عبد الكريم عزام - صورة شخصية
والذي تبقى مواقفه نبراسا لمن يسعى لدراسة تاريخ المجتمع العربي في البلاد من بعد النكبة بتجرد وموضوعية.
تميز الشيخ عبد الله برؤيته الثاقبة وقراءة الواقع بعين مبصرة قلما تجدها عند الكثيرين من العلماء والمشايخ سواء في الداخل ام في كل العالم الإسلامي والعربي. تلك الرؤية التي كان الكثيرون يرونها منعزلة عن الواقع وتتعرض للنقد وأحيانا كثيرة للطعن والغمز لكنها لاحقا كانت تكشف عن فهم عميق لمسيرة التاريخ والمجتمعات وتقلبات النفس البشرية.
لا أزكى أحدا على الله في مقالي هذا ولا حتى الشيخ عبد الله ذاته، فالشيخ مجتهد غير معصوم، مواقفه تحتمل الخطأ والصواب، له ما له وعليه ما عليه، بل ان نهج التصويب والنقد هو من صميم فكره وكثيرا ما كان رحمه الله يحث ابناءه، أبناء التيار الإسلامي، على تقبل النصيحة والاسترشاد بنهج الاولين في ذلك، وكان له مواقفه العملية التي تؤكد على تبنيه هذا الفهم حتى على ذاته قبل اخوانه، وميزانه في ذلك العدل والانصاف منطلقا في ذلك من الآية الكريمة "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا".
ومن مواقفه التي سيسجلها التاريخ له، حرصه في بداية الدعوة على اعتبار المشروع الدعوي في البلاد مشروعا له خصوصياته وموقعه الذي يجعله متميزا ومنفردا عن سائر المشاريع الإسلامية في العالم كله. لذلك برز حرصه رحمه الله على ابراز هذا التميز من خلال التأكيد والحفاظ على دوائر الانتماء المتداخلة التي تمتزج فيها هويتنا الإنسانية بالإسلامية بالعربية ثم بدائرة المواطنة في دولة إسرائيل. لذلك كان الشيخ حريصا على الموازنة بين هذه المركبات في سلوكه ونصحه لإخوانه لعلمه ان وقوع خلل في الموازنة بين هذه المركبات سيكون له الأثر على السلبي على مسيرة الحركة الإسلامية.
" أهل مكة أدرى بشعابها "
وقد انعكست هذه الموازنة في مستويات عديدة منها مطالبته بعدم استيراد الفتاوى من خارج حدود بلادنا لان الفقيه الفطن هو الذي يعيش واقعه، ويتحرك من خلاله، ويعلم احتياجاته وتحدياته على قاعدة "اهل مكة أدرى بشعابها". هذا الفهم الذي يتعدى كونه فهما فقهيا الى كونه رؤية تنظيمية تسعى لحفظ استقلالية العمل الدعوي تنظيميا وفكريا دون التنكر لوجود قواسم عديدة مشتركة باعتبارنا أبناء الامة العربية ذات اللغة الواحدة والتاريخ الواحد، والإسلامية ذات الدين والقران والنبي الواحد، والإنسانية ذات القيم الإنسانية المشتركة.
فلم يكن رفض الشيخ استيراد الفتوى انفصالا عن الامة بقدر ما كان دعوة لها لفهم الواقع والتيسير على الشعوب وقراءة الحاضر قراءة حكيمة توازن ما بين مقاصد الشريعة الكلية وبين ليونة ورحمة الفقه الإسلامي خاصة في باب السياسة الشرعية والعمل التنظيمي. فالشيخ كان يتألم لواقع الامة وللظلم الواقع عليها، وكان يتابع الوقائع في كل العالم ويحللها ويرصدها بدقة وكذلك كان على إدراك تام بواقعه السياسي والتحديات المحتملة تجاهه.
لقد وضع الشيخ قاعدة إضافية ليؤكد خصوصية التنظيم والفكر بعبارته المعهودة "قرشك بفأسك قرارك برأسك" مدركا ان الارتباط الفكري وحتى لو بالفتوى يعني التعلق والارتباط بمصدر الفتوى ومصالحه التنظيمية مما يعني عدم استقلالية القرار والعمل، وبالتالي تحمل جانبا من المسؤولية عن سلوكيات وأفكار المفتي ومؤسسات الإفتاء القاعدين خارج حدود بلادنا ويعيشون واقعا مختلفا عن واقع العمل الدعوي والتنظيمي والقانوني في بلادنا.
ان الشيخ رحمه الله امتلك بصيرة جعلته يقرا الواقع ويستبصر المستقبل ويقدم ذاته في المقدمة كدرع لحماية أبناء المشروع الإسلامي. فكانت تصريحاته وسلوكياته الحكيمة سواء تلك التي كانت في الاعلام المحلي ام تلك التي كانت في الاعلام العالمي ام لقاءاته بقيادات محلية وإقليمية كلها تنطلق من رؤية واقعية وحدس أمني وبصيرة فقهية ثاقبة.
وبعد رحيله رحمه الله وفي مراجعة لتلك المواقف، خاصة في ظل تسارع الاحداث الحالية يتبين لكل دارس منصف ان بقاء الحركة الإسلامية نابضة وفاعلة في مجتمعنا يعود في الأساس لمواقف الشيخ في حينه ولما تركه من ارث فكري وفقهي لأبنائه البررة، وفي ذات الوقت من عارض نهج الشيخ في حينه واتهمه تهما باطلة بلغت حد التخوين والتكفير والخروج عن وحدة الصف وشقه يتكشف يوميا سوء تقديرهم للواقع ومالات سياستهم التي لم تميز ما بين صناعة الأهداف الحقيقية وبين الشعارات الواهية التي لا تخدم المشروع الإسلامي.
تجارة الأوهام وصناعة الأهداف الحقيقية:
أدرك الشيخ رحمه الله ان نجاح المشروع الإسلامي منوط بقدرة هذا المشروع ليس على تجنيد الالاف وترديد الشعارات الكبيرة صعبة التحقيق انما على صناعة الأهداف الحقيقية ولو بدت للناظر حقيرة، لذلك كان حريصا على رفض صناعة الأوهام مجتهدا حتى في حديثه على اختيار العبارات الواقعية بعيدا عن التهويل والمبالغة.
لذلك تحدث رحمه الله في مفاهيم فقهية ثورية ومغايرة لما اعتادت الاذن الإسلامية على سماعه، ونصح ابناءه دوما بانتقاء العبارات بدقة لإدراكه ان اللغة لها أثرها في صناعة الوعي والوعي الكاذب ولفهمه ان التواضع في التعبير هو من صميم الوعي والفهم الشرعي المتوافق مع قوله تعالى "كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون".
ان تعديل النفوس والارتقاء بها في الفهم والوعي يتطلب من القائد الحكيم التدرج والمرونة في خطابه لأبنائه فحتى النخبة الأولى من الامة الإسلامية حين خاطبها الله عز وجل كان خطابه القرآني الخالد متدرجا فيما أحل وما حرم وفيما طالب به فئة ولم يطالب فئة أخرى من المؤمنين. كأحكام الضرورات والعزائم في السعة والشدة.
لقد كان الشيخ واعيا لعبارات كثيرة رددها بعض الخارجين عن الصف من أبنائه، وشحذوا بها الناس، انها لا تتجاوز كونها مجرد تجارة أوهام وصناعة فشل وان نطق بها الالاف والواقع خير دليل لكشف ذلك.
ففي الشدة تتراجع العبارات الفضفاضة الى حجمها الطبيعي وتعود الشعارات الكبيرة لتكون مجرد فقاعات هوائية ووسيلة شعبوية لتجنيد الناس حول سراب يحسبونه ماء.
ففي السعة من السهل رفع سقف الخطاب، خاصة في المواضع التي تبيحها ديمقراطية إسرائيل وتتحكم بها، بينما في الضيق والشدة، تتحطم كل الاسقف، ويعود الخطاب الى واقعيته ومكانه الحقيقي.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]