logo

المحامي زكي كمال يكتب : العالم على شفا الهاوية والحرب العالميّة الثالثة قادمة !

10-05-2024 06:11:21 اخر تحديث: 10-05-2024 06:18:32

خلافًا للتوقّعات المسبقة، وفي رسالة واضحة مفادها أن الواقع هو الذي يقول الكلمة الأخيرة، وأن الموجود هو الأهمّ، بينما يبقى المنشود غاية أحيانًا لا تُرتَجى، يمكن الجزم، ووفقًا لما يشهده العالم بمختلف مواقعه وقارّاته

المحامي زكي كمال - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت

وبتنوّع وتعاظم خلافاته السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة في أوروبا وآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، أن عالمنا اليوم وبعكس ما كان مُنْتَظَرًا، يسير في خطّين متوازيين لن يلتقيا. يصطدم أوّلهما، وهو استمرار الطفرة التكنولوجيّة في العالم، والتي تجعل، بل جعلت العالم قرية واحدة صغيرة لا تعترف بالحدود الجغرافيّة والفوارق العرقيّة والسياسيّة، ولا بميزان القوى العسكريّ، أو الديمغرافيّ، بل ربّما يذيبها ويخفّف من حدتها، بثانيهما وهو ازدياد وتعاظم مظاهر الفئويّة الدينيّة والقوميّة والعرقيّة، والعودة في حالات كثيرة منها الحرب الروسيّة الأوكرانيّة التي أكّدت فشل فكرة جعل أوروبا كيانًا واحدًا ، وهو فشل كانت بادرته الأولى انسحاب بريطانيا من "حلف اليورو" والعودة إلى حضن القوميّة البريطانيّة سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، والخلاف بين الصين وتايوان وملخّصه رفض الصين الاعتراف بتايوان دولة مستقلّة ذات سيادة، خاصّة وأن حصولها على استقلالها جاء بدعم أوروبيّ أمريكيّ غربيّ، والحرب المتواصلة في السودان، وكذلك الحرب التي دخلت شهرها الثامن في غزة وما يرافقها من توتّرات إقليميّة تؤكّد أن الحدود الجغرافيّة والفوارق العرقيّة والدينيّة وغيرها، ولأسباب كثيرة منها سياسيّة ونفعيّة للسياسيّين والقادة الدينيّين وخدمة لأجندات مختلفة، ما زالت ماثلة تشعل الخلافات والحروب التي تعيد إلى الأذهان، بل تستوجب أسئلة عديدة حول العلاقات بين الشعوب والجماعات، وخاصّة تلك التي تثير أسئلة حول علاقة الدول بالشعوب الأصلانيّة التي تحوّلت إلى أقلّيّات فيها من جهة، وما إذا كانت القوانين والأعراف الدوليّة ومواثيق الأمم المتحدة واتفاقيّات جنيف المتعلّقة بقوانين الحرب، من جهة أخرى، كافية أو ملائمة، أو قادرة على ضبط الأمور في حالات الصراع المسلّح بين الدول والجماعات وخاصّة الصراعات المسلّحة بين الجيوش النظاميّة الممثّلة للدول، والجماعات المسلّحة ومنها "حماس" وحركة "حزب الله" وحركات مسلّحة أخرى تطالب بتحرّر شعوبها وحقوقهم، ناهيك عن أسئلة حارقة تتعلّق بالنظم الدوليّة والمؤسّسات الدوليّة، والسؤال إذا ما كانت هذه ما زالت ذات تأثير، وفوق كلّ ذلك ما إذا كانت تتمتّع بالمصداقيّة والقدرة على تغيير الواقع، وإحلال السلام وضمان تنفيذ المعاهدات والمواثيق والأنظمة التي وضعتها هي، وفوق كلّ ذلك ما إذا كانت الشعوب الأصلانيّة عامّة، وفي أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط وآسيا خاصّة، يمكنها الاعتماد على المؤسّسات الأمميّة والدول العظمى للدفاع عنها وحمايتها دون مواربة أو انحياز.

" شرعيّة النزاع"

الحرب الدائرة في غزّة والتي وصلت أطراف رفح، ومثلها الحرب في السودان والتهديد الخطير لسلامة، بل أمن وحياة مواطني جمهورية جنوب السودان وتجنيبهم إبادة عرقيّة ودينيّة، والحرب المستمرة في سوريا والخلاف بين الصين وتايوان، بل عدم اعتراف الصين أصلًا بدولة اسمها تايوان، واستمرار صراعات مسلّحة بين جيوش نظاميّة وأخرى من الميليشيّات، أو الجماعات المسلّحة، ومنها في شرقنا حركتا "حزب الله و" حماس" وخاصّة بعد السابع من أكتوبر ومهاجمة مسلّحيها البلدات الجنوبيّة من إسرائيل، وقتل نحو 1500 مدنيّ وجنديّ إسرائيليّ من اليهود والعرب على حدّ سواء، واستهداف مدنيّين، واحتجاز رهائن، وما قابله من ردّ إسرائيليّ واسع النطاق طال كافّة مناطق قطاع غزّة وصولًا إلى رفح، ما أوقع عشرات آلاف القتلى والضحايا من مسلّحين ومدنيّين ، تثير التساؤلات حول جدوى القوانين التي تحكم الصراعات في العالم عامّة والصراع الحاليّ خاصّة، وهو ليس الأوّل من نوعه، ويقينًا لن يكون الأخير بين جيش دولة نظاميّ ومجموعة مسلّحة ما، كما يثير السؤال الأهمّ حول إمكانيّة تطبيق هذه القوانين على أرض الواقع، بعيدًا عن الأسباب التي أوصلت الأمور إلى حدّ الحديث عن جرائم حرب محتملة في كلّ مواجهة من هذا القبيل، كما هو الحال اليوم ، مع الإشارة إلى أن القانون الدوليّ الإنسانيّ يستند إلى مبدأ أساسيّ في الحروب، وهو أن شرعيّة النزاع، أو شرعيّة العمل العسكريّ، وعلى سبيل المثال هنا اقتحام مسلّحي "حماس" البلدات الجنوبيّة من إسرائيل، أو إطلاق حركة " حزب الله" القذائف والمسيَّرات باتجاه شمال إسرائيل، وشرعيّة الردّ الإسرائيليّ مهما بلغت حدّته، أو عدم وانعدام الشرعيّة في كلتا الحالتين، لا يلغي وجوب الالتزام بمبادىء ونصوص القوانين الدوليّة، وفي مقدّمتها ميثاق جنيف، والذي تقع إسرائيل وحركة "حماس" ، تحت نظامه تمامًا كأيّ طرفين متنازعين منذ الحرب العالميّة الثانية، فالقانون الدوليّ وفقًا للنصوص المكتوبة، يجب أن يُطَبَّق فور اندلاع العمليّات العدائيّة العسكريّة المسلّحة، وبغضّ النظر عن شرعيّة النزاع المسلّح من عدمه، وبنوده مُلزمة وواضحة، لكنّ الحقيقة هي عكس ذلك، فالحروب التي شهدها العالم أثبتت أن اتفاقيّات جنيف أو ميثاق جنيف ، وهي أربع اتفاقيّات بدأت عام 1864 وآخرها وربما أشهرها ، وهي الرابعة تم توقيعها عام 1949، كجزء من استخلاص العبر من الحرب العالميّة الثانية، التي أوقعت ملايين الضحايا من الجنود، ناهيك عن ملايين المدنيّين الذين دفعوا حياتهم ثمنًا، خاصّة خلال قيام ألمانيا النازيّة بقصف المدن البريطانيّة دون توقّف، والردّ الأوروبيّ عامّة والبريطانيّ خاصّة بقصف مدينة درزدين الألمانيّة، في شباط عام 1945، ومحو آثارها عن وجه البسيطة، وهو ميثاق جاء لمنع المسّ بالمدنييّن من جهة، ووضع أسس وأعراف دوليّة واضحة وملزمة، تحول دون قيام الجهات المتنازعة سواء الدول، أو الجماعات المسلّحة بأعمال ترقى إلى مرتبة جرائم الحرب. وهو ما يدور الحديث عنه ويتعلّق بحربي غزة وأوكرانيا، فقيام "حماس" في السابع من أكتوبر 2023، بالمسّ المباشر وغير المحدود بالمدنيّين العزّل، وأخذ الرهائن المدنيّين وتعريضهم للخطر خاصّة عبر احتجازهم في مناطق تدور فيها أعمال قتاليّة، وهذا يشمل مناطق قطاع غزة كلّها،" واستخدامهم المحتمل كدرع بشريّ، في مناطق النزاع لتجنّب العمليّات العسكريّة" كلّها أعمال محظورة وفق القانون الدوليّ، وقد تصل حدّ جريمة الحرب، بموجب اتفاقيّات جنيف، ولا سيما المادّة الثالثة والنظام الأساسيّ لمحكمة الجنايات الدوليّة، ناهيك عن تهديد " حماس بإعدام بعضهم، أو التلويح بذلك سواء كانت تصفهم أنهم معتقلون، أو أسرى، أو رهائن، أو مختطفون، من الجنود والمدنيين على حدّ سواء"، ومثله مطالبة البعض في إسرائيل ومنهم أصحاب مناصب رسميّة، بفرض عقوبة الإعدام على المعتقلين من قوّات النخبة الحمساويّة التي شاركت في أعمال الاقتحام والقتل في أكتوبر.

وحال ميثاق جنيف من حال المؤسّسات الدوليّة التي جاءت لترتيب الأمور ووضع النقاط على الحروف، فهي تحجّرت وتوقّفت عجلة الزمان عندها عن الدوران، وبالتالي ما زال الميثاق ومثله المؤسّسات كالأمم المتحدة ومجلس الأمن والهيئات المنبثقة عنها من محاكم جنائيّة ودوليّة وهيئات لحقوق الإنسان ، غير قادرة على مجاراة التغييرات، ومنها ما خلق أوضاعًا غير منطقيّة ولم تكن سابقًا ، سببها نمو عشرات الجماعات المسلّحة التي تشارك في أعمال قتاليّة ضد دول نظاميّة ورسميّة، ما خلق حالة فيها تجد جماعات مسلّحة نفسها في حِلٍّ من القوانين الدوليّة ومنها حزب الله، طالبان، داعش، حركة الشباب في الصومال ونيجيريا وغيرها، وذلك مقابل جيوش نظاميّة لدول تعتبر نفسها ليبراليّة وديمقراطيّة، تلتزم بالقانون الدوليّ، وتعترف بأخطائها إذا ما كانت هناك، وتتّخذ إجراءات قضائيّة بحقّ المخالفين، ما يعني أن " التبادليّة" في هذه الحروب أصبحت غير قائمة، ومن هنا يجب تغيير تعريفات هذه الجماعات فهي ليست جماعات مسلّحة عاديّة تشمل المئات يحملون أسلحة خفيفة، كالبنادق وما شابه، بل إنها كما أثبتت النزاعات المسلّحة في العراق وسوريا وغزة والسودان ورواندا ولبنان وغيرها، جيوش عاديّة يملك بعضها عشرات، بل مئات آلاف الصواريخ بعيدة المدى، ويمكنه إطلاق آلافٍ منها كلّ يوم، وبالتالي يستوجب الأمر تغييرات حثيثة وسريعة تجاري التطوّرات وتمنع المسّ بالمدنيّين في الحروب، وتضع لها القوانين، حتى في الحروب بين الدول والحرب الأوكرانيّة الروسيّة، والتي أنهت عامها الثاني، دون حلّ يبدو في الأفق وليس ذلك فحسب ، بل عبر تصعيد خطير ينذر باستمرار الحرب المذكورة، وتحوّلها إلى حالة ثابتة ومستمرة، وخطوات كان آخرها قرار الإدارة الأمريكيّة ، تخصيص حزمة كبيرة من المساعدات الماليّة لأوكرانيا تقدّر بعشرات مليارات الدولارات اعتبرتها الإدارة الأمريكيّة عملًا يصبّ في مصلحة أوكرانيا ودفاعها عن نفسها، لكنّها في حقيقة الأمر، ميزانيّات تغذّي الصراعات وتضمن استمرارها وربما تفاقمها، ما يطرح السؤال حول ما إذا كانت دول العالم، خاصة تلك الضعيفة منها تدرك فعلًا، أن الدعم المبدئيّ من الدول العظمى لم يعد قائمًا، بل إنه دعم يخدم اولًا مصالح الدول الكبرى ومصالحها، وكذلك قرارات وسلوك الدول العظمى في المؤسّسات الدوليّة المختلفة.

" فارق كبير وغير منطقي "

ما سبق يؤكّد عمليًّا وملخّصه الفارق الكبير وغير المنطقي في السياسات الدوليّة، وهي ما نتطرّق إليه هنا، وكذلك المحليّة، بين الأقوال والأفعال وبين النوايا والتنفيذ، أو بين المنشود والموجود، والأمر سيّان في حال المؤسّسات الدوليّة، فالهوة الشاسعة بين الأهداف التي أقيمت من أجلها الأمم المتحدة وبين ممارستها الفعليّة على أرض الواقع، تؤكّد أن المنشود جيّد، وهو أهداف صيغت بلغة راقية تشمل المبادئ الإنسانيّة السامية، وتضمن حقوق الإنسان ، لكنّها تؤكّد من جهة أخرى أنها اليوم لا تتعدّى كونها حبرًا على ورق ، خاصّة في مجال الصراعات المسلّحة وحرية الشعوب وإنهاء الاحتلال، ومنع استخدام القوّة العسكريّة بغير حقّ، وكذلك إمكانيّة فرض قرارات هذه الهيئات على دول العالم المختلفة، وفوق كلّ ذلك الدوافع التي تحرّك هذه المؤسّسات وقراراتها والتي أصبحت اليوم سياسيّة واضحة، فقرارات الأمم المتحدة ومؤسّساتها كمجلس حقوق الإنسان وغيرها، بالنسبة للصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وكلّها تصريحيّة وغير مُلْزَمة، أصبحت مثلًا واضحة ومعروفة سلفًا، وكلّها تطالب إسرائيل بالانسحاب من المناطق المحتلّة، وإقامة كيان فلسطينيّ، وتتّهم إسرائيل بالمسّ بحقوق الفلسطينيّين وحياتهم، وكذلك قرارات مجلس الأمن فكلّها سياسيّة أيضًا في هذا المجال يحكمها الفيتو الأمريكيّ التلقائيّ، وهو الأمر في الحرب الأوكرانيّة التي طالبت الأمم المتحدة روسيا بوقفها بأغلبيّة دول تنبع من مواقف سياسيّة، ليتغيّر الأمر في مجلس الأمن بفعل الفيتو الروسيّ التلقائيّ، وفي ذلك تأكيد على الفارق بين الأقوال والتصريحات الصادرة عن الهيئة العامّة للأمم المتحدة، وبين القدرة على الفعل، والتي يحددها مجلس الأمن وتحديدًا الدول دائمة العضويّة فيه، والتي تملك حقّ النقض وهي روسيا والولايات المتحدة، وهذا في كافّة المجالات المتعلّقة بالسياسة الدوليّة كقضايا التدخّل العسكريّ، كما كان في حربي الخليج الأولى والثانية، والحرب الأهليّة في يوغسلافيا، وقضايا الفقر واللاجئين والإبادة الجماعيّة في رواندا وبورما (ميانمار)، وكلّها أمثلة تؤكّد ضرورة بناء نظام عالميّ جديد، أو على الأقل إدخال إصلاحات على النظام العالميّ والمواثيق الدوليّة الحاليّة التي لا تضمن تنفيذها على أرض الواقع، بل تبقيها رهنًا بحسن النوايا، وهو ما ينذر وعلى ضوء الوقائع الحاليّة، في العراق وسوريا ولبنان وغزة وأوكرانيا واليمن والصومال وغيرها، بالأسوأ والأخطر والأمَرّ، ومن هنا تنبع الحاجة إلى منظومة قيم ومواثيق عالميّة جديدة تضمن للإنسان أينما كان، الحياة والحريّة والأمن والأمان، والجغرافيا بمعنى الكيان ومكان الإقامة، وباختصار إعادة التفكير، أو التفكير مجدّدًا ما إذا كانت كلّ هذه القوانين والاتفاقيّات والمواثيق والدساتير التي تأسّست وفقها المؤسسات الدوليّة، قد عفا عليها الدهر، ويجب تغييرها، وعلى سبيل المثال تعديل ميثاق جنيف، ليشمل الجماعات المسلّحة والميليشيات، وليس فقط الجيوش النظاميّة، خاصّة على ضوء تزايد عدد وحجم وخطورة المنظّمات المسلّحة التي تنتهج أيديولوجيّات متطرّفة وخطيرة وفتّاكة، كما في الحرب العرقيّة في رواندا، وكذلك داعش وغيرها، والتي تحاول عمليًّا إلغاء نظام قائم بادّعاء الحريّة، أو تصفية جسديّة لخصوم عرقيّين ودينيّين (جنوب السودان مثلًا) أو تلك التي تعيث في دول معيّنة خرابًا وفسادًا، دون أيّ ضوابط، أو قوانين ودون رادع من ضمير، أو وازع من الأعراف الدوليّة، إضافة إلى أن الحروب الأخيرة وخاصّة تلك التي كانت في يوغسلافيا والحرب الأهليّة في سوريا، والحرب الأوكرانيّة أثبتت أن الأعراف الدوليّة لم تعد كافية وملائمة لمنع الحروب، خاصّة وأن أسباب هذه الحروب ليست جغرافيّة، ولا تتعلّق بالأرض أو غيرها، بل إن لها دوافع أخرى تتطلّب التحرّك وصياغة ما يمنع تكرارها.


الحرب الأوكرانيّة هي خير مثال على ذلك، فأسبابها الحقيقيّة لا تتعلّق بأرض، أو حدود، ولا تتعلّق بإمكانيّة ضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسيّ ونصب أسلحة أوروبيّة هناك، ولا تتعلّق باستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، بل هي أسباب يجتهد مئات من الأكاديميّين والباحثين والخبراء في استبيانها واستيضاحها، وبكلمات أخرى محاولة فهم الاعتبارات التي اعتملت في ذهن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل انطلاقها أو نشوبها، وكلّها وبشكل لا يقبل التشكيك أو الالتباس، أسباب لا علاقة لها بالواقع الحاليّ، أو الأحداث والتطوّرات الأخيرة، أي أنها يسود الاعتقاد على أن الادّعاءات السياسيّة والإستراتيجيّة والعسكريّة لا تكفي لتبرير الحرب، وبالتالي لا بدّ من البحث عن أسبابها الحقيقيّة، وهي دون شكّ تكمن في الفكر الذي ألهم الرئيس الروسيّ، وربما يكون دافعه للحرب ، أي البحث عن المصادر الأيديولوجيّة التي كانت سبب هذه بالحرب الكارثيّة، والتي تشكّل، أو جاءت تنفيذًا لهدف واحد، أو مهمة واحدة هي إعادة أوكرانيا كدولة للدوران في فلك روسيا. وهذه الحقيقة يكشفها خطاب فلاديمير بوتين في أيلول عام 2021، أمام ملتقى فالداي وهو في العرف الروسيّ المؤتمر الموازي للمنتدى الاقتصاديّ العالميّ في دافوس السويسريّة، وفيه أشار إلى مؤرّخين روس أثروا فيه كثيرًا وصاغوا أسسا صلبة بنى عليها مواقفه ومنهم نيكولا بيرديائيف الفيلسوف اللاهوتيّ المولود في كييف عام 1874 وتوفي عام 1948، وخبير أعراق الشعوب، ليف غوميليوف المتوفى عام 1992 والمنظّر إيفان إيلين، وثلاثتهم يجمعهم فكر واحد يعتبر روسيا وحدة جغرافيّة وسياسيّة واحدة، أو الأيديولوجيّة الأورو آسيويّة، والتي اعتنق بوتين منها معتقداته حول المصير التاريخيّ المشترك لشعوب" أوراسيا" (الجمهوريّات الأوروبيّة وتلك الآسيويّة التي شكّلت الاتحاد السوفييتيّ السابق)، وتعدّد الجنسيّات الحقيقيّة لروسيا، مقابل القوميّة العرقيّة الروسيّة، وفكرة العلاقة العاطفيّة، أو العاطفة كرابط بين شعوب روسيا المختلفة والمتنوّعة، وهو الذي قال في شباط 2021 أنه يؤمن بالعاطفة، مؤكّدًا أن ذلك يعني أن روسيا لم تبلغ ذروتها، بل إنها تخوض مسيرة، طويلة وربما لا نهائيّة، تخلص إلى إعادة الاتحاد السوفييتيّ السابق واختلاط الأعراق الأوروبيّة والآسيويّة فيه أي "اختلاط الدم" وفق المصطلح الروسيّ، وإلى ذلك يجب أن نضيف المفهوم الذي يسمّى "العالَم الروسيّ" الذي تروج له الكنيسة الروسيّة بوضوح، وباختصار إعادة توحيد الأراضي الروسيّة، وأوكرانيا جزء لا يتجزأ منها، مع الإشارة إلى أن الثقافة السوفياتيّة زاخرة بالروايات التي تدّعي أن أوكرانيا تفتقر إلى المعالم الواضحة لهويّتها السياسيّة، وبالتالي ما زالت دولة تتأرجّح مواقفها وميولها بين الدول الكبرى على مرّ الأعوام. أما الذروة فكانت صياغة تعديلات الدستور الروسيّ، والتي تمّ إقرارها عام 2020 وتنصّ على أن روسيا ملزمةٌ بأن تحمي الحقيقة التاريخيّة، وهي بكلمات أخرى أن تضمن، وأن تعي أن أوكرانيا هي جزء من الأراضي الروسيّة، وبالتالي يمكن القول إن هذه الحرب هي نتاج واضح لنظرة بوتين للعالم على مدى سنوات عديدة، واستيائه الشخصيّ وعدائه للغرب واعتباره له العدو والخصم الذي يمنع حماية الحقائق التاريخيّة ويحاول قضم أجزاء من روسيا، عملًا بما جاء في الأعمال الفلسفيّة الروسيّة التي تؤكّد صراع روسيا التاريخيّ مع الغرب، وكون أوكرانيا كجزء من روسيا، حدودًا حضارية بينهما، فروسيا هي الأقوى من أوكرانيا والأقدر على حسم الأمور، وبكلمات أخرى هي الدولة التي تتصرف من منطلق الاستعلاء والسيطرة، وفرض الأمر الواقع على مجموعات سكانيّة حتى لو كانت أصلانيّة، كما يصفها البعض ، ومنطلق الوحدة الروسيّة كما تصفه موسكو.

وللنزاهة والمصداقيّة، التاريخيّة منها والموضوعيّة، لا بدّ من التأكيد على أن قضيّة الاستعلاء القوميّ عامّة والاستعلاء الغربيّ بضمنه، ليست حكرًا على روسيا، بل سبقتها إلى ذلك دول أخرى. فهي ممارسة وتوجّه ونظريّة تم تطبيقها في عشرات الحالات، حتى يمكن القول إنها لازمت الأوروبيّ أينما يذهب، وأينما وصل سواء إقليميًّا أو فكريًّا، أو عسكريًّا، أو سياسيًّا. وهي تلازم اليوم دولًا كبرى في العالم أينما وصلت اقتصاديًّا، فأمريكا عرش الديمقراطيّة كانت مسرحًا لاستعلاء قوميّ عزّزه دافع دينيّ، وقع فيه سكانها الأصلانيّون المسالمون هناك ضحيّة لمستكشفين وبعدهم شعوب وصلت من أوروبا تم استقبالهم بعد وصولهم عبر المحيط الأطلسيّ بالترحاب والقبول وربما الهدايا، فكان مصيرهم الإبادة وصولًا إلى بلاد جديدة لم يكن اسمها أمريكا، ونهاية شعب اسمه الهنود الحمر، وباختصار غزو شمل سرقة الذهب والأرواح. أما الناجون من القتل فقد طاردهم الرجل الأبيض، ولم يكتفِ بذلك، بل واصل ذلك باستقدام قوافل وموجات العبوديّة من إفريقيا، وهو ما يكشفه الكاتب والباحث هوارد زِن (الذي استحقّ لقب مؤرّخ الشعب الأمريكيّ)، خاصّة بعد أن أصدر عام 1980 كتابه "التاريخ الشعبيّ للولايات المتحدة"، الذي قال فيه الحقيقة، ونفض الغبار عن تاريخ بلاده ووضع حدًّا للرواية أحاديّة الجانب التي ادّعت أن الرجل الأبيض ، هو من حرّر أمريكا والتي كانت أراضي خاليّة تسكنها قبائل متوحّشة لا تاريخ لها ولا ماضٍ ولا تراث. وهي دائمًا نظريّة استعلاء الغرب الذي يروِّج رواية أنه وصل أرضًا دون شعب، وليس لها ماضٍ، ومع الإشارة إلى أن هوارد زن، وهو ابن لأبوين يهودييّن كادحين، الأب روسيّ الأصل والأم من النمسا، لم يسلم شخصيًّا، ولا أبحاثه الأكاديميّة من انتقادات واجهها بسبب موقفه العلميّ الذي يكشف أقنعة التاريخ المزيّف.

خلاصة القول هنا، أن العالم بحاجة إلى إعادة بناء لمؤسّساته ومواثيقه من جهة، كي يعود إلى مساره الصحيح، وضرورة قصوى للانتقال إلى عهد جديد يتحول القول فيه إلى فعل، دون أن تكتفي المؤسّسات الدوليّة والدول العظمى بضريبة كلاميّة وتصريحات دبلوماسيّة. وكي يتحوّل الميثاق المكتوب إلى واقع يضبط الأمور، كما أنه بحاجة إلى شجاعة أكاديميّة وتاريخيّة تكشف الروايات المزيّفة وتمنح كلّ ذي حقّ حقّه، كما تكشف الحقائق والدوافع الحقيقيّة التي تقف وراء أحداث تبدو للوهلة الأولى غير منطقية ودوافعها غير مقنعة رغم التصريحات الرنّانة من السياسيّين، ويتّضح ذلك نهائيًّا لاحقًا، أنها فعلًا كلمة حقّ يراد بها باطل.. أو لغاية في نفس يعقوب، وأن ما خفي أعظم.
والخطر في هذه الأوضاع العالميّة بأنه قد يقرّر "الرئيس"، أو "القائد" الذي بجيبه "مفتاح الحرب النوويّة " أن يبدأ في الحرب العالميّة الثالثة التي قد يخسر بها العالم نصف سكانه، وحتى كلّ حضارته ومدنيّته وكذلك التقنيات، لتكون الحرب العالميّة الرابعة بالحجر والسكين والسيف؟

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .

يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]