رانية مرجية - صورة شخصية
تبدو قصيدة «في موطني» في ظاهرها قصيدة وطنية، لكن عند الاقتراب منها تظهر طبقة أعمق، تكشف أنّ النص لا يكتفي باستدعاء الوطن كموضوع، بل يعيد صياغته كـ كائن حيّ يتقاطع مع الذات في لحظة عاطفية مشحونة.
هنا، يصبح الوطن مرآة متبادلة: تعكس الروحُ وجعه، ويعكس هو معناها.
هذا النوع من القصائد لا يتأسس على الخطاب المباشر، بل على تجربة وجودية تضع الشاعرة داخل علاقة متوترة بين الانتماء والخذلان، الحنين والفقد، وذاكرة لا تهدأ.
⸻
1. البنية الداخلية: وطنٌ محمول في الوجدان
النص لا ينطلق من توصيف خارجي للوطن، بل من إحساس باطني يفيض من الشاعرة:
في موطني شجنٌ يجتاحني…
هذا الشجن ليس حالة عابرة، بل هو مركز ثقل القصيدة؛
إنه نقطة البدء التي تُبنى عليها بقية الصور.
الشاعرة لا تعلن انتماءها، بل تتذكّره،
ولا تبكي على وطنها، بل تسكنه وتعيد تأثيثه وفق مشاعرها.
إننا أمام وطن داخلي،
وكلّ ما يرد في القصيدة هو إعادة بناء لهذا الوطن من الداخل إلى الخارج، لا العكس.
⸻
2. القيثارة كرمز مركزي: الموسيقى بوصفها خلاصًا
اختيار القيثارة ليس اعتباطيًا.
في الديوان «قيثارة الأصيل»، القيثارة ليست أداة عزف فقط، بل امتداد لصوت الشاعرة.
هنا، يتحوّل العزف من فعل موسيقي إلى فعل وجودي:
• القيثارة سهر
• أوتارها نغم
• لحنها قبس
• عزفها غزل
هذه السلسلة تقدم القيثارة كـ”وسيط” بين الشاعرة ووطنها.
إنها تعزف ما لا يقوله الكلام، وتنقل ما لا تحتمله العبارة.
وكأنّ الشاعرة تقول:
حين تخذلني اللغة، تنقذني الموسيقى.
⸻
3. تقاطع الغياب مع الضوء: جدلية الفقد والأمل
في العديد من القصائد الوطنية، يكون الحنين مظلّة واسعة تظلل النص.
هنا يتجاوز الحنين وظيفته الكلاسيكية ليتحوّل إلى ديناميكية نفسية.
في البيت:
قد كان في سفري يا قاتلي قمرٌ
يرنو إلى بلدي، في نوره غزلُ
القمر ليس مجرد صورة رومانسية،
إنه عين الوطن التي تتابع الشاعرة حيثما ذهبت.
الضوء يرافقها، يرشدها، ويعيد لها الإحساس بأن الوطن ليس خلفها فحسب،
بل يمشي معها.
وهذه من أجمل طبقات النص:
الوطن ليس مكانًا بقيت فيه،
بل نورًا حملته معها.
⸻
4. حضور الأحبة: الوطن بوصفه ذاكرة ووجوهًا
في القسم المتعلق بالأحباب:
أحبابُنا رحلوا… لكنّهم أبدًا في قلبنا شُعَلُ
هنا يتحوّل الراحلون إلى “شُعَل”،
أي أنّهم لا يغادرون الدور، بل تتبدّل أدوارهم:
من أحياءٍ يسكنون الواقع
إلى ضوءٍ يسكن القلوب.
هذه الثنائية بين الغياب والحضور تنقل النص من الحنين الساكن إلى الحنين الفاعل—الذي يصنع معنى، ويمنح الشاعرة القدرة على الاستمرار.
⸻
5. اللغة: بين الصفاء العاطفي والاقتصاد التعبيري
تتميّز اللغة بالاعتدال، وهو أمر نادر في الشعر الوجداني.
فلا هي منغمسة في الزخرف حتى تفقد صدقها،
ولا هي مباشرة حتى تفقد شعريتها.
الشاعرة تستخدم لغة “شفيفة” تتكئ على:
• صور بسيطة
• إيقاع منتظم
• مفردات منتقاة
• وتناغم بين الموسيقى والمعنى
هذه الشفافية تزيد من قرب النص إلى القارئ،
وتجعله نصًا “يُقرأ ويُسمَع” في آن واحد.
⸻
6. القيمة الفنية داخل الديوان
قصيدة «في موطني» ليست نصًا معزولًا؛
بل هي واحدة من النصوص التي تحمل بصمة الديوان:
الموسيقى كهوية،
الوطن كركيزة،
والجرح كنافذة يرى القلب عبرها نفسه.
إنها قصيدة تصلح أن تكون مفتاحًا لقراءة الديوان بأكمله،
لأنها تجمع بين:
• حميمية العاطفة
• رصانة البناء
• ومتانة الصورة الشعرية
⸻
خلاصة القراءة – بقلم رانية مرجية
تقدّم قصيدة «في موطني» رؤية شعرية تنقل الوطن من سطحية الخطاب إلى عمق التجربة الإنسانية.
إنها قصيدة لا تشبه نشيدًا جماعيًا، بل تشبه اعترافًا فرديًا ناضجًا،
تضع الوطن في موضعه الحقيقي:
داخل القلب لا على الخريطة.
قصيدة تجمع:
• وجعًا لا يتصنّع،
• وموسيقى لا تتكلّف،
• وحنينًا يستمدّ قوته من الصدق لا من البلاغة.
وبذلك تُثبت الشاعرة روز اليوسف شعبان أنّ صوتها الشعري قادر على إعادة صياغة الوطن كما تشعر به،
لا كما نُطالب عادةً بأن نراه.
