المحامي زكي كمال
فهي شاملة واسعة وعامّة تحمل تفاصيل كبيرة تتجاوز حدود شرح الحالة الخاصّة إلى وصف الحالة العامّة، ملخّصها فهم السيرورات وتوالي الأحداث، وهو ما يجعلها دائمةً باقية، تصمت أو يصمت قائلها مجازًا سنوات طويلة، لكنّك تكاد تسمع صوتها ينطلق عاليًا جرّاء، أو في أعقاب أحداث معيّنة، لتنهض هذه الأقوال كالعنقاء من الرماد تنفض غبار السنوات ، لينكشف بريق معانيها، بل تكاد تسمع صوت قائلها ينطلق عاليًا، وكأنّه ما زال بيننا، وهذا هو الحال في أيّامنا الحاليّة التي تشهد أحداثًا عالميّة متسارعة، سمتها في العالم برمّته، ألّلهم إلا ما ندر، قيادات اعتقدت أنها مركز العالم، وليس فقط مركز اتّخاذ القرار السياسيّ في بلادها، أو أنها تلك القيادات ذات المعرفة المُطلقة فلا حاجة للتشاور، أو النصيحة، وصاحبة القرار المطلق فلا حاجة لها للإصغاء في أحسن الحالات، أو أنها تتعمّد الإصغاء لتلقّي المشورة، ثمّ تفعل العكس دائمًا. وهي قيادات وتصرّفات تجعلني أكاد أسمع صراخ المفكّر سقراط، وهو الذي رغم عبقريّته ورزانة عقله وصلابة حجّته، قال عن نفسه:" كلّ ما أعرفه هو.. أنني لا أعرف شيئًا"، أو كلمات الفيلسوف اليونانيّ أفلاطون قال إن القيادة السياسيّة إنما تستمدّ صلاحيّة ومسؤوليّة وحقّ إدارة شؤون الدولة، أيًّا كانت، من شرعيّتها العلميّةـ وبكلمات أخرى، مستواها العلميّ والإداريّ وحنكتها، المبنيّة على معايير واعتبارات العلم والمعرفة، والتي قال عنها الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو الفرنسيّ إنها قائمة على سلطة المعرفة، والتي بمعناها الواسع تعني الحنكة والفهم والإدراك وحسن اتّخاذ القرارات، وحسن الاستماع إلى الآراء المختلفة عامّة والمخالِفة خاصّةً، وإيلاء المصلحة العامّة وحياة البلاد والعباد الأهميّة الأولى ومكان الصدارة، بمعنى أن يكون السياسيّ حكيمًا يجيد إدارة الأمور، وتفادي الأزمات وتغليب المصلحة الكبيرة على الاعتبارات الصغيرة، وهو ما يسمّيه أفلاطون السياسيّ الحكيم، وليس السياسيّ الذي تكاد كافّة تصرّفاته تقول إن المهمّ هو الصّناديق، وبتعابير العصر الحالي الشعبيّة، رضى القاعدة الانتخابيّة ونتائج الاستطلاعات القريبة، أو تنفيذ أيديولوجيّات سياسيّة غيبيّة عفا عليها الزمان، أو أجندات القيادات الدينيّة الأصوليّة دون تفكير ولا تمحيص، ولتذهب المصلحة العامّة والحكمة السياسيّة إلى الجحيم.
ما سبق يحضرني إزاء الحالة المزرية التي تشهدها الحلبة السياسيّة العالميّة، والتي انحدرت في السنوات الأخيرة إلى درك غير مسبوق، يفتقد العالم فيه قيادات حكيمة وسياسيّين حكماء يملكون من الرأي أرزنه، ومن الشجاعة القدر الكافي لاتّخاذ قرارات حكيمة حتى لو كلّفهم ذلك خسارات سياسيّة شخصيّة وحزبيّة ضيّقة يقابلها الربح العامّ لبلادهم ودولتهم، أو الجرأة للاعتراف بالخطأ، حتى لو كانوا على ثقة أنه سيكلّف شعبهم الويلات والمعاناة، وربما سيكلّفهم حياتهم ليس مجازًا بل فعلًا، حتى أن المشهد السياسيّ العالميّ بتصريحات أفراده والمسمّين قادته، تحوّل من ساحة سمتها المسؤوليّة والعقل والتفكير المنطقيّ، قبل اتّخاذ أيّ قرار أو إطلاق أيّ تصريح، أو الإقدام على أيّ خطوة، ووزنها حقّ وزنها تفاديًا لما لا تحمد عقباه من نتائج عامّة، وقبل كلّ ذلك السعي إلى الأفضل العام وليس الشخصيّ، إلى ساحة أشبه ما تكون بساحات وسائل التواصل الاجتماعيّ، يسودها الصراخ والصخب والشعارات الرنّانة والخطابات الحامية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بل تزيد من عمق الأزمة، وتعمّق مأساة شعوبها، وأحيانًا غيبوبتها السياسيّة وغيابها عن اتّخاذ القرار والتأثير فيه، فالتأثير بالنسبة للسياسيّين في العالم اليوم هم واحد ووحيد يبدأ وينتهي في صناديق الاقتراع، وبالتالي ما إن ندلي بأصواتنا حتى يبدأ السياسيّون من جديد" رحلة البحث عن تأييدنا لهم في الانتخابات القادمة"، حتى لو بثمن "خراب مالطا" وفق المثل الشعبيّ، فهم سياسيّون يبحثون أوّلًا وقبل كلّ شيء عن مصلحتهم وبقائهم السياسيّ وبقاء أيديولوجيّاتهم مهما كانت خطيرة وغالية الثمن، يجيدون الشعارات والتزلّف وشراء الذمم، وليسوا سياسيّين حكماء يريدون الخير للعامّة والمصلحة والفائدة للدولة، أو لكيانهم السياسيّ. وهم فوق كلّ ذلك وإضافة إليه وهنا الخطورة الكامنة، يتصرّفون وكأنّهم يعرفون كلّ شيء عن كلّ شيء، لا يلتفت أحدهم إلى قول سقراط السابق أنه يعرف بأنه لا يعرف شيئًا، في تعبير خطير عن ثقة زائفة وزائدة واعتداد بالنفس، وإدمان على الشعارات والآراء الضحلة والمواقف التي تثير الغرائز، وتفتقر إلى أدنى قدر من إمكانيات التحقيق أوّلها رفض لاستخلاص وتذويت العبر والنظر بتمعّن ودراسة الأمور من كافّة جوانبها، وأوسطها عجز عن معرفة حقيقة الأمور، أو الاعتراف بالخطأ ورفض للإصغاء، أو فقدان تامّ لنعمة الإصغاء ونهايتها سوء النتائج، وربما العضّ على النواجذ، أو الندم ولات حين مندم!.
أقول ما سبق على ضوء ثلاثة أحداث محليّة وإقليميّة وعالميّة شهدها الأسبوع الأخير خاصّة، وكانت بوادرها ماثلة منذ فترة ، أو كان عنوانها مكتوبا على الحائط منذ فترة بمعنى أنها كانت مسألة وقت، وليس مثار شكّ حول مجرّد حدوثها، أوّلها المحليّ، لكنّ تأثيراته عالميّة واسعة، وهو إعلان المدّعي العام للمحكمة الجنائيّة الدوليّة كريم خان في لقاء صحفيّ هامّ ومؤثّر لوكالة سي. إن. إن الأمريكيّة حول كون المحكمة تنوي إصدار أوامر اعتقال ضد زعيم حركة "حماس" يحيى السنوار ورئيس مكتبها السياسيّ إسماعيل هنيّة ومحمد ضيف قائد كتائب القسام، الجناح العسكريّ للحركة، يقابلهم من الجانب الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيليّ ووزير الأمن الإسرائيليّ يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة فيما يتعلّق بهجوم 7 أكتوبر وحرب غزة، وهو قرار غير مسبوق فهي المرّة الأولى التي تصدر أوامر اعتقال بحقّ سياسيّين إسرائيليّين خلال تأديتهم مهامّ مناصبهم، وكم بالحريّ أن التهم الموجّهة لنتنياهو وغالانت تشمل التسبّب في الإبادة، وتعمّد التسبّب بالمجاعة كوسيلة من وسائل الحرب، ومنع الإغاثة الإنسانيّة واستهداف المدنيّين بشكل مقصود، وهي مذكرات اعتقال ملزمة لنحو 123 دولة وقّعت اتفاقيّة روما، ومنها تستمدّ المحكمة سلطتها وشرعيّتها خاصّة وأنها وفق الفقرتين السابعة والثامنة منها، وتلزم كافّة هذه الدول بالقبض على من صدرت بحقّه مذكّرة التوقيف بمجرّد وصوله إلى أراضيها، وهو إلزام لا ينتهي بانتهاء المهمّة، أو الحقيبة السياسيّة التي يحملها الشخص، بل دائمة وثابتة، مع الإشارة إلى أن عدم توقيع إسرائيل اتفاقيّة روما، لا يغيّر من الواقع شيئًا فمن الممكن قانونيًّا رغم ذلك رفع دعاوى ضدّ مسؤولين إسرائيليّين، أو مواطنين عاديّين كجنود الاحتياط، في المحكمة الجنائيّة الدوليّة، تلزم معظم دول العالم باستثناء الصين وروسيا وأمريكا وإسرائيل، تمامًا كما كان الحال مع روسيا التي لا تعترف بسلطة المحكمة في لاهاي، ولكنّ المحكمة أصدرت أوامر اعتقال بحقّ رئيسها فلاديمير بوتين ومسؤولين آخرين في الكرملين والجيش الروسي بعد اشتعال الحرب في أوكرانيا، وهي مذكرات اعتقال في الحالة الإسرائيليّة كانت ملامحها واضحة وبارزة خاصّة مع تزايد أعداد القتلى من المدنيّين في قطاع غزة رغم الشكوك حول صحّة الأعداد التي كشفت عنها وزارة الصحّة الحمساويّة، والصور التي تنقلها التلفزة العالميّة حول الدمار والهدم والمقابر الجماعيّة، وكلّها تصرفات كانت محكمة العدل الدوليّة، الشقيقة لمحكمة الجنايات الدوليّة، قد حذّرت في يناير كانون الثاني الأخير من أنها قد ترقى إلى حدّ الجرائم ضدّ الإنسانيّة، ومن أنها ستتّخذ قرارات مؤقّتة ونهائيّة ضد إسرائيل، لكنّ الأخيرة وقياداتها ارتكبت الخطأ الذي سبقته إليها روسيا وغيرها من القيادات التي سعت وراء استخدام القوّة العسكريّة فقط في حلّ أزمتها وخلافها مهما كان داميًا مع جار مهما كان ضعيفًا أو قويًّا، سواء كان دولة، أو منظّمة مسلّحة ، فرفضت الإصغاء إلى نصائح حليفتها الأولى والأكبر وأحيانًا الوحيدة ، الولايات المتحدة التي دعت إلى التروّي وعدم الشروع بعمليّة عسكريّة في رفح، وضمان وصول المساعدات الإنسانيّة بخلاف ما يحدث حاليًّا من اعتداءات على شاحنات المؤن الإنسانيّة المتوجّهة إلى القطاع، وشكوك حول معلومات" ترشح" من أصحاب مناصب معيّنة ، تمكّن المستوطنين من معرفة عدد ووجهة الشاحنات، كما تجاهلت تلميحات واشنطن حول إمكانيّة وقف الشحنات العسكريّة والأسلحة، وقرارات مشابهة اتّخذتها دول أخرى، وتقرير أصدرته وزارة الخارجيّة الأمريكيّة قالت فيه إنه من المحتمل والممكن أن تكون إسرائيل قد استخدمت أسلحة أمريكيّة معيّنة أدّت إلى مقتل مدنيّين في قطاع غزة، وأن ذلك قد يشكل خرقًا للقانون الدوليّ، كما رفضت إسرائيل الاستماع إلى حليفاتها وصديقاتها الأوروبيّات اللواتي دعونها إلى وقف الحرب والتوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى، تستعيد بموجبها أسراها من المدنيّين والجنود الأحياء منهم والأموات، وتطلق مقابلهم مئات أو آلاف السجناء الفلسطينيّين، منهم ما تصفهم بأن " أياديهم ملطّخة بالدماء" أي ممّن ارتكبوا عمليّات قتل وتفجير بحقّ الإسرائيليّين من الجنود والمدنيّين، وإصرار قياداتها على رفع شعارات انتخابيّة وحزبيّة في باطنها ، سياسيّة وقوميّة في ظاهرها تتحدّث عن النصر التامّ والمطلق وإبادة حركة "حماس" وتحرير الرهائن وهي أهداف لا تتأتّى معًا، بل إنها قد تتضارب، خاصة على ضوء النتائج على أرض الواقع والتي تؤكّد ضحالة الإنجازات العسكريّة والأيام الأخيرة شاهد على ذلك من حيث عودة إطلاق القذائف والصواريخ يوميًّا على بلدات الجنوب واستعادة مسلّحي "حماس" مواقع كانوا انسحبوا منها وسط القطاع وشماله، ناهيك عن انعدام أيّ خطة استراتيجيّة واضحة المعالم لما بعد الحرب، وتوتّر متزايد مع الدول العربيّة وخاصّة مصر، والخليجيّة ومنها الإمارات العربيّة المتّحدة، وخفوت أجراس التطبيع مع السعوديّة.
وإذا كان ذلك لا يكفي، فقدت الحكومة الحاليّة بتركيبتها الأساسيّة (النواة) والمؤلّفة من 64 عضوًا في البرلمان، ينتمون إلى الأحزاب اليمينية سواء تلك المتطرّفة، أو تلك الأكثر تطرّفًا، القدرة أو الاستعداد، وعن سبق الإصرار والترصّد على الإصغاء إلى أصوات العقل، حتى من داخل مجلس الحرب، ومن أوساط مواطنيها ومنهم أهالي الرهائن والمحتجزين والمخطوفين الذين يتعرّضون يوميًّا لتنكيل شرطة وزير الأمن القوميّ إيتمار بن غفير، فرفضت خاصّة رئيسها بنيامين نتنياهو، كما تؤكّد المعلومات التي ترشح واعترافات وزراء من الليكود أيضًا، أي محاولة لصفقة تبادل باعتبارها في عرف نتنياهو وحكومته، أو ائتلافه اليمينيّ بداية لوقف الحرب والخطوة الأولى نحو تفكيك الحكومة، وربما نهاية الأحلام بالعودة إلى الاستيطان في القطاع، ونقل المدنيّين الفلسطينيّين إلى سيناء، وهو ما كشفه صحافيّون إسرائيليّون قالوا إن نتنياهو يملك خطّة لليوم التالي، يبقيها سريّة لكنّها تتساوق مع أيديولوجيّات دينيّة واستيطانيّة خلاصيّة تريد إعادة المستوطنات إلى قطاع غزة، وترحيل المدنيّين من هناك إلى سيناء خدمة لأهداف سياسيّة، وتنفيذًا لأيديولوجيّات يرفع رايتها الوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ومرجعيّاتهما الدينيّة والاستيطانيّة التي تحلم بأرض إسرائيل التوراتيّة من النيل إلى الفرات، ونسيت الحكومة هذه أو تناست أنها، كي تتمكّن من تنفيذ هدفها الرامي إلى مواصلة الحرب فإنها أكثر ما تحتاج، بل بأمَّس الحاجة، إلى دعم دوليّ رسميّ وحشد تأييد عشرات ومئات الملايين في العالم على الصعيد الجماهيريّ والشعبيّ، وبحاجة إلى تأييد الرئيس الأمريكيّ، ورضى الحلفاء العرب وصمت الدول الأوروبيّة وغيرها، وكلّها أمور تمنحها مساحة من الوقت والجغرافيا لمواصلة القتال، لكنّها ارتكبت كلّ ما يمكن أن ترتكبه لضمان النتيجة العكسيّة، من غضب عالميّ ومظاهرات غاضبة في أمريكا وأوروبا، وإقصاء سياسيّ واقتصاديّ، وعقوبات اقتصاديّة وعسكريّة محتملة من دول العالم، وأُفول لإمكانيّات واحتمالات التطبيع المنشود مع المملكة العربيّة السعوديّة، وذلك لأن قادتها السياسيين يفكّرون في صناديق الاقتراع وأصوات المؤيّدين والقاعدة الانتخابيّة، فاستعاضوا عن وضوح الرؤية السياسيّة وشجاعة اتّخاذ القرارات، بتصريحات إعلاميّة رنّانة ومؤتمرات صحفيّة تحمل رسائل قوامها السجع والشكليّات بعيدة عن المضمون والجوهر، وصولًا إلى حالة وصفها البعض بأنها تضحية بالمصلحة العامّة وإمكانيات إطلاق سراح الرهائن، وتنازل عن الدعم الدوليّ عامّة والأمريكيّ خاصّة واستبداله بشبه عزلة دوليّة وانهيار اقتصاديّ وركود عسكريّ، تكريسًا لأهداف ومصالح السياسييّن الضيّقة بعيدًا عن تلك التي وصفها أفلاطون بأنها من شيم السياسيّين الحكماء.
إقليميًّا، الوضع لا يختلف حمساويًّا فالقيادات هناك، وهي التي في مأمن، لا تريد للحرب أن تنتهي ولا للمعاناة، أما اليوم التالي فيهمّها فقط في نقطة واحدة، وهي ضرورة المحافظة على هيمنتها وسيطرتها، ومنع أيّ إمكانيّات أخرى حتى لو كان ذلك بالنار والحديد والترهيب والوعيد. وهي بالتالي تفقد عمدًا، وعن سبق الإصرار أيّ احتمال لتعاطف دوليّ رسميّ على الأقلّ، وهو صاحب التأثير، مع التقدير التامّ للتظاهرات الشعبيّة الاحتجاجيّة في أمريكا وأوروبا، وبعض الدول الإسلاميّة، مقابل صمت أهل القبور في الدول العربيّة. وحكمت على شعبها بمزيد من المعاناة والنزيف، فهي ترفض الإصغاء إلى صوت العقل سياسيًّا على الأقلّ، والذي يلزمها لو كانت قيادة من السياسيّين الحكماء، بالعمل على ضمان، أو حشد تأييد الحكومات والسلطات الرسميّة في أوروبا، أو على الأقلّ محاولة ذلك، وتعزيز الدعم الممنوح لها من الدول العربيّة والإسلاميّة، ولا أقول العالم العربيّ والإسلاميّ فلا شيء موجود كهذا، والبحث عن تأييد أمريكيّ من خلال مواقف تثبت للقاصي والداني، أو تجعل إسرائيل تظهر بمظهر من لا يريد وقف الحرب وتبادل الرهائن، بل إن إسرائيل تريد استمرار الحرب. ولذلك، تشترط حتى الهدنة المؤقّتة لأسابيع معدودة، بتجريد القطاع من السلاح، وعودة كافّة الرهائن والمخطوفين وإبعاد مسلّحي "حماس" وقادتها من القطاع، ولكنّ القيادة الحمساويّة في حقيقة الأمر ترفض الإصغاء إلى الأصوات المغايرة ومنها أصوات المواطنين المدنيّين الخافتة خوفًا ورعبًا ، المطالبة بعودة الهدوء وببساطة المطالبة بالحياة بدلًا من خطر الموت الداهم والدائم، وتتمسّك بشعارات رنّانة حول التحرير الكامل ودحر العدو وهزيمة إسرائيل، هزيمة هي أقرب إلى الوهم وربما أحلام اليقظة، وتواصل تصريحاتها وممارساتها التي تكرّس ما كان، وتغلّب الأهداف الحركيّة والحزبيّة على تلك العامّة والوطنيّة، فهي اليوم بقادتها سياسيّة وليست وطنيّة، فالأهداف السياسيّة تغلب مصلحة المواطنين، والغوغائيّة سيّدة الموقف بينما يواصل الفلسطينيّون النزوح داخل القطاع وبعضهم للمرة الثالثة، أو حتى الرابعة..
عالميًّا، جاءت حادثة مقتل الرئيس الإيرانيّ إبراهيم رئيسي، وملابساتها بسياقها العامّ والذي يتعلّق بالعزلة السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة التي تعانيها إيران جراء سياسات وتوجّهات، وربما نزوات حكوماتها ومنذ العام 1979 عامّة والعقدين الأخيرين خاصّةً، على خلفيّة سياساتها التي تقدّس ولاية الفقيه، وتريد تصدير الثورة الإسلاميّة بصيغتها الشيعيّة الخمينيّة، والتي تشمل السيطرة العسكريّة أو محاولة ذلك ، خارج إيران عبر منظّمات مسلّحة تنفّذ سياسات طهران وتعليمات المرشد الأعلى، ولو كان ذلك على حساب معاداة جاراتها الخليجيّات وحرب مع العراق استمرت ثماني سنوات لا مبرر لها ولا سبب، وعقوبات دوليّة شاملة بسبّب توجّهات داخليّة الدوافع، تخدم سياسات وأجندات أصوليّة متطرّفة وتدخل في شؤون الدول القريبة والبعيدة ، ذروتها السعي إلى سلاح نوويّ بذلت من أجله طهران عشرات، بل مئات المليارات من الدولارات على حساب رفاهية وتعليم واقتصاد المواطنين وانخفاض، بل انهيار العملة الإيرانيّة خير دليل وأسطع إشارة. وارتفاع الأسعار، يضاف إليه عزلة عسكريّة ومنع لتصدير الأسلحة إلى إيران ، التي اتضح أنها تملك اليوم سلاح جوّ يفتقر إلى أبسط المقوّمات فقطع الغيار في عداد الممنوعات، وبالتالي فالأسلحة والمعدّات العسكريّة المتطوّرة غير موجودة، وطائرات مروحيّة تبلغ من العمر عتيًا، معدومة الصيانة تقريبًا، وحوادث تحطّم متكرّرة طالت هذه المرّة الرئيس رئيسي، وكانت في كانون الثاني عام 2020، من مصير طائرة ركاب أوكرانية أصابها صاروخ إيراني بعد لحظات من إقلاعها من مطار طهران الدوليّ، ومصرع ركّابها وطاقمها وعددهم 176، تم تشخيصها على أنها طائرة عسكريّة تنفذ هجومًا أو تحاول ذلك، ناهيك عن أن التمسّك بسياسات أثبتت فشلها وضررها أدخل إيران في أزمات اقتصاديّة وقلاقل طائفيّة داخليّة، وحوّل إيران إلى دولة قويّة عسكريًّا بسعيها إلى النوويّ، لكنّها على شفا الانهيار اقتصاديًّا واجتماعيًّا وأكاديميًّا، وذات نظام قمعيّ لا مكانة ولا قيمة لاحتياجات مواطنيه وأصواتهم، فهي عاجزة اقتصاديًّا بسبب العقوبات إلى درجة أنها تستخرج النفط لكنها لا تتمكن من تكريره وتصنيعه، وهذه كلّها حالة لم تغيّر من " أولويات السياسيين " الإيرانيّين شيئًا، كما لن يغير مقتل رئيسي شيئًا، فالنفوس تهون في سبيل ولاية الفقيه وطموحات استعادة أمبراطوريّة فارس، بينما احتياجات المواطن ومثلها صوت العقل والمنطق، فمؤجّلة إلى حين ...
القواسم المشتركة بين الحالات الثلاث كبيرة، منها الغرق حتى الثمالة في ثقة زائدة واعتزاز بالنفس ليس له ما يبرّره، بل إن نتائجه مأساويّة داخليًّا وخارجيًّا، أساسه رفض الإصغاء ورفض لاستخلاص العبر والاعتراف بالخطأ ، والتظاهر أن ذلك دليل قوة وصلابة وتمسّك بالثوابت، بينما هو دليل هشاشة وتصلّب خطير ونرجسيّة خطيرة لمن يدعون أنهم يعرفون كلّ شيء، وحتى أنهم يعرفون مصلحة مواطني دولتهم أكثر من المواطنين أنفسهم، فيرفضون أيّ طرح مغاير، ويعتبرونه خضوعًا وخيانة وخنوعًا حتى لو كان من يطرحه وزير الأمن الحاليّ بذاته، أو ذلك السابق أو الأسبق، فإسرائيل بعد مذكّرات الاعتقال ليست هي التي قبلها، ومعظم المنادين باستمرار الحرب واحتلال غزة ووضعها تحت سيطرة أمنيّة أو احتلال إسرائيليّ لعقود أو سنوات، لا يعرفون معاني وأبعاد الحكم العسكريّ، وخطر انزلاقه إلى الداخل ناهيك عن تبعاته الاقتصاديّة التي تقدّر بنحو 30 مليار دولار سنويًّا، وتبعاته العسكريّة من تكرار حالة جنوب لبنان، إضافة إلى ملامحة وظلاله التي يلقيها على الساحة السياسيّة الدوليّة، ونتائجها عزلة سياسية وعقوبات محتملة قضائيّة واقتصاديّة وعسكريّة، وتحويل إسرائيل من منارة للأغيار إلى دولة منبوذة يبتعد عنها كثيرون بما فيها ربما حليفتها الأولى وحليفات أخريات، أما حركة "حماس" فهي تتمترس وسط فكر أصوليّ دينيّ لا يرى أيّ قيمة، أو حتى مجرّد وجودٍ للغير سواء كان فلسطينيًّا يحمل فكرًا مغايرًا سياسيًّا ودينيًّا، وكم بالحريّ، إذا كان إسرائيليًّا يحتّم ميثاق "حماس" تحرير الأرض منه بمعنى احتلال إسرائيل وتخييره فإمّا الولاء، أو الويل والإبعاد وربما الموت، وهو ميثاق يعتبر كافّة الأثمان مشروعة ومتاحة حتى لو كانت معاناة وثكل لمئات الآلاف من أبناء شعبه، فالغاية وهي تحرير فلسطين باعتبارها كلّها وقف إسلاميّ تبرّر الغاية كما تبرّر الثمن، وولاية الفقيه كذلك، فهي هدف الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ومبتغاها الأوّل، أمّا حياة وأمن ومستقبل ورفاهية وتعليم مواطنيها فمؤجّل حتى ما بعد تحقيق ولاية الفقيه، أو أنه في أحسن الأحوال ليس مصلحة أولى، فالسياسيّون هناك كما سياسيي إسرائيل و"حماس" ينظرون إلى صناديق الاقتراع فقط، وهنا المأساة خاصّة على شاكلة قيادات أفرادها يسمعون، لكنّهم في الحقيقة لا يصغون إلا لأنفسهم، أو الى من يجاملهم عملًا وتصريحًا، والخطر الأكبر هنا هو من يجاملون، أو يصمتون عملًا بقول مارتن لوثر كينغ:" التراجيديا الكبرى ليست الاضطهاد والعنف الذي يرتكبه الأشرار، بل صمت الأخيار على ذلك" فالصمت في وجه الظلم تواطؤ مع الظالم، كقول الناشطة في حقوق الإنسان، الأمريكيّة إيطاليّة الأصل ، جينيتا ساغان .
ولا بدّ أن يعرف من يصف نفسه بالكبير بأن "أخطاء الكبار لا تُمحى" كما قال نجيب محفوظ .
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]