المحامي زكي كمال - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت
بما يتعلّق بالحرب في غزة وتطوّراتها وتفرّعاتها المحليّة والإقليميّة والعالميّة، على مختلف الصعد السياسيّة والعسكريّة وحتى الاقتصاديّة، ليستحقّ وصفًا يشكّل واحدًا من التعبيرات الرائجة والمنتشرة في السياسة المحليّة والدوليّة، هو "خلط الأوراق". وهو تعبير متداول يشكّل دائمًا واحدًا من الإشارات والدلائل القويّة إلى أن أمرًا ما سيحدث، فهو أحيانًا دليل انفراج سياسيّ قريب ومفاجئ، وربما اختراقة تفاوضيّة، لكنّه في أحيان أخرى نذير سوء ومقدّمة لتطوّرات سلبيّة سياسيّة وعسكريّة وغيرها، لكنّ اختلاط الأوراق هنا في حالتنا هذه، بين السياسة والاقتصاد والعسكر والأكاديميا والإعلام وغيرها ،محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا، يشكّل حالة خاصّة تعدّدت فيها الأوراق والمواقع والسبب واحد، على وزن القول الشهير:" تعدّدت الأسباب والموت واحد"، وهو استمرار الحرب في غزة مقتربة من نهاية شهرها السابع، لتقف اليوم أمام مرحلة مفصليّة على إسرائيل خاصّة اتّخاذ قرارات حاسمة حول معادلات أطرافها واضحة، أو تحديدًا معادلات من طرفين، هي استمرار الحرب، أو استعادة المخطوفين، ورفح واجتياحها، أو التطبيع مع السعوديّة، واستمرار المعارك ومواصلة استخدام القوة العسكريّة، وزيادة عدد الضحايا وحجم الدمار في القطاع، ورفض أيّ تفكير في اليوم التالي للحرب، أو استمرار العلاقات الطبيعيّة مع الدول الأوروبيّة، وضمان عدم اعترافها أحاديّ الجانب بدولة فلسطينيّة، وهو ما سيحدث قريبًا وفق كافّة التسريبات، وداخليًّا استمرار الحرب والتجاهل، بل التخلّي عن قضية المخطوفين من المدنيّين والجنود، أو استمرار حياة الائتلاف الحكوميّ الحالي، خاصّة على ضوء التهديدات الواضحة للوزير بتسلئيل سموتريتش بفكّ الشراكة مع بنيامين نتنياهو، إذا قبل بصفقة التبادل التي تعرضها مصر اليوم، والتي تشمل وقفًا لإطلاق النار لمدّة 40 يومًا، واللقاء ذات الصلة بين نتنياهو ووزير الأمن القوميّ إيتمار بن غفير هذا الأسبوع، ممّا يعني داخليًّا أن على نتنياهو الاختيار بين حياة حكومته وائتلافه وحياة المخطوفين، وبين استمرار الشراكة مع اليمين المتطرّف الاستيطانيّ، وبين وقف الحرب والتي ألحقت بإسرائيل حتى اليوم أضرارًا سياسيّة ودبلوماسيّة دوليّة وإقليميّة وداخليّة، واقتصاديّة تجلّت في خفض التصنيف الائتمانيّ للدولة، وتحذير من عجز ماليّ خطير لا يتحمّله الاقتصاد الإسرائيليّ، واجتماعيّة تجلّت في ازدياد مظاهر العداء والانقسام الداخليّ والعنف الذي تتمّ ممارسته ضد المتظاهرين المناوئين لسياسة الحكومة، ومن بينهم أهالي المخطوفين في القطاع، ناهيك عن استمرار اقتلاع مئات آلاف المواطنين من منازلهم، لكنّ الأخطر من ذلك في نظر الجميع هو أن على الحكومة الحاليّة، وعلى ضوء استمرار الحرب أن تختار بين ذلك وبين تدهور مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة حليفتها الأزلية والأولى، على المستوى الشعبيّ على الأقلّ، وتحديدًا بين الأمريكيين الذين دون سنّ الأربعين، والذين تؤكّد استطلاعات الرأي العامّ أن إسرائيل خسرت تأييدهم، وأن روايتها السياسيّة والعسكريّة لم تعد مقبولة ولا تحظى بأيّ تأييد، فهم مجموعة تتلقّى معلوماتها وتصوغ مواقفها من مصادر الإعلام الجماهيريّة، ووسائل التواصل الاجتماعيّ التي تنقل الأنباء والصور والمعلومات، دون رقابة، ودون تحريف وبشكل مباشر، ودون وساطة وسائل الإعلام العاديّة والمعروفة باسم " إعلام الموقف الرسميّ Main Stream " ، والمملوك بأغلبيّته لأصحاب رؤوس أموال يؤيّدون إسرائيل بشكل دائم ومستمر، سواء كانوا من اليهود أم غيرهم، يسيطر عليهم اللوبي الصهيونيّ، وهي معركة خسرتها إسرائيل بشكل واضح، كما يعرف، بل ويعترف الجميع، وأفضل انعكاساتها المظاهرات العارمة التي تشهدها الجامعات الأمريكيّة المختلفة، وفي مقدّمتها هذا الأسبوع جامعة كولومبيا، والتي ترأسها محاضرة مصريّة، هي نعمت شفيق المسمّاة أمريكيًّا مينوش، أو نوعمي، وللاسم هنا بصيغه الثلاث دلالات سنعود عليها لاحقًا، فهي تتعدّى الأمر العينيّ هنا، لتصل حدّ ثقافة الديمقراطيّة والرأي الشجاع واستقلاليّة المؤسّسات الأكاديميّة، وعدم خضوعها للضغوط السياسيّة، ورفضها التحوّل إلى أداة طيِّعة أمام السياسيّين وأصحاب رأس المال.
ولكن، ومقابل المجتمعات في الشرق الأوسط، وإسرائيل بينها، والمجتمعات العربيّة عامة ، والتي تقبل خلط الأوراق في حياتها اليوميّة، وفي التعامل مع قضاياها الهامّة ومتطلّباتها المختلفة، بل إن قياداتها تعتبر هذا الخلط ، كما في إسرائيل الحاليّة، نوعًا من الذكاء السياسيّ، أو ربما التذاكي، وهو حال تعرفه منطقتنا جيّدًا، وتمارسه القيادات هنا، منذ قدم التاريخ لإدخال شعوبها في عوالم الشعارات والغوغائيّة بهدف إشغالها عن قضاياها الجوهريّة، أو عن جوهر القضيّة، كالعودة إسرائيليًّا إلى الحديث عن إيران لصرف النظر عن مراوحة الحرب في غزة مكانها، ومواصلة الحديث عن عمليّة في رفح، والوصول إلى النصر التامّ لصرف النظر عن قضيّة المخطوفين، واتّهام وسائل الإعلام بالعمل ضدّ الحكومة الحاليّة، ومحاولة التسبّب بإسقاطها لصرف النظر عن سوء أداء الوزراء، والحديث عربيًّا عن "جهود لوقف إطلاق النار" وإرسال إغاثات إلى غزة لا تسمن من جوع، بدلًا من اتّخاذ مواقف واضحة وصريحة، فإن خلط الأوراق في أمريكا والمظاهرات الطلابيّة المتواصلة للأسبوع الثالث على التوالي، دون أن تخفّ حدّتها أو وتيرتها ، وإدخال السياسة إلى الحرم الجامعيّ، وجعله مكانًا تتغلّب فيه السياسة ورأس المال على الحريّة الفكريّة والأكاديميّة، هي حالة لا يقبلها الغرب والولايات المتحدة، وكم بالحريّ لا يمكن اعتبارها نوعًا من الذكاء، بل إن الوضع الراهن، وفيه لا تبدو حتى اليوم، ورغم كافّة الخطوات العقابيّة التأديبيّة وغيرها التي اتّخذتها إدارات بعض الجامعات وخاصّة جامعة كولومبيا، أيّة مؤشّرات على تراجع موجة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكيّة، رغم اعتقال الشرطة مئات المحتجين في حرم الجامعات ومناوشات وصدامات بين محتجّين داعمين لإسرائيل وآخرين داعمين للفلسطينيّين في جامعة كاليفورنيا ، وإدخال الشرطة العاديّة لأوّل مرّة منذ 50 عامًا إلى الحرم الجامعيّ، الذي تعتبره كافّة القوانين في الدول الديمقراطيّة منطقة حرام، لها أمنها وشرطتها الخاصّة، بل بالعكس فقد تزايد زخم الاحتجاج، ومعه مطالب المحتجّين المعارضين للحرب على غزة، بسحب ووقف الاستثمار في الشركات الإسرائيليّة التي تتعامل مع الجيش وإنهاء المساعدات العسكريّة الأمريكيّة لإسرائيل، هي حالة هامّة تشير إلى توجّه جديد، يشكّل عودة إلى قديمٍ يعاد، وماضٍ بعيد ، كانت فيه الاحتجاجات الطلابيّة سمة العصر، والدليل على الرغبة في الحريّة والليبراليّة، ورفض الاضطهاد والقمع بكافّة أنواعه ابتداءً من قمع الشعوب والدول وانتهاءً بقمع الأفراد، ومحاولة تقزيم الحريّات الشخصيّة، أو إلزام الطلاب الجامعيّين بمواقف وتوجّهات لا تخدم مصلحتها العامّة، بل مصلحة السياسيّين، منها المظاهرات ضد الحرب الفيتناميّة قبل أكثر من خمسين عامًا، والتي اتّسعت لتصل المدارس كلّها هناك، والمظاهرات التي شهدتها فرنسا عام 1968، والتي قادها الطلاب الجامعيّون، واعتبرها البعض محاولة للقيام بثورة شيوعيّة، ردّت عليها الشرطة بعنف غير مسبوق، لم يتمكّن من إنهائها، بل اتّسعت لينضمّ إليها نحو 11 مليون عامل نفّذوا الإضراب الأوسع والأقوى في فرنسا، الإضراب الأقوى في تاريخ فرنسا، ما جعل العاصمة باريس تبدو مدينة ستسقط في حرب أهليّة، ناهيك عن فرار الرئيس شارل ديجول إلى ألمانيا ، ثم توقّفت المظاهرات بعد مرور 7 أسابيع هدأت الأمور وأجريت الانتخابات، وتراجع السيناريو الدمويّ مع إصلاحات واسعة في الأجور والأوضاع الطلابيّة، ومظاهرات الطلاب في الصين في يونيو 1989، بعد عدّة أسابيع من اندلاع مظاهرات طلابيّة مؤيّدة للديمقراطيّة في بكين، والتي انتهت إلى مذبحة تياننمن الشهيرة، واحتجاجات شهدتها جامعة كولومبيا، وهي في العناوين اليوم، عام 2017، اشتهرت باسم "احتجاج الفراش" ، بادرت اليها طالبة تعرّضت للاغتصاب وقرّرت الجامعة إبقاء المتهم على مقاعد الدراسة، وقبلها احتجاجات شهدتها ألمانيا إبّان عهد النازيّة من 6 طلاب ومحاضر، كانوا شهود عيان على قتل يهود، دفعوا ثمنها غاليًا حيث تم إعدامهم، أطلق عليها اسم " الوردة البيضاء"، وكلّها مظاهرات واحتجاجات دفع منظّموها ثمنًا غاليًا لم يردعهم عنها، لكنها في هذه الحالة تتعدّى ذلك، فهي احتجاج على سياسة أمريكيّة متّبعة منذ العام 1948، قوامها الدعم التامّ والكامل وغير المشروط ، ودون أسئلة ، لإسرائيل ومواقفها واعتبارها الضحيّة، كما جاء في وسائل الإعلام الرسميّة، وسط تهديدات خطيرة، وبالتالي يحقّ لها الدفاع عن نفسها، وهي احتجاجات على " الرعيل القديم" من السياسيّين والنوّاب الأمريكيّين الذين دعموا صفقات الأسلحة إلى إسرائيل، دون محاسبتها على كيفيّة استخدامها. وهو ما لم يكن هذه المرّة خاصّة وأن الإدارة الأمريكيّة تلوّح ولأوّل مرّة، بفرض عقوبات على وحدات في الجيش الإسرائيليّ، بعد أن فرضت عقوبات على مستوطنين وهيئات استيطانيّة إسرائيليّة، بتهمة انتهاك حقوق الفلسطينيّين.
"خلط اوراقها"
المظاهرات الطلابيّة والتي سارعت إسرائيل، كدولة شرق أوسطيّة إلى "خلط أوراقها" واتّهام من يشارك فيها بأنه معادٍ للسامية، هي حالة جديدة ، تشكّل تركيبة مشاركيها الإثبات الأفضل على أنها مناهضة لسياسات إسرائيل وليست عداءً لليهود، فهم بين المشاركين فيها من أوّلها حتى نهايتها، من طلاب ومحاضرين، وبالتالي يسقط ادّعاء السياسيّين في إسرائيل حول معاداتها للساميّة، وهو ادّعاء تريد إسرائيل، ويريد مؤيّدوها إخفاء الحقائق وصرف النظر عن السبب الحقيقيّ، وهو تضاؤل وتآكل التأييد الذي تحظى به إسرائيل في أوساط الأجيال الشابّة الأمريكيّة التي تبتعد شيئًا فشيئًا عن المواقف التقليديّة، وتتّخذ مواقف مناوئة لإسرائيل لأسباب مختلفة منها رفضها لمواصلة الولايات المتحدة تمويل إسرائيل بعشرات مليارات الدولارات على حساب المواطن الأمريكيّ، دون أن تكترث إسرائيل خاصّة حكومتها الحاليّة، ورئيس حكومتها الحاليّ بذلك، كما أثبت خطابه المناوئ للرئيس باراك أوباما أمام مجلسي النواب، ورفض إسرائيل المطالب الأمريكيّة، وهي حالة تعزّزت عبر قرار أمريكيّ غير مسبوق بتطبيق قانون "ليهي"، الذي يحظر تقديم المساعدات الأمريكيّة، وبرامج التدريب من وزارة الدفاع الأمريكيّة، إلى وحدات الأمن والجيش والشرطة في دول يثبُت أنها ارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان، وفق معلومات وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، ومن هنا جاء إعلان الإدارة الأمريكيّة الحاليّة فرض عقوبات على كتيبة "نيتسح يهودا" بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في الضفة الغربيّة المحتلّة تطبيقًا لأوّل مرّة للقانون المذكور من العام 1999، ما يعني أن هذه الخطوة ستكون بمثابة المرّة الأولى منذ عقود إذًا التي تمّ فيها تفعيل قانون تاريخيّ أصدره الكونغرس منذ 25 سنة، بادر إليه السناتور السابق عن ولاية فيرمونت، باتريك ليهي عام 1997 ، بعد أن اتضح أن كتيبة من الجيش الكولومبيّ قامت بقتل آلاف من المدنيين عمدًا، للحصول على مكافآت ماليّة، مؤكّدًا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى أداة لمنع وصول المساعدات العسكريّة الأمريكيّة، وكذلك التدريب لوحدات أمنيّة وعسكريّة متورّطة بارتكاب جرائم خارج نطاق القضاء، ومنها القتل والاغتصاب والتعذيب وغيرها من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، علمًا أن الرئيس الأمريكيّ جو بايدن، أصدر في شباط 2023، قرارًا ينصّ على منع نقل أيّ أسلحة في حال وجدت الولايات المتحدة أنه من المرجّح أن تستخدمها قوة أجنبيّة في ارتكاب انتهاكات خطيرة لقوانين الحرب، أو حقوق الإنسان أو غيرها من الجرائم، مع الإشارة إلى أن القانون نفسه، يمنح وزير الخارجيّة إمكانيّة التنازل عن "قانون ليهي" إذا وجد أن الحكومة المعنيّة تتّخذ خطوات فعّالة لتقديم الجناة إلى العدالة، وهذا يعيدنا إلى التحذيرات التي صدرت من مناوئي الانقلاب القضائيّ في إسرائيل، والذين حذّروا من أن إضعاف جهاز القضاء، سيعود بالويل على الجنود والضباط والسياسيّين الإسرائيليّين، إذا شعرت هيئات سياسيّة وقضائيّة دوليّة أنه لن تتم محاكمتهم في إسرائيل، مهما ارتكبوا من مخالفات وجرائم، وتفعيل قانون " ليهي" ضد هذه الوحدة وأربع وحدات غيرها، هو الدليل على صحّة التحذيرات وفوق ذلك أوامر الاعتقال، أو الإحضار التي ستصدر، وربما صدرت سرًّا، ضد رئيس الوزراء وقادة الجيش وكبار رجالات الحكومة من محكمة العدل الدوليّة، وهي خطر حقيقيّ هذه المرّة، ما جعل الحكومة تجتمع لبحثه، رغم مطالب مشرّعين أمريكيّين إدارة بايدن بفرض عقوبات على أعضاء في محكمة العدل الدوليّة إذا ما تمّ إصدار أوامر اعتقال كهذه، قد تطال أيضًا الجنود النظاميّين وحتى المدنيين ممّن أدوا الخدمة الاحتياطيّة، خلال الحرب الحاليّة في غزة، أو غيرهم من المواطنين في إسرائيل، خاصّة إذا ما اتضح أن الجهاز القضائيّ ولأسباب سياسيّة وحزبيّة لا يريد محاكمتهم جرّاء اتهامهم بارتكاب اعتداءات ضدّ الفلسطينيّين.
وعودة إلى جامعة كولومبيا، ومديرتها نعمت (مينوش، نوعمي) شفيق ، مصريّة الأصل، فهي وبخلاف زميلتها رئيسة جامعة هارفارد، كلودين جاي، التي أعلنت استقالتها من منصبها، بعد تدخّلات سياسيّة، وردود فعل عنيفة ، وجلسة استماع تعرّضت جاي خلالها لضغوط للاستقالة من الجاليّة اليهوديّة في هارفارد، وبعض أعضاء الكونغرس بسبب تعليقاتها في جلسة استماع عقدت في الكونغرس، وتحديدًا بسبب تعليقاتها على شهادتها حول معاداة السامية في الحرم الجامعيّ، وأقوال لها حول كون الاحتجاجات نوعًا من التعبير عن الرأي، والمواقف السياسيّة من الحرب في غزة، رافضة بذلك محاولات ممارسة الضغط عليها وإلزامها بوضع حدّ للاحتجاجات، قرّرت نعمت شفيق بدورها وبعكس المتوقّع الخضوع للإملاءات والسياسات، وتماهت مع المطالب بقمع المتظاهرين ووافقت في كسر لكافّة الأعراف الأكاديميّة ، على إدخال الشرطة إلى الحرم الجامعيّ، وهدّدت مئات الطلاب والمحاضرين بالفصل إذا هم واصلوا الاحتجاج، كما رفضت مطالبهم، بوقف الاستثمار في إسرائيل، أو في شركات تدعم الجيش الإسرائيليّ، في مثال صارخ يعكس حالة خطيرة، تستوجب البحث والتدقيق لتصرّفات معظم المثقّفين العرب، الذين يصلون مراتب عالية في مؤسّسات أكاديميّة أمريكيّة وأوروبيّة، وربما هنا في إسرائيل، ربما بخلاف حالة يمكن اعتبارها خروجًا عن القاعدة كشفت زيف الادّعاء حول الحريّة الأكاديميّة والديمقراطيّة، هي اعتقال البروفيسور نادرة شلهوب كيفوركيان، دون أن يمنحهم الأمر، أو دون أن تتوفر لديهم، الشجاعة المهنيّة والأكاديميّة للإعلان صراحة عن مواقفهم وأفكارهم، والإصرار عليها، بل إن بعضهم يسارع فور توليه منصبه هذا إلى إعلان الولاء المبطّن والعلنيّ، للمسؤولين الذين عيّنوه، ما يثير التساؤل حول ما كنت أطلقت عليه في مقال سابق" عقدة الخواجة" ، أي خوف المسؤول العربيّ والمثقّف والأكاديميّ من الأجانب، خاصّة إذا كانوا هم من نصّبوه مسؤولًا، بعكس نظيره اليهوديّ الذي يجاهر علنًا بانتمائه ومواقفه، وهي الداعمة لإسرائيل في حالتنا هذه، وإعلان المموّلين اليهود للجامعات الأمريكيّة وقف التمويل جرّاء مواقف وتصرّفات اعتبروها مناوئة لإسرائيل، مقابل صمت أهل القبور من قبل المتبرّعين العرب للجامعات الأمريكيّة والأوروبيّة، وادّعاء الفصل، الصوريّ والزائف، بين الجامعات والتبرّعات، باستثناء حالة خاصّة مغايرة اتهمت إسرائيل ومؤيدوها فيها، قطر بتمويل جامعات أمريكيّة وحرفها عن نهجها المؤيّد لإسرائيل.
وإذا كان هذا ليس كافيًا، لا بدّ من السؤال هنا، عن سبب الفارق الشاسع بين الجامعيّين الأوروبيّين والأمريكيّين، ونظرائهم في الدول العربيّة، أو ربما بين الجامعيّ العربيّ في العالم والجامعيّ في العالم العربيّ، ومدى إدراك، أو عدم إدراك الأكاديميّ العربيّ عامّة وفي العالم العربيّ خاصّة، دوره الاجتماعيّ والفكريّ والإنسانيّ، وأهمّيّة مشاركته في النضالات الهادفة إلى تحقيق العدل العامّ دون فارق، وبالتالي لا تفسير منطقيّ، اللهم إلا الخوف واللامبالاة القتّالة، للجامعيين العرب والأكاديميّين في العالم العربيّ الذين تنازلوا طوعًا أو خوفًا وقنوطًا، عن دورهم، وبالتالي عن احتمالات اعتبارهم عناصر حيّة وفاعلة، وذات أهمية وصاحبة مساهمة في إحداث التغيير المنشود، فالمنشود كبير والموجود جامعات بالمئات في العالم العربيّ، وطلاب بمئات الآلاف قرّروا بأنفسهم تقزيم دورهم، والاكتفاء بالشهادة الأكاديميّة، فقط دون ما يتبعها وما يرافقها من دور مجتمعيّ هامّ يطمح إلى التغيير، وهم بذلك ينضمّون إلى نظرية تكريس ما هو قائم، والقبول به والأسوأ ربّما تبريره بمسوّغات، أقل ما يقال فيها، أنها عجز تامّ، وحقيقتها قبول بالجمود والتقوقع، والهدوء الذي تشهده الجامعات في الدول العربيّة، باستثناء تونس والأردن، الدليل الصارخ والمؤلم على البون الشاسع بين دور المثقف في العالم ومساهمته في كلّ جديد عبر التفكير الخلَّاق، وطلب العدالة وإزالة الغبن حتى لو كلّف ذلك الثمن، فالهدف العام هو الأسمى، وبين مثقف عربيّ يمارس ، تمامًا كالسياسيّين، لعبة خلط الأوراق وإطلاق الشعارات، وحين الامتحان يتراجع ويتقهقر، أما التغيير والشجاعة المهنيّة فلتنتظر حتى حين.... وهذا هو الفارق الجوهريّ بين سلطة المثقف (في الغرب) ومثقّف السلطة ( في الشرق).
صدق المفكر إدوارد سعيد حين قال، وأُلخِّص هنا ما جاء في كتابه " المثقّف والسلطة"، مستهجنًا اكتساب المثقّف عادات فكريّة تجعله يتخلّى عن موقفه القائم على المبادئ، رغم أنه يعلم أنه الموقف الصائب، وقوله إن المثقّف العربيّ:"يحاول أن لا يظهر في صورة من يختلف الناس عليه، ويأمل أن يُطْلَب من جديد لإسداء المشورة، أو للاشتراك في عضويّة مجلس، أو لجنة ذائعة الصيت، ويأمل أن يحصل يومًا على شهادة فخريّة، أو جائزة كبرى، وربما منصب سفير في دولة أجنبيّة"، أو قول فلاديمير لينين:" المثقّفون هم أكثر الناس قدرة على الخيانة، لأنهم أكثرهم قدرة على تبريرها".
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .