صورة شخصية - ناجي ظاهر
وكانت كلّما اصطحبت صديقاتها الجميلات لتجلس بين الزهور والطيور على حافة النهر، تفاجأ بالرجال، الراغبين في ودّها، يتهافتون على المكان طالعين من كل فضاء وشجرة. كان هذا يرضيها بالطبع، ويدفعها لأن تغمز بعينها لصويحباتها، غمزة العارفة الفاهمة، وكانت تعرف أن كل العابرين إنما كانوا يفتعلون المرور من هناك حيث هي ورفيقاتُها، وفي نيتهم أن يروها وأن يمتّعوا انظارهم بما اتصفت به من حسن.. ودلال. زاد في جمالها الفتّان رجاحة عقل وفكر عزّزه الرضا عن النفس وأضاف إليه أفضل الخصال.
كانت جميلة وهذا هو اسمها، اسمًا على مسمى، وكانت بحاسّتها النسائية المرهفة تعرف أن العشاق يتهافتون على بابها الورديّ.. إما لجمالها وإما لصيتها الذي انتشر في المنطقة انتشار النار في الهشيم فبلغ منخفضات السهول واعتلى مرتفعات الجبال.. ومع هذا طالما ردّدت لنفسها بنوع من الاسى ..آه لو كنت أقل جمالًا لوجدت من يحبّني لذاتي وليس لجمالي. كانت جميلة مثلها في هذا مثل أي فاتنة خلبت الالباب وشغلت الشيوخ والشباب، قد رسمت في ذهنها صورة لمن تمنّت أن يكون شريكها في المحبة والحياة.. بل إنها لم تخف بينها وبين نفسها على الاقل، أنها تتمنّى ذلك اليوم الذي يظهر فيه ذلك العاشق المنشود لتنعم بالحياة.. فالزهرة تحتاج إلى من يراها وإلى من يهزّها ليتضوّع أريجُها أكثر فأكثر في الأمكنة.. بيابستها ونهرها.
كما يحدث في القصص والحكايات أطلّ ذات أصيل مَن تمنّته ورسمت له صورة في خيالها، كان شابًا يتدفّق فطنةً وحكمةً. لم يكن قاصدًا أن يمر من حيث تمكث في عالمها المدهش، وإنما كان يبحث عن عشبة وصفها له الاطباء علاجًا لأمه المريضة. هكذا شغل ذلك الشاب عقل جميلة وفكرها، فراحت تتتبّع أخباره دون أن تشعر أي من صويحباتها، فقد اعتقدت دائمًا أنه من شأن الانسان المحب المغرم أن يحيا تكتّمه لأن الناس يفسدون الاشياء الجميلة ولأن النساء خاصةً لا تحسد إحداهن قرينةً لها على جمال أو مال.. وأنما تحسدها على رجل محبٍّ يسعدها ويتعامل معها بود وإخلاص. بعد تتبعها له مدة من الزمن تأكدت من أن ذلك الشاب هو مرادها وبغيتها واستدلت على هذا من حبّه لأمه، فلولا حبّه الغامر هذا لما قطع الصحاري والفيافي والتلال باحثًا عن تلك العشبة النادرة القادرة على شفاء أمه. ماذا يعني هذا؟ يعني أن المحبة لها جذورُها الضاربةُ في أعماق الواحد منّا. "حب الانسان لأمه هو مقياس حبّه للحياة" قالت لنفسها.
بقي حالُ جميلة على ما هو عليه إلى أن كان يوم وحملت إليها تغريداتُ الطيور خبرَ عثور ذلك الشاب على عشبته النادرة، وعلمت من تلك التغريدات أن أسمر، وهذا هو اسم الشاب، قد عاد حاضنًا عشبته، وجلس ليستريح على حافة النهر.
تسلّلت جميلةُ إلى هناك وراحت تتجوّل بين الزهور والطيور، مفتعلةً عدم الالتفات إلى أسمر، وموحية أنها لا تراه، وبقي الشاب غارقًا في حُلمه وفرحه متصوّرًا أن الصحة المفتقدة ستعود إلى أمه بعد أن طرق المرض اللعين باب جسمها ورُوحها، ورفع أسمر نظره في ومضة كونية لامعة، فشاهدها تتنقّل بالقرب منه، عندها همّ بالاقتراب منها والتحدّث اليها، إلا أنه لم يشأ أن يكون متطفّلًا عليها، فارتدّ إلى حيث كان. "ما أجمل هذه المرأة.. آه لو تمكّنت من التحدث إليها"، قال أسمر في نفسه. وبينما هو يكاد يشتعل اهتمامًا بها، لم تكن هي أقلّ رغبة منه في التحدث إليه، وحدث.. خلال ثوان ما قرّب بين جميلة وأسمر، فقد تسبّب انشغال كل منهما بالآخر في نوع من الغياب عن الوجدان، الامر الذي تسبّب في أن تزل قدم أسمر فيسقط في النهر. هنا حانت اللحظة المناسبة للقاء فراح أسمر يغالب الماء ليخرج منه.. في حين هرعت جميلة إلى الماء وقفزت إليه.. بعد مُعاركة قليلة للماء كان كل منهما، جميلة وأسمر، يستلقي على الحشائش الخضراء، وفي عينيه أكثر من سؤال.. وأكثر من أمل.
ران على المكان صمت لم يقطعه إلا صوت جميلة يقول" كدت تغرق. ألا تتقن فنّ العوم؟"، ردّ أسمر " بلى فأنا عوّام من درجة مميزة.. لكن لا أعرف ماذا حصل.. لم أكن هنا"، "كنّت تفكر في أمك وفي عشبتك النادرة؟"، سألته جميلة في محاولة للتخفيف مما فرضه الموقف من حرج"، ابتسم أسمر وكاد يقول لها إنه إنما كان يفكر فيها، إلا أنه لم يقل. أحسّت جميلةُ بما أراد أن يقوله أسمر، فأثار مكامن حبورها وسرورها، "الحبُّ لا يتكلّم.. بقدر ما يُحّس"، قالت وهي تغمض عينيها على أروع المشاعر في الوجود.. مشاعر الحبّ الصافي.. الحبّ الذي يلوح لأهله المنتظرين كما تلوح الشمّس في يوم غائم أو كما يلوح القمر في المحاق.
لم يكن الاثنان، جميلة وأسمرها، بحاجة إلى الكثير من الحكي، كان كل شيء واضحًا بينهما، هي رسمت له صورة وعثرت عليها، وفي المقابل هو رسم صورة لها وعثر عليها.. على ما يبدو. لهذا لم يجد كلٌّ من جهته صعوبة في أن يمسك بيد الآخر وأن يمضي في طريقه..
مضى الاثنان في طريقهما غائبين عن الوجدان وكلّ ما يحيط بهما من زهور وطيور يرسل ابتسامة تلو أخت لها، بل إن الاثنين لم يتردّدا في تحويل الابتسامة الحيية إلى ضحكة مجلجلة فقهقة كونيّة.
لم يسأل.. لا جميلة ولا أسمر إلى أين يمضيان. كان من الواضح أن المحبّة لأم أسمر ملأت عالمهما وأن الرغبة الجارفة في شفائها حملت كلًا منهما على أن يمضي باتجاه بيت أم أسمر.. تقوده حاسّته المرهفة في أن تشفى تلك المرأة الحبيبة العليلة، وأن تبتسم الزهور في غابتها المرهقة.
بينما هما، الاثنين أسمر وجميلة، يقتربان من الكوخ المُتعب المرهق المستلقي بين الاشجار، سرى الدم حارّا في عروق أم أسمر. شعور غامر بالحياة راح يدقُّ أبوابً قلبِها.. فنهضت من سريرها الزهريّ، وتوجّهت نحوَ نافذةِ كوخِها. رأت هناك في الفضاء الرحب الطيورَ تغرّدُ على الاغصان، ولفت نظرها وردةٌ تلامس اخرى قريبةً منها بودٍّ وحبّ، وفي القرب منهما رأت عصفورًا يقتربُ من عصفورةٍ وقفت قريبةً منه مناغيًا إياها بأعذب الالحان. كان المنظرُ قُبالتها ساحرًا مبهرًا، وكأنما هو مشهدٌ من الجنّة. في تلك اللحظة لاحت في مخيّلتِها صورةُ ابنها أسمر فردّدت دونَ شعورٍ منها:" أين أنت يا أسمر.. أين أنت يا أسمر؟"، وبينما هي تعيش هذا الاحساس بين الفرح لما تراه عيناها وكأنما هي تراه أول مرّة، وبين الاسى كأنما ابنها أسمر غاب دهرًا، في رحلته لإحضار تلك العشبة النادرة، انتابها شعورٌ فريدٌ بأن تلك اللحظة هي الاروع في حياتِها وبأن ذلك اليوم هو موطنُ أملِها وناشرُ فرحِها. غابت أم أسمر في هواجسِها وأفكارِها هذه... إلى أن التفتت إلى حفيف أقدامٍ خفيفةِ الوطء تقترب من كوخها.. بحاسة الام المرهفة أيقنت أن القادم إنما هو ابنُها فلذة كبدها. ولم يخطئ حدسُها هذه المرة بالضبط كما اصاب دائمًا..
اقترب أسمر وجميلة من نافذة الكوخ.. فتعالقت الأيادي بشغف وشوق وفاضت العيون بما ادّخرته من لهفةٍ إلى تلك اللحظة.. لحظة الحب الصافي المنشود.. فهمت أم اسمر القصة من مبدئها إلى تألقها وهي لمّا تزل في نافذة الكوخ.. كوخها.. ولم يكن أسمر بحاجة لتقديم عشبته النادرة لإشفاء أمّه.. فقد شعر أن والدته شفيت عندما رأت عشبته النادرة الحقيقية.. جميلته.. تحلّق مثل فراشة ساحرة الالوان في كوخها.. قدّم أسمر وجميلة عشبتهما إلى غاليتهما الحبيبة.. بيد كادت تكون واحدة.. تناولت أم أسمر العشبة وقذفت بها من النافذة قائلة لسنا بحاجة إليها ما دامت جميلة قد عرفت طريقها إلى بيتنا.. وأضافت وظِلّ ابتسامة من عالم السحر تلوح على محياها.. اللعنة على المرض و.. البُعد.
البداية والنهاية.. قصة العشبة النادرة نموذجا
تكتسب الكلمة الاولى- البداية. والكلمة الاخيرة- النهاية، في القصة أهمية خاصة لدى الكتّاب والقراء على حد سواء، وقد أولى الكتاب الكلمة الاولى أهمية خاصة حتى أن كاتبًا مثل الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز، صاحب رواية" مائة عام من العزلة"، قال في أكثر من تصريح أدبي له، إن المشكلة الاساسية التي يعاني جراءها قبل الشروع في الكتابة، هي الكلمة الاولى.. فإذا ما حضرت هذه الكلمة، بات البدء في الكتابة سهلًا ميسوًرا، وللتوسع في مسألة البداية أشير إلى دراسة هامة جدًا حولها، للكاتب المفكر ادوارد سعيد، أما فيما يتعلّق بالكلمة الاخيرة في القصة، فإنها يُفترض أن تجمع خيوط القصة في حزمة واحدة لتلقي بضوئها على كلّ ما تناثر من خيوط في القصة، وقد أطلق الدارسون الادبيون والنقاد على نهاية القصة صفة معبرة هي: لحظة التنوبر.
غني عن القول ان بداية القصة تهيء، في العادة، الجو لما يأتي بعدها، بمعنى أن الكاتب يحرص على اختيار الكلمة الاولى بألمعية وتحسّب، فهناك أكثر من معنى لكلمة دخل مثلًا. منها ولج ، دلف، عَبر وتسلّل وما إليها من كلمات تفيد معنى الدخول. هكذا نلاحظ أنه يُفترض في الكاتب أن يكون واعيًا لوضع الكلمة الاولى في قصته تمام الوعي ..أما فيما يتعلّق بالكلمة الاخيرة في القصة فيفترض أن تكون إضافة إلى تنويريتها المشار إليها آنفًا.. معبّرة عن مُجمل ما أرادت القصة أن تتمحور حوله وربما أن تقوله، وهناك رأي طريف لشكلاني روسي بارز هو شكلوفسكي، يقول ما مفاده، إن القصة، أشبه ما تكون برحلة جبلية تنتهي بالوصول إلى القمة/ النهاية.. لننظر خلفنا فيهولنا ما قطعناه وما خلّفناه وراءنا من مسافات واسعة شاسعة، وقد لا نستطرد كثيرّا أذا ما أشرنا إلى أنه يوجد هناك نوعان من النهايات، إحداهما مُغلقة وهي التقليدية، ويغلب عليها الطابع التعليمي عادة، والنهاية المفتوحة، وهي التي تتعامل مع قارئها بشفافية أكثر وتتيح له الامكانية لأن يكون مشاركًا في عملية التخييل القصصي، وفي تصور النهاية التي يراها مناسبة من وجهة نظره، وقد تعامل معظمُ الكتّاب الجادين في العالم مع هذا النوع الاخير من النهايات.. لقد شغلت النهايات الكتاب، حتى أنه يقال إن الكاتب الامريكي ذائع السمعة والصيت ارنست همنجواي صاحب الرواية المعروفة عالميا "الشيخ والبحر"، كتب نهاية قصته المعروفة أيضًا وأقصد بها "الشمس ستشرق أيضًا". أربعًا وثلاثين مرة. وهناك الكثيرون من الكتاب الذين شغلتهم نهايات أعمال أدبية لهم، أشير منهم إلى الكاتب الالماني برتولد بريخت الذي وضع نهايتين مختلفتين لواحدة من مسرحياته المشهورة.
قصتي.. العشبة النادرة نموذجًا
حرصت في هذه القصة على أن أبدأ بوصف جميلة الجميلات لغرض قصصيّ في نفسي.. بعدها انتقلت للتحدّث عن أسمر الذي وفد للبحث عن العشبة النادرة. التي تحتاج إليها والدته المريضة للشفاء مما المّ بها من مرضٍ مستعصٍ. بعدها جمعت بين الاثنين متوسّلًا بحادث قصصي متخيّل.. وأنهت القصة بعودة أسمر وبرفقته جميلة إلى حيث والدته.. الوالدة تستقبل الاثنين بترحاب ومحبة.. تنسى مرضها.. تقذف بالعشبة النادرة التي احضرها لها ابنها أسمر.. وتقبل على محبوبيها المقبلين.
يرى الاخوة القراء أنني ابتدأت بوصف جميلة الجميلات.. العشبة النادرة. بعدها أخذت بالتدرّج رويدًا ريدًا، كما تتطّلب القصص. وأنهيت القصة بعودة أسمر إلى أمه وبرفقته عشبته النادرة. جميلة الجميلات. القصة تنتهي باستقبال الام لغالييها الحبيبين، ابنها أسمر وحبيبته جميلة. هكذا أنهيت القصة دون شرح أو تفسير. تاركًا الامكانية لقارئ القصة لأن يتخيّل ويشارك بالتالي في إعادة صياغة القصة.. وربّما في وضع النهاية المناسبة من وجهة نظره.
هكذا يرى الاخوة القراء أنني ركّزت في بداية قصة العشبة النادرة على جميلة الجميلات وتدرّجت رويدًا رويدًا حتى وصلت إلى أنها هي العشبة النادرة التي احتاج إليها أسمر.. وقبله أمه.