المحامي زكي كمال - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت
بالقول الشهير منذ ثمانينات القرن الماضي، والمنسوب للصحفيّ العسكريّ المعروف عميرام نير، " التزموا الهدوء والصمت.. الآن نطلق النار"، أو بكلمات أخرى" تتكلّم المدافع فيصمت الجميع"، بل كانت بخلاف السنوات الأولى من عمر الدولة، وكما اعترف الجميع، ولو تلميحًا، حالة مؤقّتة بل مصطنعة، لا تلغي الخلافات والاختلافات والحرب السياسيّة، بل تؤجّل موعدها، وتزيد من حدّتها حتى تنفجر على أشُدِها فور انتهاء الحرب، أو مع اقتراب نهايتها، وهو ما أكّدته التطوّرات الأخيرة التي شهدتها إسرائيل، والتي تشمل عودة إلى السجال السياسيّ الحادّ بين أطراف الحلبة السياسيّة، وحتى بين الشركاء في ائتلاف الحرب الذي يضمّ بين صفوفه الائتلاف اليمينيّ المتطرّف برئاسة بنيامين نتنياهو، وحزب المعسكر الرسميّ برئاسة بيني غانتس، والتهم المتبادلة بين أطرافه ومحاولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلصاق تهمة الفشل الذريع في منع أحداث السابع من أكتوبر بكلّ من سبقه من الزعماء بدءًا بالمرحوم إسحق رابين الذي وقّع اتفاقيات أوسلو عام 1993 وأريئيل شارون عرَّاب الانسحاب من طرف واحد من غزة عام 2005، ويرفض الحديث عن تحمّل المسؤوليّة والاستقالة قائلًا إن الشيء الوحيد الذي يريد "التخلّص منه" هو حركة "حماس" بقادتها ومسلّحيها، ولو استوجب ذلك حربًا طويلة المدى، وعليه كان نتنياهو قد طلب من أفراد حزبه الليكود، الدعم لمواصلتها لمدّة أشهر طويلة وعديدة، خلال جلسة خاصّة، تأكّدت خلالها صحّة الحديث عن تصاعد واضح في حدّة الخلافات السياسيّة خاصّة بين مركبات ائتلاف الحرب في إسرائيل، وازدياد الفجوة أو الهوّة بين الأعضاء فيه، خاصّة بعد أن اتّضح أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يفضّل عدم إجراء أيّ نقاش، أو حوار، أو بحث لما سيكون عليه الحال بعد الحرب، مؤكّدًا أنه يجب أن يتم أوّلًا إخضاع حركة "حماس" ومنعها من تشكيل أيّ خطر، أو تهديد لأمن إسرائيل ومواطنيها، وهذا يعني تمكينه من مواصلة الحرب وفق أهوائه وإرادته، كما أشارت تسريبات رشحت عن جلسات الحكومة الموسّعة، أو المجلس الوزاريّ للحرب، أو المجلس الوزاريّ المصغّر، حول استعداد نتنياهو لحرب طويلة تستمر سنة، أو أكثر، أو ربما سعيه إلى ذلك لمصلحته السياسية، وتأكيده مرّة تلو الأخرى على مواصلته التمسّك بمنصب رئيس الوزراء، ورفضه حتى مجرد الحديث عن انتخابات عام 2024، والتمسّك بالائتلاف اليمينيّ المتزمّت على حساب الشركاء الجدد الذين انضموا بعد انطلاق الحرب، كما اتّضح من تأييده لقرار وزير الأمن القوميّ إيتمار بن غفير، تعيين مفوّض عامّ لمصلحة السجون خلفًا للمفوّضة السابقة كيتي بيري، وخلافًا للاتفاق الائتلافيّ بين نتنياهو والمعسكر الرسميّ بقيادة بيني غانتس الذي يمنع تعيين المسؤولين الكبار، خلال فترة الحرب وبضمنهم المفتّش العام للشرطة ومفوّضة مصلحة السجون، وغيرهما، ما أدّى إلى زيادة الشعور بأن انسحاب غانتس من حكومة الحرب هو مسألة وقت ليس إلا، وذلك على وقع الأحاديث المتزايدة عن اقتراب موعد انتهاء الحرب، أو انتقالها إلى ما يسميه نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت، المرحلة الثالثة من الحرب، والتي ستتواصل ربّما دون قيود أو تقييدات، ولكن بوتيرة منخفضة، أو بقوّة خفيفة على غرار حرب الاستنزاف التي سبقت حرب أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل على جانبي قناة السويس .
وكلّها أمور كانت كافية لتقريب نهاية الحكومة الموسّعة من جهة، وإعادة الخلافات السياسيّة والمعارك الحزبيّة إلى سابق عهدها الذي كانت عليه قبل الحرب، على خلفيّة الخلافات السياسيّة والاحتجاجات الجماهيريّة، المناوئة للانقلاب الدستوريّ، والتي خفتت حدّتها بعد أن علت أصوات المدافع والطائرات، دون أن تختفي نهائيًّا خاصّة من على صفحات التواصل الاجتماعيّ، وبدعم خاصّ من مقرّبي رئيس الوزراء، لكنها عادت لتؤكّد كون السياسة لم تختف حتى خلال الحرب، بل إنها كانت هناك وما زالت، وهو ما أكّده ، خلافًا لمحاولات الكثيرين الادّعاء بأن قرار محكمة العدل العليا الذي نصّ على إلغاء قانون "حجّة الأرجحيّة أو المعقوليّة" بأغلبية ثمانية قضاة مقابل سبعة، ولكن مع إعلان 12 قاضيًا من قضاة المحكمة بأنه يحقّ لها التدخّل في تشريعات وقرارات يتّخذها البرلمان، حتى لو كانت تحت عنوان قوانين الأساس، وتحديدًا ما رافق القرار من ردود فعل حتى قبل قراءته كاملًا والتعمّق فيه، والتي حاولت استغلال الحرب التي تخوضها إسرائيل في غزة، لتبرير مهاجمة القرار من منطلقات سياسيّة وفئويّة، وتحديدًا مهاجمته من حيث الفحوى والمضمون أوّلًا، أو على الأقلّ توقيته من باب العمل بما جاء في كتاب " نظام التفاهة" صدر بالفرنسية عام 2015 – La Medicoratie وبالانجليزيّة : "Mediocracy" لمؤلّفه الكاتب الكندي آلان دونو الذي حذَّر من سياسيّين وغيرهم، يبتعدون عن الخوض في الجوهر، والنقاش العقلانيّ الذي يحترم العقل والناس أصحاب الفكر، وقال إن نظام التفاهة يعني التنازل عن التفكير العميق، والامتناع عن النظر الجادّ والحقيقيّ إلى الأشياء، بل التوجه إلى الصغائر والسطحيّة ، هروبًا من النقاش الجادّ إلى الغوغائيّة، وبالتالي اتّضح كما يبدو أن الحرب السياسيّة في إسرائيل، أشدّ وأقوى من أن تحجمها الحرب العسكريّة، أو بكلمات أشدّ وأقسى، فإن العداوة مع "حماس" والحرب ضدّها، لا تستطيع أن تضمن إسكات صوت العداء السياسيّ والحرب الحزبيّة في إسرائيل، خاصّة مع اقتراب نهاية الحرب العسكريّة أو خفوتها، بما يقترب من القول الشهير المتعلّق بالحرب الباردة، والذي جاء فيه" مع اقتراب نهاية الحرب الباردة ، لم تعد معاداة الشيوعيّة ضمانا للحماية الأمريكيّة" ، حتى يمكن القول هنا "مع اقتراب انتهاء الحرب في غزة، لم تعد العداوة مع "حماس" ضمانًا لمنع عودة الحرب السياسيّة".
" انقلاب قضائي مضاد"
قرار محكمة العدل العليا من يوم الإثنين، وردود فعل المؤيّدين للانقلاب القضائيّ حول كونه انقلابًا قضائيًّا مضادًّا هو الثاني بعد الانقلاب الذي يتهم اليمين رئيس المحكمة العليا الأسبق البروفيسور أهارون باراك بتنفيذه، تؤكّد أن الحرب الهادفة إلى مواصلة هذا الانقلاب الذي بادرت إليه الحكومة الحاليّة، سوف يتم استئنافها دون هوادة، مع صمت أصوات المدافع، وانتهاء الحرب، دون شرح ما إذا كان الحديث عن نهاية تامّة، أو نهايتها بشكلها الحاليّ من قصف متواصل واجتياح بريّ وتواجد عشرات آلاف الجنود داخل قطاع غزة، تؤكّد صحّة قول كارل فون كلاوزفيتز، الخبير الإستراتيجيّ العسكريّ البروسيّ، حول كون الحرب في حدّ ذاتها لا تلغي الخلافات السياسيّة، ولا تجعلها شيئًا مختلفًا تمامًا، ما يعني أن السياسة تستمرّ ربما عبر مجريات الحرب، وأن الحرب تخدم أهدافًا سياسيّة، وبعبارة أخرى "تسييس الحرب" ، وهي النتيجة الحتميّة لما كنت قد كتبت عنه من " عسكرة للسياسة"، وأن الحياة في إسرائيل تسير وفق قول رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين الذي قال إن إسرائيل تواصل البحث عن السلام، وكأَن الإرهاب غير قائم، وتواصل مكافحة الإرهاب وكأَن السلام غير موجود، وبالتالي فإن الحرب الحاليّة تتمّ وكأَن لا حلول، أو تبعات، أو اعتبارات وجوانب سياسيّة لها، منها الحديث عن ما بعد الحرب، وأنها تستمر وسط ستار من دخان الوحدة، وكأن لا خلافات سياسيّة، ولكنّ من جهة أخرى تستمرّ السياسة، تحت البساط، وكأن الحرب غير موجودة، والأمثلة في الأسابيع الأخيرة كثيرة منها محاولة الائتلاف الحكوميّ سنّ قانون، أو اتخاذ خطوات تمنع السلطة القضائيّة من مزاولة عملها كالمعتاد، وتمنع أو تؤجّل إصدار محكمة العدل العليا قرارها حول " قانون الأرجحيّة"، رغم أن القانون هو الذي يحدد موعد إصدار القرار، وبالتالي يلزم المحكمة بإصداره قبل الخامس عشر من الشهر الحاليّ خاصّة على ضوء انتهاء ولاية القاضية إستير حيوت كرئيسة لهذه المحكمة، ومواصلة نقل الميزانيات إلى وزارات لا مكان ولا عمل لها ، بل إنها نتاج اتفاقيّات ائتلافيّة وقعها نتنياهو مع أحزاب اليمين المتطرّف والمتديّنين المتزمّتين- الحريديم- على حساب احتياجات أخرى كدعم الجنود وخاصّة جنود الاحتياط، ومنع ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكيّة، ودعم الطلاب الجامعيين، ومنع تفاقم العنف في المجتمع العربيّ، ومواصلة تجويع الجهاز الصحيّ وخاصّة ذلك الذي يعالج الصحّة النفسيّة، ناهيك عن مواصلة عدد من الوزراء في الحكومة توجيه أصابع الاتهام للحكومات السابقة وتحميلها مسؤولية ما حدث مطلع أكتوبر، ومحاولة مؤيّدي الحكومة الحاليّة والائتلاف الحاليّ، الشركاء المؤقّتين فيه وخاصّة بيني غانتس، بأنه لا يخدم مصالح الدولة، بل يحاول- حسب الاتهامات- لمصلحته الخاصّة وضع العقبات أمام استمرار الحرب، وكأن استمرار الحرب هو الهدف بحدّ ذاته، ويصرّ على أن يعلن رئيس الوزراء عن جلسة لبحث مستفيض لما سيكون الحال عليه بعد انتهاء الحرب، أو كأَنه يحاول منع نتنياهو من الانتصار في الحرب وقلع شوكة "حماس"، في ظاهرة تعكس الحالة المرضيّة التي تعانيها الحلبة السياسيّة في إسرائيل من تنازل عن المبادئ والقيم والأيديولوجيّات، والبرامج الحزبيّة والسياسيّة، وتكريس فردانيّة القائد وكونه العامل الأهم، الذي يجب الدفاع عنه، واتهامات لقادة الجيش أنهم تقاعسوا بشكل مقصود وللطيارين، وبعضهم من المتطوّعين الذين أعلنوا خلال المظاهرات الاحتجاجيّة التي شهدتها إسرائيل، أنهم سيتوقّفون عن التطوع في سلاح الجوّ احتجاجًا على الانقلاب القضائيّ وتحويل إسرائيل إلى دولة دكتاتوريّة وإلغاء للديمقراطيّة، عبر إلغاء استقلاليّة الجهاز القضائيّ وتسييس القضاء، وهذا سنعود إليه لاحقًا، بأنهم رفضوا قصف منزل في قطاع غزة ممّا أسفر عن مقتل جنود من وحدة للمشاة، معظم جنودها وأفرادها من المتديّنين واليمينيّين المؤيّدين للانقلاب القضائيّ، وكلّ هذا إضافة إلى محاولة الشرطة والوزارات المختصّة، منع أو كتم الأصوات الداعية إلى وقف الحرب، أو تقصير مدّتها، منعًا لتورّط إسرائيل في الوحل الغزيّ، على غرار ما حدث لها في لبنان عامّة والجنوب اللبنانيّ خاّصة، ناهيك عن أن نتنياهو يريد الاعتماد في إبقاء غزة تحت السيطرة الأمنيّة الإسرائيليّة على حمائل وقبائل من غزة، في تكرار لسيناريو "روابط القرى" والتي يؤكّد كثيرون أن إسرائيل دعمتها كجسم موازٍ لحركة" فتح"، وأنها ساهمت بذلك في إنتاج وولادة حركة "حماس" ، وصولًا إلى اليوم وما نحن فيه، علمًا أن ذلك يعني تسييس الحرب وتسييس نتائجها ومجرياتها خدمةً لمصالح سياسيّة حزبيّة وشخصيّة، ما يؤكّد عمق الفجوة بين تصريحات السياسيّين في البلاد، حول أهداف الحرب الحاليّة وهي القضاء على حركة "حماس"، وإلغاء قوتها العسكريّة وقدرتها السلطويّة، واستعادة المخطوفين والمحتجزين، وترميم قدرة إسرائيل على ردع الأعداء، وبين الواقع على الأرض خاصّة مع دخول الحرب يومها الـ 91 دون أي علامة لنهاية الحرب، أو انتهائها، بل إن هناك من يؤكد أن العودة إلى الانشغال بالسياسة والحديث عن الانتخابات والمسؤوليّة السياسيّة، إنما هو التعبير عن أن إسرائيل الرسميّة تدرك ان الحرب طويلة، وربما لسنوات، وأنها لن تحصل على " صورة انتصار" واضحة وبارزة، وأن المواطنين في غزة لن يقوموا بإلقاء الورود والأرُز، على الجنود الإسرائيليّين، أو ارتال الدبابات الإسرائيليّة كما حدث خلال حرب لبنان الأولى مطلع ثمانينات القرن الماضي، وهو اجتياح اعتقد الساسة في إسرائيل ومعهم قادة الجيش أنه سيضع حدًّا للوجود الفلسطينيّ في لبنان، وسيفقد منظمة التحرير الفلسطينيّة والعمليّات العسكريّة ضد إسرائيل، لكنّه تحوّل إلى غوص في الوحل اللبنانيّ حتى العام 2000، في حالة سبقها غوص الولايات المتحدة في الوحل الفيتناميّ، وبعدها الوحل الأفغانيّ.
تسييس الحرب، أو استخدامها لأهداف سياسيّة، أو تكريسها لأهداف سياسيّة، كما يصف البعض الوضع اليوم، والذي تؤكده الخلافات بين نتنياهو وأعضاء مجلس الحرب، حول تصريحات نتنياهو التي رفض فيها موقف وزير الأمن يوآف غالانت بأن إسرائيل لا تنوي احتلال محور فيلادلفيا، وموقف غالانت من أنه سيقبل أي جهة يمكنها إدارة شؤون قطاع غزة، باستثناء "حماس" ، والسجال بين نتنياهو ورئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، الذي كشف أن إسرائيل نفّذت عمليّة عسكريّة في إيران في شهر شباط 2022، ما دفع نتنياهو إلى اتهامه بأنه عديم المسؤوليّة، وأنه لا حقّ له في التطرّق إلى هذا الشأن خاصّة أنه ليس رئيسًا للوزراء اليوم، يعني أن القيادة السياسية في إسرائيل تتناسى العبر التاريخيّة، بل تتعامى عنها، التي تؤكد أن الحروب في العصر الحديث لا تقتصر على النتائج العسكريّة، وأن صورتها النهائيّة ليست عسكريّة فحسب، بل إنها قد تنتهي أحيانًا إلى نتيجة سياسيّة تختلف عن تلك العسكريّة، أي أن طرفًا ما في الحرب قد يحقّق انتصارًا سياسيًّا رغم الهزيمة العسكريّة، والعكس صحيح، وكل ذلك بفعل الطريقة التي تتم فيها إدارة الحرب من جهة والتعالي على الأهواء السياسيّة، والتركيز على الجانب العسكريّ والعملياتيّ من جهة، وطريقة إجراء المفاوضات الهادفة إلى إنهائها، ووضع تصوّرات واضحة لما بعد نهايتها، وهذا ما لا يتم في إسرائيل في الحرب الحاليّة، والتي يبدو اليوم واضحًا أن نهايتها العسكريّة حتى وإن كانت وفق صورة انتصار كاملة وشاملة تشمل القضاء على كافّة القياديين في "حماس"، وهدم الأنفاق والقضاء على قدرة "حماس" العسكريّة، فإنها لن تخفي الهزيمة السياسيّة، أو الإخفاق السياسيّ والاستخباراتيّ الذي سبقها، وكون إسرائيل إحدى الجهات التي ساهمت في صياغة قوة "حماس" عبر تسهيل إدخال الأموال القطريّة إلى غزة ، بمعدّل 30 مليون دولار شهريًّا، علمًا أن تسييس الحرب، لا يمكنه أَن يكون حالة قائمة بحدّ ذاتها، أو منفصلة عن الواقع السياسيّ والحوكمة في إسرائيل، والتي تشهد في السنوات الأخيرة تسييسًا للقطاع العام وإخضاعه لأهواء السياسيّين، وتسييس الجهاز القضائيّ ومحاولة السيطرة على التعيينات القضائيّة ونقلها من الاعتبارات القضائيّة إلى الاعتبارات السياسيّة والحزبيّة، أي جعل الجهاز القضائيّ مطيّة للسياسيّين، وخادمًا لهم ، ومنع أي إمكانيّة لرقابة أيّ كانت على عمل الوزراء والمسؤولين والمديرين والمسؤولين، ما يجعل الفساد السلطويّ حالة عاديّة يقبلها الجهاز القضائيّ، ويجعل توسيع نطاق الفساد السياسيّ الذي تواجهه إسرائيل اليوم، والدليل عليه لوائح الاتهام الماثلة أمام عدد كبير من الوزراء ورئيس الحكومة، وقد يصل أيضًا الجهاز القضائيّ، بمعنى أن فساد السياسة، سيتحول شئنا أم أبينا إلى سياسة فساد.
تسييس القضاء، أو محاولات التسييس، هناك من يعتقد خطأ قد أوقفها قرار إلغاء "قانون منع حجة الأرجحيّة" وما كان قبل القرار الذي صدر مساء يوم الإثنين من هذا الأسبوع، وتحديدًا تسريب مسوّدة القرار، والتي تعتبر حالة غير مسبوقة في تاريخ محكمة العدل الإسرائيليّة، وبغضّ النظر عن هويّة من قام بتسريب مسوّدة القرار، ورغم أن الأغلبيّة تجزم أن المسرِّبين هم من المعارضين لمواقف المحكمة، وأنهم أرادوا عبر ذلك ،خلق ضغط سياسيّ وجماهيريّ على المحكمة، وربما إرجاء نشر القرار، أو ترهيب بعض قضاتها، فإن تسريب المسودة هو دليل على نجاح محاولات تسييس القضاء، واتهامه بأن قضاة المحكمة العليا يحملون أجندة سياسيّة ومواقف سياسيّة واضحة، وهو أمر كان سيحدث بغضّ النظر عن القرار، أي ما إذا كان ينصّ على إلغاء القانون الذي سنّه البرلمان، وعندها سيتمّ اتهام القضاة بأنهم يساريّون وفوضويّون معادون للحكومة واليمين، يخضعون لأهواء المتظاهرين في شارع كابلان في تل أبيب، وأنهم طبقة فوقيّة لا تهتم بنتائج الانتخابات البرلمانيّة، أو قبول القانون، وعندها سيتم اتهام القضاة بأنهم خضعوا للضغوط السياسيّة والترهيب الذي مارسه اليمين، وهو ما نراه اليوم وهو النتيجة الحتميّة لمحاولات التسييس، وإن كانت النتيجة على أرض الواقع معاكسة لما أرادت الحكومة الحاليّة، التي تستخدم الحرب الحاليّة وضرورة الوحدة فيها وخلالها، وسيلة لإسكات الانتقادات حول فشلها في انهيار الاقتصاد، واستمرار تخصيص الميزانيّات وفق اعتبارات سياسيّة فئويّة، والتنازل التام والمتواصل في كافّة القضايا المتعلّقة بهويّة الدولة والحريّات الشخصيّة، وفصل السلطات ومكافحة العنف في المجتمع العربيّ، وتعزيز الأمن الشخصيّ، وتخفيف الأعباء الاقتصاديّة وغلاء المعيشة وكبح ارتفاع الأسعار، وإلحاق الأضرار بقطاع الهايتك والصادرات.
تسييس الحرب، عبر عدم وضع جدول زمنّي لها، أو وضع أهداف واضحة لها، يمكن فحص ما إذا كانت قد تحقّقت، والاستعاضة عن ذلك بأهداف هي في الواقع تصريحات سياسيّة وليست استراتيجيّة عسكريّة واضحة، حتى في ظلّ حكومة واسعة، أو حكومة حرب، يجعل الوضع السياسيّ في إسرائيل أقلّ استقرارًا شيئًا فشيئًا، خاصّة على ضوء استطلاعات الرأي العامّ التي تؤكّد أن انتخابات عام 2024، ستسفر عن استبدال الحكومة الحاليّة، وأنها إذا ما جرت تثير سؤالين هامّين أوّلهما ما إذا كان من الصحيح إجراء انتخابات برلمانيّة خلال "حالة حرب"، أو على وقع هدير المدافع وأزيز الرصاص، وربما دون الوصول إلى كافّة أهداف الحرب ومع بقاء يحيى السنوار على قيد الحياة، وإمكانيّة تصريحات يطلقها حول فشل نتنياهو في إنهاء حياته، لينهي هو حياة نتنياهو السياسيّة، ناهيك عن إمكانيّة أن تُجرى الانتخابات البرلمانيّة على وقع حرب في الشمال أيضًا على ضوء ارتفاع حدّة اللهب هناك، وثانيهما السؤال حول هويّة الشخص، أو السياسي الذي سيعلن نهاية عمر الائتلاف الحاليّ اليمينيّ بامتياز، مع الإشارة إلى وجود عاملين جديدين في الحلبة السياسيّة، إضافة إلى اللاعبين الحاليّين بيني غانتس وبنيامين نتنياهو، هما نفتالي بينيت ويوآف غالانت.
" ضرورة استبدال الحكومة الحاليّة"
ختامًا يجب القول إن التوجّه الذي يحاول اليمين اليوم، وأنصار الحكومة الحاليّة تكريسه من أن السلطة تتمتع بالدعم التامّ وغير المحدود والحصانة أمام الانتقادات خلال الحرب، أو ما دامت الحرب دائرة، هي توجّهات تلائم أنظمة الحكم غير الديمقراطية ، فبريطانيا مثلًا في الحرب العالميّة الثانية استبدلت زعيمها نوفيل تشمبرلين بونستون تشرتشل، ليقود الحرب بعد ثمانية أشهر من اندلاع الحرب، وأن الديناميكيّة في الشارع الإسرائيليّ واضحة للغاية وملخّصها ضرورة استبدال الحكومة الحاليّة، وبالتالي فإن الحديث عن ارتفاع صوت السياسة، بعد أن تسكت المدافع، يجب أن يتم اليوم ويحظر منعه، وأن يتّسع ليشمل أسئلة عديدة حول الطريق الذي ستتّجه إليه إسرائيل بعد الحرب ، ومن سيقودها في المرحلة القادمة، وهل ستنتصر الديمقراطيّة وفصل السلطات واستقلاليّة القضاء، وهل ستتغيّر نظرة الحكومة إلى الأقليّات فيها بما في ذلك زيادة الاهتمام بالمواطنين العرب والمساواة ودمجهم في حياة الدولة الاقتصاديّة والأكاديميّة والعمليّة والعلميّة وغيرها، أم أن ما كان هو ما سيكون، وأن فساد السياسة سيتحوّل إلى سياسة فساد رسميّة، أو بكلمات أخرى تخريب السياسة لتصبح سياسة الخراب؟!.العام الجديد 2024 سيكون كما يبدو كفيلًا بالردّ.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]