logo

‘ قصّة حبّ نصراوية ‘ - بقلم : ناجي ظاهر

05-02-2024 09:03:40 اخر تحديث: 11-02-2024 06:06:19

حَرص مسعود الاذربيحاني على الوصول إلى محطة الباصات في مركز بلدته الناصرة، يوم الثلاثاء في الساعة الرابعة وخمس وخمسين دقيقة. قبل قليل ودّع صديقه الفنان


ناجي ظاهر

مدعيًا أن لديه موعدًا لا بدّ من تنفيذه في الساعة والدقيقة والثانية.. وعندما تمعّن فيه صديقه محاولًا معرفة ذلك الموعد مع مَن.. أين، لماذا وكيف؟ هرب بعينيه مداريًا لمعة محبة طارت في الهواء واستقرت في عمقهما. إنطلق الاذربيجاني في شارع بلدته الرئيسي على اسم البابا بولس السادس، غاذًا الخطى، لئلا تفوته رؤية مَن مال إليها قلبه. وصعد في الباص المنطلق في مجاهله. في الرابعة والخمسين دقيقة دخل إلى مكتبة في زاوية مخفية.. شيء ما جذبه إلى المكتبة. أخذ يتصفّح مئات الكتب الموضوعة على الرفوف هناك. رأى كتابًا جديدًا لم يره في المكتبة من قبل رغم تردده شبه اليومي عليها، دقّ قلبه بصورة غير مسبوقة.. فقد حمل الكتاب عنوانًا مثيرًا هو" أسرار الحب"، تناول الكتاب احتضنه كما يحتضن عاشق محبوبته أول مرة. نفح صاحب المكتبة ثمنه، دون أن يسأل كعادته عن ثمنه. شيّعه صاحب المكتبة بنظرات متسائلة، فيما انطلق هو إلى محطة الباصات قرب المشبير لتسرخان.

توقف في المحطة ما زال بينه وبين قدومها، كما حصل يوم الثلاثاء الفائت، خمس دقائق. بعدها سيقضي خمس دقائق أخرى تائهًا في حدائق ورد حديثه معها، واستماعه لصوتها المطرب الرنّان. ثلاثون عامًا مضت وهو ينتظر تلك النغمة الصوتية الدافئة. منذ وفاة أمه ورحيلها المفاجئ، وهو ينتظر ذلك الصوت الشبيه بصوتها. هذه المرّة لن يترك وليفته تصعد درجات الباص لتختفي في المتاهات الممتدة في فضاء الشارع، وإنما سيصعد وراءها وسوف يجلس إلى جانبها على نفس المقعد، ليربح مزيدًا من الحضور في مدينته العاقر.

مضت دقيقة وأخرى وهو يحتضن الكتاب ويتعمّد وضعه قريبًا من قلبه. يوم الثلاثاء الماضي في نفس الوقت، لفتت نظره صبية بدا أنها تصغره بسنوات. رأى فيها رمزًا نصراويًا طالما حلم به. فراح يسترق النظر إلى كبّوتها المورّد الدافئ. وسط صمت مريع اخترقه فجأة صوت مخملي. يقول.. إن

الباص تأخر.. ليس من عادته أن يتأخر. تلفّت حوله ليرى إلى مَن توجه ذلك الصوت، فلم يرَ احدا في المحطة. "هي تخاطبني أنا إذًا". قال في نفسه، واطلق صوته تجاهها متعمدًا أن يرفقه برنة هجعت في أعماقه.. ربما انتظارًا لهذه اللحظة الفاصلة في حياته. قال متذاكيًا عادة ما تأتي كلّ الباصات إلا تلك التي ننظرها. حينها التفتت إليه، وجرى حديث بينها وبينه. عرف منه أنها غريبة مهجرة في البلدة مثله. وأنها تحب البلدة مثلما يحبها. خلال دقائق قليلة كانت الباصات تمرّ وهما الاثنين لاهيان في حديثهما الشائق الطلّي. هل صدق جلال الدين الرومي عندما قال إن ما نبحث عنه إنما هو يبحث عنّا في الواقع؟ قال في نفسه، فهاله أن يأتيه صوتها: فعلًا ما نبحث عنه إنما يبحث عنا. هل قرأت أفكاره؟ هل هي قارئة أفكار؟ أم هو مَن ذكر مقولة الرومي بصوت عال. لم يكن هذا هو المهم. المهم أنها أثنت على ما قاله، وأعلنت له اهتمامها به.. بالضبط مثلما أعلن هو أو.. حاول على الاقل. بينما هما الاثنين يتبادلان الحديث، فوجئ بها ترسل نظرها إلى البعيد وتهتف: لقد مر باصي. سأنتظر هنا نصف ساعة أخرى إضافية. نصف الساعة التالية لم تشف غليله وظمأه التاريخي للتحدث إلى ساحرته.. ومضت بسرعة البرق، تاركة في روحه آثارًا لا تمحوهات الايام، ورنة حب قالت له.. إننا هنا.. تنتظرنا أفضل اللحظات فلنكن يقظين. تبادل الاثنان أرقام التلفونات. ومضى كلّ منهما في طريقه، مفكرًا في الآخر. في الساعة الثانية عشرة من تلك الليلة البيضاء، رنّ خلويه، لتكون هي على الطرف الآخر، وليشنّف اذانه بالمزيد من التغريد.. تغريدها البُلبلي المطرب. بعدها انقطع الاتصال بينهما، هي وهو، إلى أن حانت ليلة أمس. فاتصلت به لتخبره أنها ستكون في المحطة غدا الثلاثاء في الساعة ذاتها والدقيقة ذاتها.

تمعن مسعود الاذربيجاني في المحطة لم يكن هناك إلا قلة من المنتظرين. أرسل نظره إلى ساعته اليدوية، لقد مضت دقيقة ثقيلة تلتها أخرى وبعدها أخرى. "ما أصعب الانتظار"، هجس في نفسه. إن الساعة تقترب بعقاربها القارصة من الموعد المحدد لمجيئها، بل إن موعد باصها يقترب وهي لما تأتِ بعد. عندها خطرت له خاطرة جهنمية. فتح كتاب "أسرار الحب" وراح يقلب صفحاته مثلما فعل أبطال قصص الحب الكثيرة التي قرأها في السابق، مرددًا ستأتي.. لن تأتي، وأضمر في داخله أن يصل إلى الصفحة الاخيرة،

فإذا توقفت يد الروليت عندها مرفقة بكلمة لن تأتي أو ستأتي، فإنه سيرضخ للأمر الواقع.. وسوف يغادر حلمه الجميل محتضنًا كتابه وماضيًا في طريق كُتب عليه أن يمضي فيها، برفقة صديقه الفنان، طوال سنوات عمره الماضية. عندما اقترب من صفحات الكتاب الاخيرة شعر أن يده الروليتة ستصل إلى نهايتها مع كلمة لن تأتي، عندها تعمّد أن يُمرّر بعض الصفحات قائلًا لنفسه: ستأتي.

عندما اقترب باصها، باص مَن أيقظت أحلامه من سبات طويل.. خشي دائمًا أن يطول إلى نهاية العمر، ضرب يده على رأسه. وفي اللحظة ذاتها وصل إلى صفحة كتابه الاخيرة لتقول له: لن تأتي. عندها لم يكن أمامه من مفر.. سوى محاولة الاتصال بها، صحيح أنه وعدها بألا يتصل، وترك لها أمر الاتصال به متى تشاء وأنّى تريد، خشية وتوقيًا وحماية لها مما قد يتسبب فيه اتصاله بها من إزعاج متوقع، إلا أن ما حدث الآن يجعله يقف على حافة نهاية مرفوضة وغير مقبولة وتحتاج إلى مغامرة، تعيد ما تشتت من أفكاره إلى مواقعها.. سليمة سالمة. كبس على رقم تلفونها. رن ورن ورن ورن. ليأتيه صوت الراد الآلي، من تطلبه مشغول الآن. بإمكانك الاتصال في وقت تالٍ. وضع تلفونه إلى يساره وكتابه إلى يمينه، وانغرس في أرض المحطة لا يريم أو يتحرك. هي وعدته ولا يمكن أن تخلّ بوعدها، فما الذي منعها من الحضور. أنا متأكد من أنها ستحضر.. لا يمكن أن يكون ما حصل بيننا مجرّد وهم يضاف إلى أوهام سابقة قاتلة. قلبي لا يتحمّل، فهل يتحمّل قلبُها؟

هو لا يمكن أن يستسلم.. سينتظر حتى يعجز الانتظار. وراح يتمعّن في كلّ اتجاه. مَن تلك المقبلة من بعيد. من تراها. أتكون هي قد استبدلت لوكها بلُك آخر يليق بقصة غرام نصراوية؟ ما أسعدني إذا كان ما أفكر فيه صحيحًا. مضت تلك المقبلة قريبًا منه.. دون أن تفوه بأية كلمة. ومرت امرأة أخرى. لقد حان الآن موعد الباص التالي. ماذا أرى.. إني أراها.. ها هي مقبلة تشق حدائق ورد البلدة نحوي.. وها هما هي وهو يعتليان درجات الباص ويجلس كلّ منهما إلى جانب الآخر. ويقلبان صفحات كتاب أسرار الحب.. بشوق ولهفة.. بل ها هي تطبع قبلة ملتهبة على الصفحة الاولى في الكتاب.. ماهرة إياه بشفتين من شهد ولجين.. ووعود تكللها سفرة قصيرة في باص.. بالورود

والرياحين. "اين انت يا صديقي الفنان لترى الآن ما أنا فيه من سعادة وحب". قال وهو يشعر ابتسامة بعرض العالم.. تفترش شفتي الشارع...وصوت صديقه يأتيه من فضاء بعيد.. ألا يمكن أن يكون كلّ هذا وهمًا.. يضاف إلى دفتر الأوهام؟.. حقًا ما تقول يا صديق.. ها انذا اكتشف انه وهم.. لكنه جميل..هلّا انضممت اليه..