر تحديث: 15-05-2024 05:14:58

احتضنت الطالبة الجامعية سهاد العبدالله الجزء الأول من رواية آنا كانينا، بحنوّ لا حدود له، وتوجّهت نحو مقعد بعيد.. عن العيون، هناك في أقصى الحرم الجامعي.


ناجي ظاهر - صورة شخصية

لقد سبق لها وان قرأت هذه الرواية وأعجبت بها أيّما اعجاب، الامر الذي دفعها للتوجّه إلى المكتبة الجامعية مجددًا لاستعارتها.. كونها ضربت على وتر حسّاس في نفسها كامرأة مرتبطة برجل عارف متعلّم، لكنه لا يتفهمها ولا يعيرها ما تحتاج اليه من اهتمام.. بالضبط كما تقول الراوية.

تحرّكت عاشقة الرواية وما تمنته من المشاعر المثيرة لكلّ امرأة تريد أن تكون وأن يكون لها حضورها المنشود، متعمّدة أن تجعل شخصًا محدّدًا أن يراه، ذلك الشخص طالب جامعي يدعى جاسر المبدّع، وقد صادف أن التقت به في رحاب المكتبة الجامعية، ولاحظت أنه يوليها اهتمامًا خاصًا، الامر الذي قلّص المسافة فيما بينهما، هما الاثنين، وكان أنها حاولت خلال تقرّبه منها، فيما تلا من وقت.. زياراتها للمكتبة، ابتعدت عنه، وذلك ضمن امتحان عسير له، فهل هو معنيّ بها.. أم أنه مجرّد رجل لاهٍ. مثله في ذلك مثل العديد من الطلاب طارقي أبواب الطالبات الموصدة فهمًا والمفتوحة جهلًا.. صحيح انها سبق وأدخلته غرفة الامتحان العسير، وأنها عرفت بحنكتها النسوية المرهفة ما تود أن تعرفه، لا سيّما فيما يتعلّق بحالته الاجتماعية، فقد عرفت بطريقتها الخاصة، انه متزوّج ولديه أبن بالضبط مثلما لها، غير أنها تعمّدت في ذلك اليوم أن تجري له امتحانها الأخير.. فإما يكرم وإما يهان. فماذا ترى سيحدث؟.. وهل هو تتبعها عن بُعد كما شعرت أحيانا كثيرة خلال ترددها على المكتبة؟..

غرقت الطالبة الام، الشاكية الباكية، في تساؤلاتها المصيرية هذه، فبدت وحيدة مثل شجيرة قرب الطريق.. وحيدة الشكل والقلب.. وكانت كلّما مرّ بالقرب منها طالب مخلّص*، توقعت أن يكون هو جاسر المبدّع وليس سواه، بيد أن ما حدث هو أن العديد من الطلاب قد مروا من حيث جلست، ولم يمرّ هو. بل إنها ابتسمت عندما مرت بالقرب منها طالبة بدا لها أنها تماثلها في الحالة والواقع، واقتربت منها مسترقة النظر إلى آنا كارنينا بيدها، وافتعلت حركة مَن يودّ أن يجلس بالقرب منها إلا أنها افتعلت بالمقابل حركة مَن لا يريد أن يجلس بالقرب منه أحد، سوى مَن يروق له ويريده، أما الحركة، فقد تمثّلت بوضعها معطفها الشتوي الوبري الدافي لصقها. "ترى هل سيفعل جاسر.. مّن فكّرت فيه أكثر ممن فكرت به من زملائها الطلاب مثلما فعلت؟.. لتنتظر وتر.. أما إذا لم يفعل فإنها ستتدبّر الامر، اذ لا بدّ لها من أن تتوصل إلى نتيجة مع ذلك الجاسر المشرئب بعنقه إليها هي وليس إلى سواها من بقية الطلاب.

مضى الوقت في ذلك اليوم الشتويّ البارد، وهي تنظر إلى البعيد، مصمّمة على أن تضع حدًّا لما انتابها من مشاعر تجاه ذلك الشاب المعافى اللافت للنظر، لنظرها هي بالتحديد، بيد أن شيئًا لم يتحرّك بالقرب منها على الأقل، وبقيت منتظرة على ذلك النحو. حتى فوجئت بمشهد استولى على جُماع اهتمامها، ذلك المشهد تمثل بأن جاسر ذاته، نعم جاسرها ذاته قد اقترب من مقعد في ركن شبه خفيّ وبعيد عن العيون، وبرفقته طالب جامعي بدا لها أنه صديقه المقرب أو شيئًا من هذا القبيل، لهذا تعمّدت أن ترى الاثنين وتسمعهما دون أن تمكنهما قصدًا أو حتى صدفة من رؤيتها، اختبأت قريبًا منهما وراحت تستمع إلى ما يدور بينهما من حديث، فقد تعرف ما لم تمكّنها من معرفته اللحظات المكتبية والظروف الجامعية. مرسلة نظرات متسائلة فماذا سيقول كلّ منهما للآخر؟.. وكان أن وقع نظرها على جانب من الجزء الثاني من روايتها الاثيرة. فجنّ جنونها، ولم يمض وقت طويل حتى فوجئت بالاستماع إلى الحديث التالي بين الجالسَين هناك:

الصديق المجهول: ما هذا اراك تحمل رواية آنا كارنينا.

جاسر: نعم الآن للتوّ استعرته من المكتبة.. هذا هو الجزء الثاني من الرواية.

الصديق: الجزء الثاني.. هل قرأت الجزء الأول؟

جاسر هامسًا ومتعمّدًا أن يكون صوته منخفضًا جدًا يقرّب فمه من أذن صديقه.. ويهمس بها.. تفهم مما جرى من تضاحك بين الاثنين، أنها هي محور الحديث، فتفتح اذنيها وتغمض عينيها علّها تكتشف ما أرادت وودّت وأحبت أن تكتشفه منذ ابتدأت علاقتها الغامضة من ناحية الواضحة من أخرى. فهمت سُهاد شيئًا مما جرى بين الاثنين، ولم تفهم آخر، ما دفعها لأن تكتفي بما استمعت إليه، منتظرة أن يكشف لها مُضي الوقت ما غمض من أمر أحبّت أن تعرفه وأن تسبر غوره من أعماق قلبها المُضنى، خاصة فيما يتعلّق بمصير علاقتها به.. لتنتظر.. أجل لتنتظر وتر..

لم تنتظر طالبتنا المُجدّة المجتهدة طويلًا، حتى رأت كلًا من الجالسين يهمّان بالوقوف والانصراف، فأنزلت رأسها وراء شجرة الاختباء، مخفية نفسها هناك. وفوجئت بجاسر يقول لجليسه، وهو يرسل ابتسامة ماكرة: -اركن عليّ.. سأعلم الحمار اللغة الإنجليزية. *.

هكذا انفضّ المجلس بين الاثنين. سوّى جاسر ثيابه المرتّبة.. أحسن ترتيب بالأساس، وتوجّه لمفاجأة سُهاد، نحو مقعدها الأول ذاك.. ذاته، جلس هناك. عارضًا الجزء الثاني من آنا كارنينا. وواضعًا كبّوته الشبيه بكبوتها هناك.. إلى جانبه. اتخذ مجلسه المنتظر لما سيأتي*، والمتوقع له، وبالغ في حركاته تلك، ففتح الجزء الثاني من آنا كارنينا وراح يحدّق فيه، كأنما هو يريد لإنسان وحيد وواحد في العالم أن يراه.. كان هذا الانسان هو.. هي وليس سواها.. هي سهاد العبدالله ذاتها.. بواقعها وحلمها المجنون.

سوّت طالبتنا النجيبة ملابسها واضعة كبّوتها العزيز الغالي على كتفها هذه المرّة.. خرجت من وراء شجرتها، وراحت تتهادى.. تهادي عروس تعرف ما ينتظرها من الآلام المضاعفة.. سارت باتجاهه.. وراح هو بدوره يفتعل عدم الاهتمام، وكأنما هو لا يراها، أما هي فقد اسرعت الخطى عندما وصلت بمحاذاته.. غذت الخطى أكثر.. وعبرت عنه كمن يهرب مما توقعه من مخاطر.. ومجاهل لها بداية وليس لها نهاية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*"آنا كارنيا"، رواية مشهور جدًا للكاتب الروسي المعروف ليو تولستوي. وهي تحكي قصة حب كبيرة تنتهي بكارثة إنسانية.

*لقب السيد المسيح.

*إشارة إلى مسرحية "عودة جودو"، للكاتب الايرلندي ذائع الصيت صموئيل بيكيت.

*تحكي هذه القصة عن ملك بحث عمّن يعلّم حماره المحبوب الاثير لديه اللغة الإنجليزية.. وبقي يبحث إلى أن جاءه مَن يدّعي أنه بإمكانه أن يقوم بهذه المهمة، مشترطًا عليه أن فرصة فرصة عشر سنوات. وعندما سأله صديق له عما دفعه لتلك المغامرة الخطرة. قال له إن العالم في السنوات العشر المطلوبة سيتغير وسوف تتبدّل احواله، فإما يمرض او يموت الملك وإما ينتهي هو ذاته إلى الصير ذاته.