د. جمال زحالقة - كاتب وباحث فلسطيني
يوآف غالانت بأن «رفح هي الهدف المقبل»، شرح نتنياهو أهمية الهدف قائلًا: «نحن ملزمون بالوصول إلى كتائب حماس الأخيرة الموجودة في رفح. نحن نفعل كل شيء من أجل صياغة خطة متفق عليها مع الأمريكيين، تجعل السكان يتركون المكان. من يريد أن يمنعنا من دخول رفح، يقول بكلمات أخرى إن علينا أن نخسر الحرب».
من جهته قال رئيس أركان جيش الدولة الصهيونية، الميجر جنرال، هرتسي هليفي، إن معركة رفح تنتظر القرار: «نترك توقيت العملية لقرار مشترك للمستويين العسكري والسياسي، وأنا واعٍ بأن القتال سيكون مركّبا في منطقة فيها أكثر من مليون إنسان وحوالي 10 آلاف من حماس علينا قتلهم». وكان نتنياهو قد حاول مطلع الأسبوع الحالي، في إطار صراعه مع المؤسسة العسكرية حول المسؤولية عن السابع من أكتوبر، رمي الكرة في ملعب الجيش ودعاه علنا لإعداد خطّة لاجتياح رفح، في تلميح أن المشكلة عند العسكر، ورد عليه الجيش بأن الخطط جاهزة وتنتظر القرار السياسي. وفي محاولة للتأكيد على أن الجيش من ناحيته جاهز بخطط تفصيلية لاقتحام رفح، قال هليفي في مؤتمر صحافي الثلاثاء الماضي: «كما عملنا في مراحل سابقة من الحرب، سنسعى لعزل السكّان، ولدينا القدرة على ذلك كما فعلنا في غزة وخانيونس.. متى سيحدث ذلك؟ سنقرر في الوقت المناسب وسننفذ بعزم وإصرار». ورد هليفي على القائلين بأن الهدن المؤقّتة ستفضي إلى وقف إطلاق النار مؤكّدا «إذا كانت هناك صفقة تشمل وقفا للأعمال القتالية كما كان في الاتفاق السابق، فنحن سنتمكن بسرعة فائقة بعد انتهاء الهدنة من العودة للقتال بقوّة لا تقل عما كان قبل وبعد الاتفاق السابق.. ما حدث في السابع من أكتوبر وضع أمامنا أهدافا واضحة ورسم لنا طريقا لا تقل وضوحا لتحقيق هذه الأهداف».لم يكن غانتس أقل تطرّفا في حديثه عن رفح، فقد صرح الثلاثاء الماضي: «لن يكون للإرهاب مأوى.. ولا سؤال حول العملية الواسعة في رفح».وهكذا نرى أن هناك إجماعا في الكلام الإسرائيلي عن اجتياح رفح كطريق وحيد لتحقيق الهدف. وكان الرأي السائد في الدولة الصهيونية منذ بداية الحرب هو أن على إسرائيل سد المنفذ الجنوبي لغزة وإخضاعه للمراقبة خوفا من تهريب الأسلحة عبر أنفاق تمتد إلى سيناء، ومالت النخب الإسرائيلية عموما إلى التوصل إلى اتفاق مع مصر يشمل بناء جدار عميق تحت الأرض لا تخترقه الأنفاق. مصر رفضت ذلك بشدة، رغم الإلحاح الإسرائيلي والأمريكي أيضا. وبعد اليأس من تجاوب مصر مع المخطط الإسرائيلي، أصبح الاجتياح الشامل لغزة هو الحل الوحيد المطروح في تصريحات القيادة العسكرية والسياسية في الدولة الصهيونية. ربّما تكون التصريحات الإسرائيلية موجّهة للضغط على حماس لإجبارها على تليين موقفها والقبول بصفقة، وفق الشروط الإسرائيلية مقابل منع الاجتياح الوشيك والحصول على هدنة لالتقاط الأنفاس. وربما تأتي التصريحات أيضا لإقناع القاهرة بالموافقة على التعاون بشأن رقابة مشتركة على محور فلادليفيا بين غزة وسيناء مقابل الامتناع عن اجتياح شامل لرفح، بما قد يحمله ذلك من احتمالات اندفاع السكان عبر الحدود المصرية، ولكن لا يبدو أن هذا النوع من الضغط ينطلي على حركة حماس ولا هو يؤثّر على الموقف المصري، بل على العكس، فقد أوضحت حماس أن محاولة احتلال رفح ستفشل صفقة التبادل، وهددت مصر بأن التمادي الإسرائيلي قد يؤدي بها إلى تعليق اتفاقية السلام، وإلى إدخال معونات إنسانية لغزة من دون رقابة إسرائيلية. ومع أن عنصر الضغط والتهديد موجود وحاضر في التصريحات الإسرائيلية، إلّا أنه لا ينفي أن جيش الاحتلال الإسرائيلي، يجهز نفسه لاجتياح رفح، وهو قد يرتكب هذه الجريمة فعلا. وبما أنّها حرب، وتحمل احتمالات الخدع والتمويه والخطط السرية، فقد يبدأ اجتياح رفح في أي لحظة، وقد يحصل اجتياح لمنطقة دير البلح، التي لم تدخلها القوات الإسرائيلية إلى الآن، ولكن يبدو الأرجح أن عوامل تأجيل العدوان على رفح أقوى من دوافع الإسراع به:
أولا، إسرائيل بحاجة لعدة ألوية عسكرية للقيام بعملية واسعة في رفح، وهي بحاجة لوقت لإعادة قوات الاحتياط التي جرى تسريحها، ولتحويل فرق من الجيش من جبهات أخرى. ويشير المحللون الإسرائيليون إلى أن عدد الجنود الإسرائيليين في غزة قد تضاءل كثيرا، وقتال مكثّف جديد يحتاج لقوات إضافية، قد يستغرق تجميعها أياما وأسابيع.
ثانيا، لا تستطيع إسرائيل تجاهل الموقف الأمريكي، الذي يشترط إخلاء المدنيين قبل الشروع بالهجوم الشامل، وقد وافقت كل القيادات الإسرائيلية على هذه «النصيحة» الأمريكية، وتحمّس نتنياهو بالاستجابة لها، فهو يحبّذ إخلاء الفلسطينيين من حيث المبدأ، وليس بحاجة لإقناع. ويجري الحديث في إسرائيل عن إقامة مدن خيام لتهجير حوالي مليون ونصف المليون فلسطيني إليها. وهذا يستغرق وقتا أيضا.
ثالثا، يعاني الجيش الإسرائيلي من الإعياء، ويبدو أنه بحاجة إلى «استراحة» قبل مرحلة رفح. وعليه فإن إسرائيل معنية جدا بالتوصل إلى صفقة لهدنة مؤقّتة، خاصة قبل شهر رمضان المبارك، الذي تخشى إسرائيل أن يكون محفّزا لاندلاع مواجهات في جبهات أخرى، خاصة في القدس. وبطبيعة الحال، فإن هدنة لشهر ونصف الشهر ستؤجل اجتياح رفح لشهر ونصف الشهر على الأقل.
رابعا، يثير الاحتكاك مع مصر بشأن رفح ومعبر فلادليفيا قلقا شديدا في القيادة الإسرائيلية، وهي ما زالت تأمل بالتوصل إلى تفاهمات مع مصر قبل القيام بعملية عسكرية. وهذا أيضا بحاجة إلى وقت لتقنع القيادة الإسرائيلية نفسها بأن مصر لا تستجيب لها، خاصة أن دخول قوات إسرائيلية كبيرة إلى رفح المتاخمة للحدود المصرية هو خرق لاتفاقية السلام الإسرائيلية المصرية، التي تنص على منطقة عازلة على طرفي الحدود.
يثير احتمال قيام إسرائيل باجتياح رفح قلقا عالميا وعربيا، ما قد يخلق الانطباع بأن هذه هي المشكلة، ولكن حتى قبل الحديث عن رفح، يجب أن يكون هناك أكثر من قلق عما يجري في غزة عموما، خاصة أن المجازر اليومية متواصلة على مدار الساعة، والكارثة الإنسانية تتفاقم يوما بعد يوم، ولا تنفعها «الجهود الدبلوماسية الرصينة» العقيمة بمردودها، والكارثية بمحصلتها. المطلوب حقا ألّا تقتصر الجهود على صفقة تبادل وهدنة مؤقّتة ومنع اجتياح رفح، بل الواجب القومي والإنساني هو العمل الجدي والمجدي لوقف كامل وشامل لإطلاق النار.
في ظل كل ما يجري من جرائم فظيعة بحق شعبنا في غزة، كيف لقادة فلسطينيين أن يقولوا بأنهم يقومون بواجبهم، وبأن الموقف العربي يرتقي إلى مستوى الحدث، كيف تطلق التصريحات الداعمة سلفا لتطبيع جديد إذا شمل وعدا بمسار لحل «الدولتين». وإذا كان الحديث عن «خطة مخرج عربية» تشمل وقف إطلاق النار ووحدة فلسطينية وإعادة إعمار وخريطة طريق لحل سياسي، فهي لا تغدو كونها فذلكات كلامية، تتجاهلها إسرائيل ولا تبالي بها الإدارة الأمريكية. والكلام الذي يصبر عليه الناس في الأيام العادية، لا ينفع أمام حالة الدمار الشامل والإبادة الجماعية، وفيه إهانة للضمير الفلسطيني والعربي. إسرائيل مندفعة بقوة في حربها الإجرامية القذرة، ولن يوقفها طيب الكلام ولا حتى وعود التطبيع، كما يتوهم البعض. ما قد يجبر إسرائيل على وقف الحرب هو ضغط فعلي عربي وأمريكي. على الدول العربية جميعا أن ترسل إنذارا بأنها تلغي التطبيع القائم والمقبل، ما لم توقف إسرائيل عدوانها الإجرامي على غزة. هذه رسالة مزدوجة لتل أبيب وواشنطن، يجب ان تتلوها رسائل أخرى من النوع الثقيل، وأن يصحبها إدخال المعونات ضخمة إلى غزة دون إذن إسرائيلي.
هي أزمة لن تحلّها إلّا أزمة.