د. جمال زحالقة
من لواء 179، في موقع المدرعات في اللطرون (المنطقة التي استشهد فيها عام 1948 القائد الفلسطيني الكبير عبد القادر الحسيني) قال نتنياهو: « لب سياستنا هو النصر المطلق على حماس. هذا شرط ملزم للحفاظ على أمن إسرائيل. هذه هي الطريق الوحيدة لضمان المزيد من اتفاقيات السلام التاريخية التي تنتظر على الأبواب. النصر المطلق يوجّه ضربة قوية لمحور الشر المكوّن من إيران وحزب الله والحوثيين وبالطبع حماس. وإذا لم يحدث هذا، فإن المجزرة التالية هي مسألة وقت، وإيران وحزب الله سوف يحتفلون بذلك، وسوف يقوّضون الشرق الأوسط».
وفي يوم الثلاثاء الماضي، التقى نتنياهو عائلات جنود قتلى من «منتدى البطولة»، ووعدهم بالنصر القريب: «أنا أركّز اهتمامي بأمر واحد رئيس وهو النصر المطلق. نحن في الطريق إلى هذا النصر، ونتقدم نحوه طيلة الوقت. أبطالنا لم يسقطوا سدى.. هذا الموقف يمثل الغالبية الساحقة من الشعب. يوجد هنا وهناك بعض المحللين الذين يقولون إن هذا غير ممكن، لكن من المهم أن تعرفوا أنه صار في متناول اليد».
تدل هذه التصريحات على نوايا ومخططات لها تأثير حاسم على مجريات الحرب وتداعياتها، خاصة أن المتحدّث ما زال على رأس هرم اتخاذ القرار في الدولة الصهيونية. وبعد مراجعة عدد من أشرطة الفيديو، للقاءات نتنياهو مع جنود وضباط في الأسابيع الأخيرة، تبين أنّه لم يتطرّق لموضوع المحتجزين. هذا ليس صدفة، فهو يحاول تجنّب الحديث عنه، ولا يفعل ذلك إلّا مضطرا، وفي سياقات محددة.
وما غاب عن خطابات نتنياهو الأخيرة لا يقل أهمية عمّا جاء فيها، لأنّه ليس معنيا بوقف إطلاق النار قبل تحقيق أهدافه المعلنة، الذي يظن أنها ستنقذه من السقوط الحر. وللمقارنة فإن معظم القيادات الإسرائيلية لا تتطرق إلى أهداف الحرب، من دون أن تذكر إعادة المحتجزين كهدف مركزي، وبعضها تعتبره الهدف الأول. عند الحديث عن صفقة تبادل جديدة، يجب الانتباه إلى أن نتنياهو بدأ في الكواليس بتحريك حملة معارضة لها، ويظهر ذلك في تصريحات وزراء مقربين منه في جلسات الحكومة، وفي الأجواء السائدة في وسائل الإعلام التابعة مثل القناة 14، التي يسود برامجها إجماع ضد الصفقة. ومن المعروف عن نتنياهو، أنه وعلى مدى عشرات السنين كان يطلب من قيادات يمينية أن تعلن عن مواقف يستغلها هو، محليا وخارجيا، للامتناع عن اتخاذ خطوات معيّنة. هكذا يمكن تفسير تصريحات وزراء الليكود ضد الصفقة، على أنها كانت وفق الطلب.
كما أن نتنياهو يحتمي بعائلات جنود قتلى يستدعيها لتطلب منه مواصلة القتال حتى «النصر المطلق»، في مقابل عائلات محتجزين تضغط للقبول بشروط التبادل، حتى لو كان منها وقف القتال، وهو لا ينسى أن يبث بطرق مختلفة أن أهالي المحتجزين هم من اليساريين المناهضين له أصلا. يعتقد نتنياهو أن تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين ووقف الحرب هو انتصار لحماس وهزيمة له. هو بالطبع مستعد لصفقة بالمقاييس الثلاثة التي وضعها: لا لتحرير الآلاف، ولا لوقف الحرب، ولا للانسحاب. ولكن هذه شروط من المستحيل أن تقبل بها حماس في إطار صفقة شاملة. الأمر الممكن نظريا هو تطبيق المرحلة الأولى من الصفقة المقترحة، التي تشمل هدنة مؤقتة لمدة شهر ونصف الشهر. وإذ يخشى نتنياهو أن تؤدي الهدنة لاحقا إلى وقف لإطلاق النار، وإنهاء الحرب من دون تحقيق أهدافها وأهدافه منها، فهو قد يحاول إفشال المرحلة الأولى إذا استطاع الصمود أمام ضغط العائلات والإدارة الأمريكية وشركائه في مجلس الحرب الجنرالين غانتس وآيزنكوت.
اللافت للانتباه في تصريحات نتنياهو الأخيرة، هو إصراره على «النصر المطلق»، في حين أن بقية القيادة الإسرائيلية لا تستعمل هذا التعبير. وهو يتحدث بهذه الصيغة، لأنّها تمكّن من إطالة الحرب بلا حدود. ويرى نتنياهو أن وقف الحرب، من دون تحقيق «النصر»، يعني أن تحل به ثلاث «كوارث»:
الأولى، خسارة السلطة، وهو يصر على البقاء فيها، وليس مستعدا للتنازل عنها لغيره، ويعرف بالتأكيد أن المظاهرات والاحتجاجات ولجان التحقيق، وربما التمرد الداخلي في الليكود، ستجبره على النزول عن «العرش». وعليه هو يحاول خلق معادلة تحميه من ذلك عبر مواصلة الحرب وتحقيق إنجازات فيها، تمكّنه من خوض المعركة السياسية مسلّحا بالادعاء بأن معارضيه والمؤسسة الأمنية مسؤولون عمّا حدث في السابع من أكتوبر، وهو مسؤول عن النصر وعن تقويض حماس.
الثانية، السجن، فنتنياهو يعرف تماما مصير أولمرت، الذي قرر خوض الحرب على لبنان عام 2006، وخرج منها تلحقه لعنات الإخفاق والفشل، ما سهّل إدانته في المحكمة وسجنه، بعد ما استقوى عليه أقرب الناس إليه، فشهدوا عليه وقدّموا أدلة دامغة ضده، أدّت إلى إدانته ورميه خلف القضبان. ولو خرج أولمرت من الحرب منتصرا لأصبح «بطل إسرائيل» لا يجرؤ أحد على التورّط بالمساس به. نتنياهو يخشى أن يكون هذا هو مصيره وعنده ما يكفي من الأسباب لذلك.
الثالثة، لعنة التاريخ، فوالد نتنياهو مؤرّخ، وهو نفسه شديد الاهتمام بميراثه التاريخي، ويعتبر نفسه ثالث القيادات المؤسسة للصهيونية، بعد هرتسل وبن غوريون، خاصة أنّه صاحب سجل أطول مدة في رئاسة حكومة الدولة الصهيونية (17 عاما). هو يعرف تماما أنه إذا انتهت الحرب بالفشل، فسيخسر المنصب، وقد يسجن وستلحقه اللعنات طيلة حياته وحتى بعدها، وبعد أن سوّق نفسه «حامي أمن إسرائيل» سيصبح ماحي أمنها.
نتنياهو ليس غبيا حتى يعتقد فعلا أنه يستطيع تحقيق «النصر المطلق» على أرض الواقع، لكنّه يراوغ بهذا التعبير لإطالة الحرب ريثما يحقق بعض الإنجازات التي يمكن أن يلوّح بها للعودة إلى الحكم. لكنّ كون «النصر المطلق» هدفا مستحيلا لا تقلل من خطورته، بل قد تزيدها. فالسعي لهذا الهدف يترجمه الجيش بالمزيد من القصف والدمار والتهجير والإبادة والمجازر والمذابح، وبالاستمرار بذلك طالما لم يتحقق الهدف، استنادا إلى قاعدة «ما لا يأتي بالقوة يأتي بالمزيد من القوّة». هكذا تحوّل «النصر المطلق» إلى أخطر وأفظع هدف يمكن تخيّله، بالذات لأنه شبه مستحيل، ما يعني الاستمرار بحرب الدمار والإبادة نحو غاية لا يمكن الوصول إليها، وهي قد تتحوّل إلى «حرب لا تنتهي» ينفلت فيها نتنياهو لأشهر وسنوات إن لم يجد من يلجمه. ما زال نتنياهو قادرا إلى الآن على فرض موقفه على القيادة السياسية والأمنية في الدولة الصهيونية. السؤال كيف يمكن مواجهة ذلك فلسطينيا وعربيا ودوليا؟ وقبل الاجتهاد في الإجابة لا بد من التنويه بأنه يجب عدم تصديق تصريحات المسؤولين الأمريكيين، وبضمنهم وزير الخارجية بلينكن، الذي يزور المنطقة هذه الأيام، فهم يبيعوننا كلاما ووعودا كاذبة، ويعطون كل الدعم العسكري والمخابراتي والاقتصادي والسياسي للعدوان الإسرائيلي. علينا أن نصدّق قذائفهم القاتلة وليس كلامهم، حتى لو كان وعدا بالاعتراف بدولة فلسطينية، فالسيف (في المعركة) أصدق إنباءً من الكذب على منصات الكلام.
الولايات المتحدة داعمة لإسرائيل، وهي حتى لم تطلب وقف الحرب، فكيف يصدق البعض أنها ستحقق هدفا لا تسعى إليه؟ هي أعلنت المرة تلو الأخرى، أنها تدعم «القضاء على حماس»، وهذا بالضبط ما تسعى إليه إسرائيل. لا بد، إذن، من ذات فلسطينية فاعلة ومدركة لثقل اللحظة التاريخية، والمطلوب فورا قرار وطني فلسطيني مستقل بالتوصّل إلى اتفاق وحدة لا يأخذ إذنا من الإدارة الأمريكية، ولا يستجدي اعترافا من إسرائيل. وبالإمكان سياسيا طرح عنوان فلسطيني واحد وموحّد يمنع الإملاءات الإسرائيلية والأمريكية في غزة وفي الضفة. إن وجود قيادة موحدة سيجبر الدول العربية على التعامل معها كأمر واقع، يجب القبول به، وسيجعل العالم أيضا مضطرا لعدم تجاوزه. واستنادا إلى الوحدة يمكن إطلاق مبادرات فلسطينية، بدعم عربي، لكل المسائل الملحة والمهمة، من اليوم التالي وإعادة الإعمار وإدارة شؤون غزة والضفة إلى طرح مشروع لحل عادل للقضية الفلسطينية. هكذا يمكن تجنيد الوزن العربي والإسلامي والدول والقوى الداعمة للحق الفلسطيني للضغط باتجاه وقف النزيف وبداية الإشفاء.