logo

الصحفي نظير مجلي من الناصرة يكتب : ‘ابونا إميل‘

29-02-2024 12:31:14 اخر تحديث: 01-03-2024 06:36:10

كما لو أن ما ينتابنا من مصائب وفقدان لا يكفي، فتلقينا ضربة أخرى بفقدان هذا العزيز الأب إميل شوفاني.


الكاتب والصحفي نظير مجلي - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت

الكاهن الذي يحمل رتبة ارشمندريت، في الكنيسة الكاثوليكية، لكنه في الميدان والعمل والتأثير، يرتقي إلى أعلى درجات رجال الدين ذوي البصمات التاريخية. الخوري الذي كان راعيا لرعية محدودة في المغار والناصرة، حظي باحترام المسجد والخلوة والكنيس. الأب الذي لم ينتخب لأي منصب جماهيري، أصبح شخصية اجتماعية تتجاوز حدود الكنيسة والمدينة والبلد، ذا شان لدى كثير من المواقع على مستوى الدولة والمنطقة والعالم. الرجل الذي لا يوجد له أي منصب سياسي، لكنه يلتقي كبار السياسيين في البلاد والمنطقة والعالم ويترك اثرا بالغا من الاحترام والتقدير. العلامة الذي لم يؤلف كتبا ولم ينشر مقالات فكرية، بيد انه كان صاحب فكر ورؤيا ومواقف أحدثت هزات في الكثير من الميادين.

" تاريخ حافل "

أجل، من كان على مقربة منه ومعرفة بنشاطه الدؤوب يعرف أن "أبونا إميل" سجل تاريخا حافلا دام أكثر من نصف قرن من العطاء، يدين له مئات الوف البشر. فهو راع لأجيال من الرعية في الكنيسة الكاثوليكية، الذي ترك فيمن خدمه بصمة ما، أفادته وأفادت بعده أناسا كثيرين وأجيالا عديدة. هو مدير المدرسة الذي تربى على يديه، على فكره الوطني والإنساني النير، ألوف الطلاب الذين أصبحوا من ذوي العطاء. هذا صار طبيبا يخدم ألوف الناس، وذاك غدا قائدا سياسيا يخدم عشرات الألوف، وآخر أصبح معلما أو مديرة مدرسة أو مفتشة معارف أو مستشارة تربوية. كم من تلاميذه أحبوا بفضله هذه المهنة وساهموا في تربية بناتنا وأبنائنا جيلا بعد جيل. وكم من تلميذة أو تلميذ عنده صار عالما في الفيزياء أو علم الفضاء، أو محاضرا جامعيا أو مهندسا أو رجل هايتك أو رجل دين أو رجل أعمال أو كاتبا أو فنانا أو شاعرا أو رساما أو نجما رياضيا، ألوف مؤلفة من المبدعين. وكل منهم أخذ معه في مهمته شيئا من بصمات المدير "أبونا".

المدرسة الإكليريكية في الناصرة تحولت في عهده إلى قلعة للعلم تميزت بالنجاحات المبهرة على مستوى الدولة، وبيتا دافئا للعمل الوطني المسؤول وخلية نحل للنشاط الاجتماعي والثقافي الدائمين وعشا مشعا بالأخلاق الحميدة وصرحا راسخا للانتماء.

" احترام مهيب "

وإنه الخوري الذي يحظى باحترام مهيب في المسجد. وليس صدفة. وعندما اكتوت مدينة الناصرة بنار الفتنة الطائفية، كان له موقف طليعي في تهدئة النفوس وإطفاء اللهيب وتذكير أهل المدينة بأصولهم وقيمهم والحث على العودة الى روح التآخي والمحبة. وعندما اكتوت المغار، بنار العداء واشتعلت الحريق في كنيستها وبيوت المسيحيين فيها، حضر اليها ليسحب الفتيل ويعيد المياه الى مجاريها.

ولكن كل هذا معروف. والناس يعرفون أشياء أكثر وأثمن عنه، وفي هذه الأيام تقال فيه أشياء كبيرة وتروى قصص جميلة عن تجارب الناس معه وكيفية حله للمشاكل ومقولاته الطيبة وترداده باقة من أجمل الآيات من كتاب الانجيل المقدس ورسائل الرسل الحكيمة. إلا أن ما يعرف أقل، هو ذلك الجانب في شخصيته الذي قاده للقاء عدد من كبار الشخصيات السياسية في منطقتنا. وقد أتيح لي ان أكون شاهدا على بعضها.

" مكانة الانسان العربي "

لقد عرفته من خلال حظوة أولادي بالدراسة في مدرسته، وكنت شاهدا على سياسة التحفيز التي جعلت من البنات قائدات لمجتمع ومن البنين رجالا للشهامة والعطاء. لكنني عرفته أكثر، عندما ترافقنا في مشروع انساني سياسي ووطني أطلقنا عليه اسم "ناس". كان ذلك في نهاية العام 2002، فترة ما يعرف بالانتفاضة الثانية، التي شهدت صراعا خانقا هدد وجودنا كعرب في وطننا. فنشأت حاجة ملحة لمبادرة تكسر الجمود في العلاقات بين المواطنين اليهود والعرب وتأخذ النزاعات الى تحالفات، تعزل التطرف وتفتح العيون على الآلام التي يأن تحت وطأتها الغالبية الساحقة من المواطنين. مجموعة كبيرة من الشخصيات العربية قررت القيام بمسار تعرف الى ثقافة الآخر، بكل ما فيها من معاناة. وسافرنا الى معسكر اوشفتس النازي، الذي تمت فيه المحرقة اليهودية، بوفد ضخم ضم 125 شخصية عربية و125 شخصية يهودية من إسرائيل ومثلهم (250 شخصية) من فرنسا، ثلثهم مسلمون وثلثهم مسيحيون وثلثهم يهودي.

لأن كلا منا يهمه اسمه وما يمثل، ويهمنا ألا تظهر المبادرة إهمالا للألم الفلسطيني، قررنا أن نشرك في القرار عددا من الشخصيات والقيادات العربية والفلسطينية. فالتقينا الرئيس ياسر عرفات ورئيس الحكومة في حينه، محمود عباس، والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى والمستشار الأكبر للرئيس المصري، د. أسامة الباز، و35 شخصية علمية من الكتاب والأدباء والباحثين في مركز الاهرام للدراسات وبعض رؤساء الأحزاب المصرية والشاعر محمود درويش والعالم محمود امين العالم وغيرهم. وتفهم الجميع المبادرة وايدوها باستثناء القائد اليساري المرحوم نبيل زكي، الذي رفضها، وقال إنها لن تفيد شيئا مع إسرائيل، والشاعر محمود درويش الذي أبدى تفهما لها لكنه قال إنه يعتقد بأن هذا ليس وقتها.

في النقاشات التي دارت يومها، تألق أبونا اميل، في الحديث عن مهمات المثقفين والقادة العرب في عصرنا وضرورة أن يحدثوا تغييرا جوهريا في رفع مكانة الانسان العربي ودفع ابداعاته. كان يتكلم بحرقة عن القدرات التي يتمتع بها الانسان العربي وكان حريصا على الحديث عن نماذج عينية من طلابه الذين حققوا إنجازات هائلة في البلاد والعالم. وبعد 20 سنة من تلك الفترة، التقيت الأستاذ عمرو موسى في المغرب، فسال: "قل لي إيه أخبار الكاهن الفذ اللي التقينا به في القاهرة. ده راجل علامة. عمري ما ح أنسى عبقرية أفكاره الجميلة".

أجل، لم يكن ممكنا لأحد ان يلتقيه ويكون اللقاء به عابرا. إن كنت تتفق معه أو تختلف، فإنه بشكل دائم يترك بصمات. وما من شك في ان شخصية بقائمته، يستحق وقفات عميقة إزاء فكره وعطائه.