logo

‘ وَذَوَتْ لَميحةُ ‘ - بقلم : نمر نمر

21-12-2022 07:18:37 اخر تحديث: 10-02-2023 14:19:29

زوجان من غربان الشّؤم ينعبان فوق رؤوسنا منذ ثلاث سنوات وَنَيِّف،أصرّا على بناء عشّهما فوق شجرة جوز(بيكان) باسقة تشمخ عالياً، وأنا أحاول إبعاد فألهما عنّي،


صورة من الكاتب

رميتهما بالحجارة عن سطح شامخ مقابل،استعملت العصي،فرّاطات الزيتون، المُبيدات الكيماويّة،خراطيم الماء، هما يُصرّان وأنا أصِرّ،احْتلاّ قمة الجوزة عنوة، وتتكرّر المحاولات من الجانبين، وفي غفلة وجيزة ونحن في المشفى،أعادا بناء العش، ربّما للمرّة الرّابعة على التّوالي في موسم واحد،تربّعا فوق عرشهما مجاقرة بنا، بقايا أسلاك كهربائيّة، قضبان حديديّة، عيدان خشبيّة ممّا هبّ وَدَبَّ، وضعت الأنثى بيضتين ملوّنَتَيْن ورخمت فوقهما باعتزاز وشموخ، وواصلتْ نعيبها وشُؤمها،وقرينها شَمّيساً قبالتها يحرسها ناعباً مُحذّراً مُزمجراً ومُهدّداً: الويل لكم اذا اقتربتم ،نحن سلاح الطّيران الذي لا يُقهر، شِئتم أم أبيتم!،طلبتُ من ابني الغالي أن يتسلّق الشّجرة رغم علوّها، واعلم الخطر المُحدق به، زوّدْتُهُ بقضيب حديدي متين،فَنَبَشَ العُشّ، وهوى مع البيضَتَين،حَسِبْنا أنّنا ارتحنا من فألهما ونعيبهما،ووضعنا حدّاً للخطر والقضاء والقدر، عادا في السّنة التّالية من جديد بتهديد ووعيد،لا يخشيان ولا يهابان، بَل يستفِزّان ويتحدّيان بعزيمة،وليس في موسم التّفريخ ، هما ينعبان إصراراً، ونحن نُزمجر ونُطبّل ونقذف الحجارة، وَكَرُّ وَفَرُّ،حرب سجال،وضاقت دنيا الله الواسعة بهما فاغتصبا واحْتَلاّ،كأنّنا نحاول تجنّب مشيئة الله وقدره المحتوم.

طواقم طبّيّة مؤهّلة تتولّى العلاج بمثابرة ومهارة، يبذلون جهودهم المشكورة، تطول فترة العلاج لسنة ونيّف،ورفيقة الدرب تتألّم وتتوجّع، وُشِمَ جسمها بالألوان وَبُقع الدّم، حمراءُ قانيةٌ،وَتَسْوَدّ مُعتمة، ويكلح لونها فاقعاً،ما هذا ! اليدان والرّجلان لم يَعُد بهما مكان لِوَخز الإبر،بقعة واحدة من تُربة الليس النقباوي،تتباعد أطرافها عن المركز،مثلّثات، مربّعات، أشباه مستطيلات، وهي متسائلة ببساطتها المعهودة، وينكْ يا ظِلّلي،هل تركتني مشاعاً، لماذا تتخلّى عنّي، أين جرأتك المعهودة! أأهون عليك لهذه الدّرجة، لا أجرؤ على مواجهتا، أشيح بوجهي ألما وحزنا، أخجل من نظرتها وعتابها الصّادق، وما باليدّ حيلة.

وقُبيل الرّحيل بدقائق معدودات، وهي تنازع وحشرجات وآهات متتالية، خاطبتْ كريمتَها وئام ، المرافقة ليل نهار في مشهد درامي ومأساوي طبقاً لتقاليد الإغريق: يّمّا يا حبيبتي وئام: بَسْ ييجي البوليس،قوليلو ما يْحقّق مع بوكي شيلة! بوكي ما بِخَصّو أبداً، وتعود الرّوح إلى باريها راضية مرضيّة،شهيق وزفير، أغمضَتْ عينَيْها الزّرقاوين السّماويّتين، ضجيج الصّمت خيّم على المكان، مش معقول بِهيكْ بساطة وسُرعة تْصير قي عالَم الصّمت الأبدي، وَتُتَّخذ الإجراءات القانونيّة المألوفة، طواقم إنعاش، تنفّس صناعي مُكَثّف، ولا حياة لِمَن تنادي، ويُقرّ الطبيب حالة الوفاة، يحضر شرطي ليتأكّد: لا علامات عُنف،بل خارطة هيكليّة مُفصّلة لجسم ذاوٍ بعد عمليات انهيار وتآكل وبقايا انابيب بلاستيكيّة لسحب وصرف السوائل، الجسد المسجّى كأنّه شهد زلزالاً خامداً بمقدار تسع درجات بِسُلّم ريختير، الطّبيب يستغرب، والشّرطي يستغرب اكثر، ويُحقّق مَع من كان معها في آخر نصف ساعة،تروي الكريمة وئام ما حدث، وكأن الشّرطي استجاب لطلب سميحة، ولم يُحقّق مع الظّل الضّال، وذوت لميحة كلمح البصر، ولم يُذَوّتُ هذا الظّلّ ما حدث/ يقول هاذياً ضائعاً: يوم وْيومَين، جمعة وشهر وشهرين تِعْبِت في عيني الدّمعة واني تايِهْ وَيْن! وتٌتّخذُ الإجراءات القانونية مع الشرطة، اليوم يوم سبت، ويجب حضور ضابط لإعطاء التّقرير النّهائي، ويا للغرابة لا ضابط مناوب في محطّات الشرطة في ترشيحا، نهريّة، عكّا، كرميئيل ولا صفد، بل في طبريّة فقط،ويُطمئن الشرطي: الضابط في طريقه إلينا،ويطول الإنتطار، ويتأكّد الشّرطي أنّ الوقت سيطول، ولا يُمكن نقل الجثّة إلى بيت الشّعب لإجراء المراسيم الأخلاقية لتشييع الجنازة، وبعد طول انتظار وحرق أعصاب وتوتّر واستغراب، يتعذّر عليه الوصول! يمكنكم أن تستعيضوا عن حضوري بحضور ضابط من أبناء بلدتكم! ويزداد الألم من هذا التّهاون والاستهتار بمشاعر البشر في مثل هذه الحالات!

 ويغمرنا الغانمون والغانمات من مشيّعين ومشيّعات بغنائمهم ،بحُسْن صنيعهم وشهادات الإطراء على روح لميحة/ صبيحة/سميحة/ ربيحة/أمّ فكري،وتتوالى الرّحمات حضوريّاً وهاتفيّاً، من المثلّث والجليلَين ، الكرمل والجولان، ويطول الأجر والتّأجير، ويَشِذّ عن المألوف، الأيّام الثلاثة تمتدّ لعشرة، عدا عن تكبّد مشاق السّفر، وتُجترح شهادات تلقائيّة من روحانيّين وعلمانيّين، بلاغة، استعارة، تشبيهات، مواعظ وّعِبَر، وللنساء دورهن الكبير ندباً ونواحاً وقولاً للتخفيف عن الحسرة واللوعة.

وكلمة عرفان وشكر للذين غمرونا بما جادت به نفوسهم السّخيّة:شطائر، معجّنات،وجبات ومشروبات خفيفة باردة وساخنة،الأمر ضايقنا كثيراً، وجّهنا عليهم كافّة الأنبياء والرّسل أن يستعيدوا ما جادت به نفوسهم المعطاءة، وألاّ يحذو حذوهم الآخرون،ولا من مُجيب، وتنهمر سيول وشلاّلات من العطاء،نطلب، نتضرّع، نستميح العذر،ولا مُستجيب.

من قرية الورود(كفار فرديم) المجاورة لنا/تأتي مجموعة دينيّة عقلانيّة/أكثر من عشرة( منيان)رجال ونساء، كاهن وكاهنة، يطلبون إقامة الصّلاة بالعبريّة على روح الرّاحلة، نحترم مشاعرهم ونُلبّي طلبهم حالاً شاكرين.

في أمسيات الألم والآهات الطويلة أصحو على نواحها وعويلها ونواحها الذي يُفتفت القلب والكبد:

أنا لَابْعَثْ سلامي بِجَنْحِكْ يا نملة/نَمْ لي يا زمان العِزّ نَملي

فَكَّرْتْ هالدّهر بِدوم لي/طِلِعْ خوّان طول المدى

 وتمضي بمرارة ولوعة في قفلة أخرى:

يا طولَكْ طول العود إلْما يْلين/قَلْبَك قسا عْلينا وْما يْلين

أمان إنْ مُتنا بايديكو/شيلونا واجْعلوا قبرنا ع َدرب الحْباب

وتتلوها باستغاثة عميقة:

جَرحْني جرْح جُوّاني في الدّم/وْمْن غُلْبي بْكيت القيح عالدّم

صديق ما ينفعني وانا حَيّ/شو بَدّي فيه عند هيل التّراب

ثمّ لوعة وحشرجة لا وصف لها:

سَكاكِر بيتْهُن بَلا/خَبّرْني صْحابك هون ولاّ غايبين

بَدَوِّر زوايا البيت من غير عادة/بَخَمِّنْ زوايا البيت مْخَبّين الحباب.

 وتخاطب الحفيدات الغاليات:

بالله يا جدّتي عَصّْبيني/وابْعثي ورى أمّي تيجيني

وْمرسالها طوَّلْ عْلَيّي/والبنت ما لها غير ميمتها حنوني.

أثناء العلاج في المشفى الصفدي،زارنا فنّان وزميلته/ يهوديّان مع آلَتَي عزف، طلبا تقديم معزوفات خفيفة لعلّها تُخفّف عنها بعض الآلام.

-قالت: هذا الّلي كان ناقصني، وأشاحت بوجهها تَإنُّ وَتَعِنُّ،ورغم ذلك أسرّا وألَحّا،خيّراني ما أريد سماعه من عزف، قُلتُ مازحاً رغم الألم:معزوفة لموزارت،قالت العازفة بالعبريّة: مالَكْ وْمال موزارت، مِمّا يشكو فريد الأطرش ! وأخذا يعزفان:

يازهرة في خيالي/رَعيتُها في فؤادي

جَنَتْ عليها الليالي/وأذْبَلَتْها الأيادي

وشاغَلَتها العيون//فمات سِحر الجفون

 -ومضى هذان بأدب، هل تطلبان المزيد؟

-الأمر أمركماّ! وإذا بهما يشرعان بِدنْدنة أغنية فيروز:

حَبَّيْتَكْ بالصّيف حَبَّيْتَكْ بالشّتي

نَظرْتَك بالصّيف نظرتك بالشّتي

وعيونَك الصّيف وِعيوني الشّتي

          مَلقانا يا حبيبي.

 ولا أدري إذا أدركتْ لميحة هذه المفارقة!

وتعود لميحة للندب قبل أن يُشقشق الصّباح،صوت خافت، كلمات متقطّعة ما بين الوعي والغيبوبة،وشهقات وزفرات:

غْراب البين غمّض عيوني/وْما بقيتْ أعرف صْحابي

غراب البين كاسات مُرّة/سقاني في إيدو المْشِرّة

وْصِحْتْ من كثرة المَضَرّة/ما حدا يسمع صْياحي

صوت يخبو ،يضمحل، يَبُحُ، يا مين يسمعني:

رُحْنا للقبر نبكي/وْنرجو الحُرّاس

ونقول بالله عليكو/ طاش فينا الرّاس

محبوبنا عندكو رُدّوهْ/ لينا ياناس

قالوا أملكو قطع/ يا حَرْقة الأنفاس.

وتتآكل الذّاكرة عند الظّل الضّال،ويسطو اللصهايمر على المخزون المكنون، ويجترح الخَرَف بقايا البقايا،ويجف الحبر، وتتداعى الأجهزة بشكل مقلق، ويعود العقل الباطني مُذَكِّراً بِنُتَفٍ من ماض بعيد،وتتكسّر القوافي والأوزان، ويخرج الخليل ابن أحمد لِإجازة قسريّة،ليسمح لهذا الضّال بنفثات صدر وبقايا جُمَل،ويطوف في أرجاء البيت باحثاً عن الكنز المفقود قي مختلف الزّوايا والخبايا، ويقول دون توكيد لفظي أو معنوي:

يا عطّارين دِلّوني الصّبْر فين أراضيه

وْلَوْ طلبتوا عيوني خذوها، بَسّ ألاقيه!

 وَتُطِلُّ فيروز صادحة: سَلّم لي عليه/وْقُلّو أنّي بْسّلّم عليه/بوّسلي عينيه/ وْقُلّو أنّي بْوِّسْ عينيه...

ويتربّع عصام رجي أمام ناظرَيْكَ بإصرار:

قطفت الورد من أربع بساتين/سألت الورد بِتُقْطُفْني أنا لْمين/

قُلتْ: يا ورد خُذْ منّي هالوعد يمين/

والله ما أهديك إلاّ إلى أغلى وْأجمل الحلوين.

وتعود الزّهرة الذّاوية لتُذَكّرني من جديد:

مُرِّلَّكْ تِبقى مَرّة/ العيشة مِن بعدَكْ مُرّة!

ويردّ عليها هذا:

 واشرح لها عن حالتي/ روحي العليلة لْأجْلها...

 ويُعزّى ألهذا وأسْرته بمئات المُعّزّين والمعزّيات من أرجاء الوطن،عَرَبٌ وَعَبَرٌ،وتقول الأسْرة المُقلّصة والموسّعة من بنات وبنين وأحفاد وأعمام وأخوال وأصهار وكنائنَ وأقارب، غمرنا الجميع بمعروفهم وأفضالهم.

ويعود ألهذا إلى جرير بن عطيّة:

لولا الحياءُ لَهاجَني/لعادني/ استعبار

و لَزُرْتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزار

وينتهرني ذاك القبّاني العنيد الشّديد! ما بالُكَ تتجاهل بلقيسي:

هْل يا ترى/مِن بعد شَعْرِكِ سوف ترتفع/ السّنابل/ يا نينوى الخضراء/ يا غَجَرِيّتي الشّقراء/يا أمواج دحلة/.... يا عصفورتي الأحلى ويا أيقونتي الأعلى/...

ويقول الظِّلُ الضّال: أرقدي يا لميحة على مهدِكِ الوثير الجديد النّاعم، عسى أن تعودي إلينا بقميصِكِ الجديد وكّافّة الورود والرّياحين بانتظاركِ، والعنادل والبلابل تشدو لَكِ:آدي الرّبيع عاد من ثاني...

وبقيتْ كلماتُكِ الأخيرة يا وردتنا وخميلتنا محفورة تَرِنُّ في آذاننا جميعاً : مِشْ بَسْ أموت تدفنوني ، خلّوني أربع خمس ساعات حتّى الكل يْودّعوني وِيْنَوْحولي !خلّي البيت مفتوح! لا تقطعوا الخميرة من البيت!خَلّولي شجرة زيتون تَيُدْبُغ الثّمر أسو د ع َ إمّو، بَدّي أحَوِّشْها ع َ خاطري وْأطْعَمْها لَلّي بيعّزّو علينا في البلد ،وْلَدار المرحوم أبو سلام عادل أبو الهيجا في طمرة/ الحَدَثِة!

 وها نحن نقول لَكِ وبإذنك : سمعاً وطاعة يا رفيقة الدّرب الموحش، وأُمّ وجدّة الكُلّ! سِتّ الحبايب يا حبيبة... وَقَصَمْتِ ظهورَنا جميعاَ،وتداعى عمود البيت،وصار جسدُكِ فسيفساءَ للفحوصات الطّبّيّة،وتلاشى الدّمُ، وفرغت الأوردة وتصدّعَت، واستغرب الطّاقم الطّبّي هذا الجفاف والقَحْل، وانشطر المركب، وانكسر البحر وهاج ولا مجال للنجاة بعدكِ، وْيا عطّارين دلّوني الصّبر فين أراضيه! وْلَو طلبوا عيوني خُذوها بَسّْ ألاقيه!

وعُدْتُ للمُذَهّبات: لِخولةَ أطلال...أمِنْ أمّ أوفى دِمْنَة...

وَصَرَعْنا الكورونا معاً في جولاتها ،وَصَرَعَنا القَدَرُ المحتومُ!!

وظلّ البنون، البنات والأحفاد يُرتّلون:

أحِنُّ إلى خُبز أمّي وقهوة أمّي....