المحامي زكي كمال - تصوير: قناة هلا وموقع بانيت
قد بدأت على الأقلّ أمريكيًا وفق معلومات وثيقة رشحت عن لقاء وزير الدفاع الأمريكيّ لويد أوستن، مع نظيره الإسرائيليّ يوآف غالانت مساء الإثنين من هذا الأسبوع في وزارة الأمن في تل أبيب، تواصل الحرب الحاليّة على غزة، من جهة تسجيل الأرقام القياسيّة، من حيث كونها الحرب الرسميّة الرابعة، تسميةً واعترافًا حكوميًّا، التي تخوضها إسرائيل منذ إقامتها، إضافة إلى حملات عسكريّة ومواجهات وصدامات أخرى اعتبرتها لأسباب سياسيّة واقتصاديّة، حملات عسكريّة، أو عمليّات عسكريّة، وأنها اليوم وبعد 77 يومًا منها، ، ثاني حرب من حيث طول مدّتها ، بعد حرب عام 1948 التي خاضتها إسرائيل، وتواصل إثارة الأسئلة المؤلمة والحقيقيّة حول طريقة إدارتها وأسباب ذلك، وكذلك حول أهدافها النهائيّة، وما إذا كانت قابلة للتحقيق والقياس والمراجعة والتقييم، وحول دوافع قادتها في الطرفين الإسرائيليّ والفلسطينيّ على حدّ سواء، ناهيك عن النقاش حول ما إذا كانت ستكون الحرب الأخيرة، خاصّةً وأن إسرائيل تصرّ على أن تفقد "حماس" كافّة قوّتها وقدرتها العسكريّة والسياسيّة، وأن تكفّ عن كونها عاملًا فاعلًا وهامًّا في المعادلة المعقّدة للعلاقة بين إسرائيل وقطاع غزة خاصّة، وإسرائيل والفلسطينيّين عامّة. كلّ تلك الأمور ما زال من المبكر الجزم حولها وبصددها. ويمكن الجزم أن هذه الحرب سجّلت رقمًا قياسيًّا أو واقعًا غير مسبوق، بل ربّما ينير الضوء الأحمر المستقبليّ، ويؤكّد أن القادم أسوأ، باعتبارها الحرب الأولى التي يمكن التأكيد على أنها حرب دينيّة، أكثر من كونها سياسية وأضعاف كونها تسعى لتحقيق أهداف عسكريّة بحتة، تدور بين اليهود، أو الشعب اليهوديّ والإسلام. وليس بين إسرائيل وحركة "حماس"، أو حتى بين إسرائيل والإسلام المتطرّف، فمن الجانب الإسرائيليّ نجحت إسرائيل في تحويل الأمر كلّه إلى صراع دينيّ، يرافقه بعد حضاريّ، ضمن لها دعم الولايات المتحدة غير المحدود، ودعم الدول الأوروبيّة العلنيّ، وربما دعمًا صامتًا من بعض الدول العربيّة المعتدلة، كما يسميها الغرب، باعتبارها تحارب الإرهاب عامّة والإرهاب المدعوم من إيران الشيعيّة وولاية الفقيه ثانيًا، مستعينة بذلك بحقيقة دامغة هي أن حركة "حماس" قد تم اعتبارها وتصنيفها في كثير من دول العالم، على أنها حركة إرهابيّة بكلّ ما يعنيه ذلك من أبعاد سياسيّة وعسكريّة وماليّة واقتصاديّة، ناهيك عن إسرائيل عامّة ورئيس حكومتها الحاليّ بنيامين نتنياهو الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، أمريكيًّا وأوروبيًّا، يدرك بثقة تامّة، أن أحدًا لن يجرؤ على معارضة مكافحة الإرهاب عامّة، أو الإرهاب الإسلاميّ وفق التسمية السياسيّة المتّبعة، كما يدرك نتنياهو وتدرك إسرائيل، أن الإعلام الغربيّ يقبل، بل يتبنى الرواية الإسرائيليّة، وبالتالي تعمل إسرائيل منذ اليوم الأول للحرب، أي منذ السابع من أكتوبر ، على غرس فكرة أن الحرب الحاليّة هي حرب دينيّة، وهي فكرة يقبلها الغرب وأمريكا، كما تؤكّد تصريحات السياسيّين الغربيّين ، وهو واقع تساعده من الجانب العربيّ والفلسطينيّ، تصرّفات ومواقف عربيّة وإسلاميّة وخطاب عربيّ خاصّة في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وبعض القنوات التلفزيونيّة ومنها "الجزيرة "القطريّة وفضائيّة "الأقصى" التابعة لحركة "حماس " وغيرها، يتم فيها استخدام تعبيرات وتسويق رواية ملخّصها أن الحرب الحاليّة هي عدوان على المسلمين، ما يعزّز الرواية الإسرائيليّة، ويغطي ويبرّر مجريات الحرب، فتسميتها بأنها حرب ضد الإرهاب خاصّة ذلك الذي تعرّضت له إسرائيل في السابع من أكتوبر، وهو يوم مناسبة دينيّة، ويوم مقدّس وفق التقويم اليهوديّ، تمنح الشرعية لمجرياتها ، ومن الجانب الفلسطينيّ، كانت التسمية دينيّة بامتياز ، فاختيار اسم طوفان الأقصى، عنوانًا للعمليّة، واعتبارها وفق كافّة تصريحات "حماس" حربًا ضدّ اليهود باعتبارهم يحتلون أرض فلسطين التي تعتبرها الحركة وفق ميثاقها التأسيسيّ من العام 1988، أرض وقف إسلاميّ تُسَجَّل باسم أجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة، ولا يصحّ التفريط بها، أو بجزء منها أو التنازل عنها، أو عن جزء منها، ولا تملك دولة عربيّة، أو كلّ الدول العربيّة مجتمعة حقّ التنازل عنها، ولا يملك ذلك الحقّ ملك أو رئيس، أو كلّ الملوك وكلّ الرؤساء، ولا تملك ذلك أيّ منظمة، أو كلّ المنظّمات سواء كانت فلسطينيّة، أو عربيّة، وما رافق ذلك من الدعوة إلى الجهاد والنفير، إضافة إلى النقاش حامي الوطيس بين رجال الدين المسلمين في مختلف الدول العربيّة والإسلاميّة، وحتى مؤتمر الرياض الشهير الذي لم يكتف المبادرون إليه ، بدعوة أو مشاركة الدول العربيّة، بل دعوا إليه كافّة الدول الإسلاميّة، ما يشير إلى إضفاء بعد إضافيّ على الصراع القوميّ والسياسيّ الإسرائيليّ- الفلسطينيّ، وهو صراع جعلته السياسات المحليّة والدوليّة والقرارات غير المدروسة فلسطينيًّا وعربيًّا، صراعًا مستمرًّا منذ قرون ، هو بعد الحرب الدينيّة وليس فقط القوميّة، وهو ربما ما تؤكّده إسرائيليًّا النقاشات حول وجوب اختيار اسم بديل للحرب يستبدل الاسم الحالي" السيوف الحديديّة" وما تم اقتراحه من أسماء أولها" بدايات الخلق "، أو بريشيت" بالعبريّة، وغيرها من أسماء تحمل معاني دينيّة وتوراتيّة مجملها الخلاص تغذّيها رغبة جهات سياسيّة يمينيّة ومتديّنة تقدّس الاستيطان، تريد العودة إلى قطاع غزة باعتباره جزءًا من أرض إسرائيل التاريخيّة والتوراتيّة.
" الحرب الدينية الأولى "
إذن، هي الحرب الدينيّة الأولى، ورغم أنه من المحتمل أنها لن تكون الأخيرة، وبالتالي قد يتخيّل البعض أنها تجديد مفاجئ وخطير ومقلق، لكنّ هذا الاعتقاد يجافي الحقيقة في أحسن الأحوال، ويشكّل تعاميًا عن رؤية الواقع بتطوّراته وتعرّجاته على مدار العقود الثلاثة الأخيرة خاصّة، والعقود السبعة ونيّف منذ العام 1948 عامّة، على الصعيد الإسرائيليّ ، كما أنها تجافي الحقيقة على صعيد ما شهدته الساحة الفلسطينيّة منذ العام 1988، وهو فلسطينيًّا يشكّل علامة فارقة وتاريخًا كان من المفروض أن ينير الضوء الأحمر، أو أن يلفت الانتباه إلى ما سيحدث من انقسام خطير وتنافر بين الطروحات السياسيّة والتطلّعات القوميّة التي تمثّلها فصائل منظمة التحرير الفلسطينيّة التي كانت منذ الستينيات والسبعينيّات في القرن الماضي ممثّلة في المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ، بما فيها الجبهة الشعبيّة وغيرها ممّن اعتمدت النضال المسلح طريقًا، وأرادت فلسطين من النهر إلى البحر، دون أن ترفض تمامًا الحوار والمسار السياسيّ برعاية دوليّة أو غيرها، وهي جهات تعتبر الفلسطينيّين وحدهم، أو قبل غيرهم، أصحاب الحق في اتّخاذ القرارات حول ما سيكون عليه حال البلاد والحلّ السياسيّ للخلاف مع إسرائيل أو النزاع معها، وبين التطلّعات، أو التوجّهات الدينيّة التي تعتبر فلسطين وقفًا لا مكان فيه لغير المسلمين، ولا مجال حوله للتفاوض والتنازلات، أو الحلول الوسط، وهي تطلّعات تمثّلها حركة "حماس" تعتبر فلسطين ملكًا للمسلمين كلّهم لا يحقّ لأيّ قائد أو منظمة فلسطينيّة، أو قائد عربيّ أو منظّمة عربيّة التفاوض حولها فهي للمسلمين وحدهم، فكم بالحري الحقّ في قبول، أو مجرد مناقشة أيّ حلول وسط، ولعل الأقدار، أو الصدف التاريخيّة والتي لم تحظ بالاهتمام الكافي، أو الدراسة المعمّقة ربما بفعل ما يتم اليوم تسميته، أو المفهوم الخاطئ، أو الاعتقاد الخاطئ، من أن الأمور لن تتعقد، وأن ما سيحدث هو بالضبط ما نريد له أن يحدث، أو حالة يتغلّب فيها المنشود على الموجود ويزيح النظر عنه، وأعني هنا عدم التفكير، أو مجرد الاعتقاد أن التوجّهات الدينيّة هي الأقرب إلى قلوب الشرق والأقصر طريقًا إلى قلوب وعقول وأذهان الفئات الضعيفة اقتصاديًّا والمقموعة سياسيًّا وعلميًّا وثقافيًّا، قدَّرت وليس صدفة كما يتّضح اليوم، أن يتزامن على الساحة الفلسطينيّة حدثان ، الفارق والبعد بينهما هو البعد بين الشرق والغرب بل أكثر، فهما نقيضان لا يلتقيان ولن يلتقيا، أولهما قرارات المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ الـ 19 المنعقد في الخامس عشر من تشرين الأول عام 1988في الجزائر ، أو ما عرف باسم إعلان الاستقلال الفلسطينيّ، الذي يمكن تلخيص قراراته بأنها المرّة الأولى التي منح المجلس القيادات الفلسطينيّة، صلاحيّة التفاوض من أجل حلّ قائم على قراري مجلس الأمن رقم 242 ، 338 اللذين ينصّان على إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة في حدود الرابع من حزيران عام 1967، وهو تفاوض يعني ولأوّل مرّة الاعتراف بحقّ إسرائيل في الوجود في حدود قرار التقسيم من العام 1947، والمطالبة بانسحاب من الأراضي التي تمّ احتلالها في حرب الأيام الستة، حزيران 1967، واعتراف أكثر من مئة دولة في مختلف أنحاء العالم بدولة فلسطين، وثانيهما هو الإعلان عن ميثاق حركة المقاومة الإسلاميّة "حماس" في الثامن عشر من آب 1988، تتويجًا لتأسيس الحركة قبل عدّة أشهر من ذلك، وهو ميثاق يرفض أيّ علاقة، أو تفاوض أو قبول مع إسرائيل، ويرفض حدود الرابع من حزيران ، ويتبنى مواقف مؤسّس حركة" الإخوان المسلمين" حسن البنا، الذي قال إن إسرائيل ستقوم وستبقى قائمة إلى أن يبطلها الإسلام كما أبطل ما قبلها، وهو موقف عملت "حماس" على تثبيته وتجذيره وتعميق وجوده في أذهان الفلسطينييّن في غزة أولًا ، عبر محطات تاريخيّة يمكن الإشارة إلى أنها ترسم طريق تعزيز التوجّهات المتطرّفة والأصوليّة دينيًّا لحركة "حماس" وهو الرفض التامّ للمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيّين، حتى لو تم ذلك في مؤتمر دوليّ هو مؤتمر مدريد عام 1991 وضمن وفد فلسطينيّ أردني مشترك، مثّل الفلسطينيّين فيه الدكتور حيدر عبد الشافي ابن مدينة غزة، ومثّل الأردن فيه الدكتور عبد السلام المجالي، ووزير الخارجيّة كمال أبو جابر، ومن ثمّ رفض مقرّرات ومخرجات اتفاقيات أوسلو ، وبعدها سلسلة العمليّات العسكريّة الانتحاريّة التي أعقبت الاتفاق، وأوقعت مئات القتلى الإسرائيليّين وساهمت في اعتلاء اليمين والليكود برئاسة بنيامين نتنياهو سدّة الحكم بعد اغتيال إسحق رابين، رئيس الحكومة الإسرائيليّة، وبعدها سيطرة "حماس" على قطاع غزة عام 2007، وطرد السلطة الفلسطينيّة وموظّفيها وأفراد شرطتها وأمنها الوقائيّ، وإقامة كيان فلسطينيّ منفصل في القطاع يضمّ قوة مسلحة، استخدمت في مواجهاتها العسكريّة مع إسرائيل القذائف والصواريخ وأسلحة طويلة المدى، وصولًا إلى مرحلة قصوى ضمن مسيرة التشدّد الديني هذه ، عبر مؤتمر اسمه "مؤتمر وعد الآخرة" انعقد في غزة في الثلاثين من أيلول عام 2021 ، نظّمته هيئة أطلقت على نفسها اسم "هيئة وعد الآخرة" ورعاه وشارك فيه يحيى السنوار رئيس المكتب السياسيّ لحركة "حماس" ، علمًا أنه تخلّلت المؤتمر تصوّرات وخطط ومقترحات تؤكّد أن الخلاف مع إسرائيل هو خلاف دينيّ، وبالتالي لا حلّ له إلا بإزالتها عن الوجود، ما يستوجب وفقا لرؤية القائمين عليه، التأهّب لما بعد تحرير فلسطين وضرورة ترتيب الأمور، لتمكين عودة اللاجئين للسكن والإقامة، بما في ذلك الاستفادة من العمارات والأبنية السكنيّة التي خلّفها اليهود، وتجنّب تدمير محطات الكهرباء والموانئ والمطارات، أو حتى الشوارع والمؤسّسات الأخرى. وهو مؤتمر أكّد المشاركون فيه وكلّهم من الحركات الإسلاميّة وخاصّة "حماس" أن المؤتمر يشكّل إعلانًا واضحًا واعترافًا صريحًا بالتنازل التام ، بل استبعاد أي حلول وسط مع إسرائيل، وأي قبول لوجودها ككيان، أو حتى لوجود اليهود. والأنكى من ذلك أن قرارات المؤتمر تؤكّد أنه الردّ على ما وصفته بعدم فاعلية لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، وعدم إجراء انتخابات فيها، وعدم مشاركة أهمّ حركات المقاومة فيها (حماس) ، وبالتالي جاء المؤتمر ليتهم السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة ومنظمة التحرير الفلسطينيّة، بأنها عمليًّا لا تمثّل الشعب الفلسطينيّ، وأنها تخلّت عن تطلّعاته ومصالحه بقبولها التفاوض مع إسرائيل، والحلول السلميّة وحلول الوسط والتسويات، وتنازلت أو تخلّت عن فكرة تحرير فلسطين عمليًّا، بإلغائها الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ، وبالتالي لا بدّ لحركة "حماس" أن تقوم بذلك بعد أن نكثت السلطة الوطنيّة المواثيق والعهود، في إشارة إلى أن التحرير الذي يجب أن يكون شاملًا يلزم الحركة بالتغلغل في قلوب الناس في الضفة الغربيّة وشرقي القدس وداخل الخط الأخضر فكلها فلسطين، وفق ميثاق "حماس"، ناهيك عن أن التحرير لن يتم إلا عن طريق الحرب، فلا حل للقضية الفلسطينيّة إلا بالجهاد، كما ينصّ ميثاق الحركة، أمّا المبادرات والطروحات والمؤتمرات الدوليّة، فمضيعة للوقت، فالمبادرات والحلول السلميّة والمؤتمرات الدوليّة لحلّ القضيّة الفلسطينيّة تتعارض وتتناقض مع عقيدة حركة المقاومة الإسلاميّة، والتفريط في أيّ جزء من فلسطين من النهر إلى البحر، تفريط في جزء من الدين، أما معاملة اليهود بعد تحرير فلسطين والسيطرة عليها كاملة، فيجب أن يشمل، كما جاء في قرارات مؤتمر وعد الآخرة، عبر التمييز بين محارب يجب قتاله، وهارب يمكن تركه، أو ملاحقته قضائيًّا ، أو مسالم مستسلم، يمكن استيعابه أو إمهاله للمغادرة.
إذن، هي الحرب الدينيّة الأولى، ورغم أنه من المحتمل أنها لن تكون الأخيرة، وبالتالي قد يتخيّل البعض أنها تجديد مفاجئ وخطير ومقلق، لكنّ هذا الاعتقاد يجافي الحقيقة في أحسن الأحوال، ويشكّل تعاميًا عن رؤية الواقع بتطوّراته وتعرّجاته على مدار العقود الثلاثة الأخيرة خاصّة، والعقود السبعة ونيّف منذ العام 1948 عامّة، على الصعيد الإسرائيليّ ، كما أنها تجافي الحقيقة على صعيد ما شهدته الساحة الفلسطينيّة منذ العام 1988، وهو فلسطينيًّا يشكّل علامة فارقة وتاريخًا كان من المفروض أن ينير الضوء الأحمر، أو أن يلفت الانتباه إلى ما سيحدث من انقسام خطير وتنافر بين الطروحات السياسيّة والتطلّعات القوميّة التي تمثّلها فصائل منظمة التحرير الفلسطينيّة التي كانت منذ الستينيات والسبعينيّات في القرن الماضي ممثّلة في المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ، بما فيها الجبهة الشعبيّة وغيرها ممّن اعتمدت النضال المسلح طريقًا، وأرادت فلسطين من النهر إلى البحر، دون أن ترفض تمامًا الحوار والمسار السياسيّ برعاية دوليّة أو غيرها، وهي جهات تعتبر الفلسطينيّين وحدهم، أو قبل غيرهم، أصحاب الحق في اتّخاذ القرارات حول ما سيكون عليه حال البلاد والحلّ السياسيّ للخلاف مع إسرائيل أو النزاع معها، وبين التطلّعات، أو التوجّهات الدينيّة التي تعتبر فلسطين وقفًا لا مكان فيه لغير المسلمين، ولا مجال حوله للتفاوض والتنازلات، أو الحلول الوسط، وهي تطلّعات تمثّلها حركة "حماس" تعتبر فلسطين ملكًا للمسلمين كلّهم لا يحقّ لأيّ قائد أو منظمة فلسطينيّة، أو قائد عربيّ أو منظّمة عربيّة التفاوض حولها فهي للمسلمين وحدهم، فكم بالحري الحقّ في قبول، أو مجرد مناقشة أيّ حلول وسط، ولعل الأقدار، أو الصدف التاريخيّة والتي لم تحظ بالاهتمام الكافي، أو الدراسة المعمّقة ربما بفعل ما يتم اليوم تسميته، أو المفهوم الخاطئ، أو الاعتقاد الخاطئ، من أن الأمور لن تتعقد، وأن ما سيحدث هو بالضبط ما نريد له أن يحدث، أو حالة يتغلّب فيها المنشود على الموجود ويزيح النظر عنه، وأعني هنا عدم التفكير، أو مجرد الاعتقاد أن التوجّهات الدينيّة هي الأقرب إلى قلوب الشرق والأقصر طريقًا إلى قلوب وعقول وأذهان الفئات الضعيفة اقتصاديًّا والمقموعة سياسيًّا وعلميًّا وثقافيًّا، قدَّرت وليس صدفة كما يتّضح اليوم، أن يتزامن على الساحة الفلسطينيّة حدثان ، الفارق والبعد بينهما هو البعد بين الشرق والغرب بل أكثر، فهما نقيضان لا يلتقيان ولن يلتقيا، أولهما قرارات المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ الـ 19 المنعقد في الخامس عشر من تشرين الأول عام 1988في الجزائر ، أو ما عرف باسم إعلان الاستقلال الفلسطينيّ، الذي يمكن تلخيص قراراته بأنها المرّة الأولى التي منح المجلس القيادات الفلسطينيّة، صلاحيّة التفاوض من أجل حلّ قائم على قراري مجلس الأمن رقم 242 ، 338 اللذين ينصّان على إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة في حدود الرابع من حزيران عام 1967، وهو تفاوض يعني ولأوّل مرّة الاعتراف بحقّ إسرائيل في الوجود في حدود قرار التقسيم من العام 1947، والمطالبة بانسحاب من الأراضي التي تمّ احتلالها في حرب الأيام الستة، حزيران 1967، واعتراف أكثر من مئة دولة في مختلف أنحاء العالم بدولة فلسطين، وثانيهما هو الإعلان عن ميثاق حركة المقاومة الإسلاميّة "حماس" في الثامن عشر من آب 1988، تتويجًا لتأسيس الحركة قبل عدّة أشهر من ذلك، وهو ميثاق يرفض أيّ علاقة، أو تفاوض أو قبول مع إسرائيل، ويرفض حدود الرابع من حزيران ، ويتبنى مواقف مؤسّس حركة" الإخوان المسلمين" حسن البنا، الذي قال إن إسرائيل ستقوم وستبقى قائمة إلى أن يبطلها الإسلام كما أبطل ما قبلها، وهو موقف عملت "حماس" على تثبيته وتجذيره وتعميق وجوده في أذهان الفلسطينييّن في غزة أولًا ، عبر محطات تاريخيّة يمكن الإشارة إلى أنها ترسم طريق تعزيز التوجّهات المتطرّفة والأصوليّة دينيًّا لحركة "حماس" وهو الرفض التامّ للمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيّين، حتى لو تم ذلك في مؤتمر دوليّ هو مؤتمر مدريد عام 1991 وضمن وفد فلسطينيّ أردني مشترك، مثّل الفلسطينيّين فيه الدكتور حيدر عبد الشافي ابن مدينة غزة، ومثّل الأردن فيه الدكتور عبد السلام المجالي، ووزير الخارجيّة كمال أبو جابر، ومن ثمّ رفض مقرّرات ومخرجات اتفاقيات أوسلو ، وبعدها سلسلة العمليّات العسكريّة الانتحاريّة التي أعقبت الاتفاق، وأوقعت مئات القتلى الإسرائيليّين وساهمت في اعتلاء اليمين والليكود برئاسة بنيامين نتنياهو سدّة الحكم بعد اغتيال إسحق رابين، رئيس الحكومة الإسرائيليّة، وبعدها سيطرة "حماس" على قطاع غزة عام 2007، وطرد السلطة الفلسطينيّة وموظّفيها وأفراد شرطتها وأمنها الوقائيّ، وإقامة كيان فلسطينيّ منفصل في القطاع يضمّ قوة مسلحة، استخدمت في مواجهاتها العسكريّة مع إسرائيل القذائف والصواريخ وأسلحة طويلة المدى، وصولًا إلى مرحلة قصوى ضمن مسيرة التشدّد الديني هذه ، عبر مؤتمر اسمه "مؤتمر وعد الآخرة" انعقد في غزة في الثلاثين من أيلول عام 2021 ، نظّمته هيئة أطلقت على نفسها اسم "هيئة وعد الآخرة" ورعاه وشارك فيه يحيى السنوار رئيس المكتب السياسيّ لحركة "حماس" ، علمًا أنه تخلّلت المؤتمر تصوّرات وخطط ومقترحات تؤكّد أن الخلاف مع إسرائيل هو خلاف دينيّ، وبالتالي لا حلّ له إلا بإزالتها عن الوجود، ما يستوجب وفقا لرؤية القائمين عليه، التأهّب لما بعد تحرير فلسطين وضرورة ترتيب الأمور، لتمكين عودة اللاجئين للسكن والإقامة، بما في ذلك الاستفادة من العمارات والأبنية السكنيّة التي خلّفها اليهود، وتجنّب تدمير محطات الكهرباء والموانئ والمطارات، أو حتى الشوارع والمؤسّسات الأخرى. وهو مؤتمر أكّد المشاركون فيه وكلّهم من الحركات الإسلاميّة وخاصّة "حماس" أن المؤتمر يشكّل إعلانًا واضحًا واعترافًا صريحًا بالتنازل التام ، بل استبعاد أي حلول وسط مع إسرائيل، وأي قبول لوجودها ككيان، أو حتى لوجود اليهود. والأنكى من ذلك أن قرارات المؤتمر تؤكّد أنه الردّ على ما وصفته بعدم فاعلية لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، وعدم إجراء انتخابات فيها، وعدم مشاركة أهمّ حركات المقاومة فيها (حماس) ، وبالتالي جاء المؤتمر ليتهم السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة ومنظمة التحرير الفلسطينيّة، بأنها عمليًّا لا تمثّل الشعب الفلسطينيّ، وأنها تخلّت عن تطلّعاته ومصالحه بقبولها التفاوض مع إسرائيل، والحلول السلميّة وحلول الوسط والتسويات، وتنازلت أو تخلّت عن فكرة تحرير فلسطين عمليًّا، بإلغائها الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ، وبالتالي لا بدّ لحركة "حماس" أن تقوم بذلك بعد أن نكثت السلطة الوطنيّة المواثيق والعهود، في إشارة إلى أن التحرير الذي يجب أن يكون شاملًا يلزم الحركة بالتغلغل في قلوب الناس في الضفة الغربيّة وشرقي القدس وداخل الخط الأخضر فكلها فلسطين، وفق ميثاق "حماس"، ناهيك عن أن التحرير لن يتم إلا عن طريق الحرب، فلا حل للقضية الفلسطينيّة إلا بالجهاد، كما ينصّ ميثاق الحركة، أمّا المبادرات والطروحات والمؤتمرات الدوليّة، فمضيعة للوقت، فالمبادرات والحلول السلميّة والمؤتمرات الدوليّة لحلّ القضيّة الفلسطينيّة تتعارض وتتناقض مع عقيدة حركة المقاومة الإسلاميّة، والتفريط في أيّ جزء من فلسطين من النهر إلى البحر، تفريط في جزء من الدين، أما معاملة اليهود بعد تحرير فلسطين والسيطرة عليها كاملة، فيجب أن يشمل، كما جاء في قرارات مؤتمر وعد الآخرة، عبر التمييز بين محارب يجب قتاله، وهارب يمكن تركه، أو ملاحقته قضائيًّا ، أو مسالم مستسلم، يمكن استيعابه أو إمهاله للمغادرة.
إسرائيليًّا حدث الأمر ذاته، فالتشدّد الدينيّ كان قائمًا منذ قيام الدولة، لكنّ القيادات اليهوديّة وبحنكتها وذكائها، وضعت التطلّعات القوميّة والعلمانيّة في مقدّمة سلّم أولوياتها، فإقامة الدولة تتطلّب ذلك، رغم وجود أصوات متديّنة رفضت قرار التقسيم وقرارات لجنة "بيل" ومنهم قيادات دينيّة منها الحاخام الرئيسي لليهود الغربيّين الأشكناز، يتسحاق هرتسوغ، جدّ رئيس الدولة الحاليّ الذي رفض قرارات بريطانيا تقييد الهجرة إلى فلسطين، ورفض القبول بأقل من حدود إسرائيل التاريخيّة والتوراتيّة، وقال مع الحاخام اليهوديّ الشرقيّ يعكوف مئير، إنه يرفض أيّ تسوية تشمل التنازل عن أجزاء من أرض إسرائيل أو تقسيمها، ويؤكّد حق اليهود التام في أرض الميعاد بحدودها التاريخيّة، وهو موقف رفضه دافيد بن غوريون الذي أراد تحقيق طموحات الحركة الصهيونيّة، وفق مراحل مدروسة أولها إقامة الدولة، ولعل موقفه من الدين يتجلّى في موافقته على إعفاء مئات من دارسي الدين اليهوديّ، أو طلاب المعاهد الدينيّة من الخدمة العسكريّة الاجباريّة، وإصراره على وجود رجال دين بارزين ضمن الموقّعين على وثيقة استقلال دولة إسرائيل، لتبدأ الحركات المتطرّفة دينيًّا بتعزيز قوتها حتى عام 1967، والذي فتح الباب على مصراعيه أمام تعزيز هذه الحركات، وخاصّة بعد حرب الأيام الستة، التي أعلن بعدها الحاخام تسفي يهودا كوك، أن هذه البلاد كلها ملك لليهود ولا مكان ولا أرض فيها للعرب ، بل كلها أرض لبني إسرائيل، وهي ميراث الآباء والأجداد التاريخيّ والأزليّ بحدودها حسب التوراة اليهوديّة (وقف يهوديّ من النيل إلى الفرات)، ما فتح شهيتها على الاستيطان في سبسطيا والخليل وغيرها تحت حكم حزب "العمل" ومن ثم تأسيس حركة "غوش أمونيم" الاستيطانيّة، والتي تم استبدالها بعد اتفاقية السلام مع مصر بهيئة تسمّى مجلس مستوطنات الضفة وغزة، التي قال أحد قادتها وهو مناحيم فيليكس، أمام محكمة العدل العليا في تموز 1979، إن اليهود استوطنوا في إسرائيل والضفة الغربيّة تنفيذًا لأوامر إلهيّة وردت في التوراة، جاء فيها أن عليهم الاستيطان، وأن يرثوا الأرض التي وعد الله بها أجدادهم وآباءهم، ولذلك فإن أيّ حلّ وسط، وأي تنازل عن أجزاء من أرض إسرائيل إنما يناقض الوعد الإلهيّ، ما يوازي إعلان "حماس" أن أيّ تنازل عن جزء من أرض فلسطين إنما هو تنازل عن جزء من الدين، وهو نفسه الذي قال عن اتفاقيات أوسلو إنها تؤكّد أن لا حقّ للحكومة التي وقعتها في مواصلة إدارة شؤون دولة اليهود (ليس دولة إسرائيل) ، فالسلطة التي تفصل دولة إسرائيل عن سياقها التاريخيّ والدينيّ هي سلطة غير شرعيّة، وهو نفس النص الذي ورد في قرارات "مؤتمر وعد الآخرة" الذي يمثّل مواقف "حماس" من أن السلطة الفلسطينية لا تمثّل الفلسطينيّين، لأنها تقبل بحلول وسط وتسويات تشمل تنازلًا عن فكرة أن فلسطين وقف إسلاميّ منذ الفتوحات الإسلاميّة وأيام صلاح الدين الأيوبيّ.
"النموذج الإسرائيليّ للحركات الدينيّة اليهوديّة"
الصهيونيّة الدينيّة اليوم هي النموذج الإسرائيليّ للحركات الدينيّة اليهوديّة التي تعتبر التوراة دستورًا، وبالتالي لا مكان لأيّ تنازل أو تفاوض، وهو موقف يمكن القول إنه يشبه موقف البيئة العلمانيّة التي ترعرع فيها بنيامين نتنياهو كابن للمؤرخ بن تسيون نتنياهو الذي رفض قرار التقسيم، واعتبر مواقف زئيف جابوتنسكي اليمينيّة معتدلة وتنازليّة، ومن هنا معارضة اتفاقيات أوسلو باعتبارها تنازلًا عن أجزاء من أرض إسرائيل، وتسليمها للأغيار، علمًا أن مصير من يسلمها للأغيار هو الموت (عقوبة من يسلِّم أرض إسرائيل) كما كان الموقف من إسحق رابين بعد اتفاقيات أوسلو، وصولًا إلى اغتياله وتعزيز الاستيطان في الضفة الغربيّة، ودعم نتنياهو منذ أول أيامه في السلطة، وهو الذي استخدم الشعار الانتخابيّ القائل أنه "جيد لليهود"، وأن اليسار الإسرائيليّ الذي وقع اتفاقيّات أوسلو نسي معنى اليهوديّة، وبالتالي وصلنا إلى يومنا هذا الذي باتت "الصهيونيّة الدينيّة" هي المتحكّمة في السياسة الإسرائيليّة، بعدما انتقلت السيطرة إليها من العلمانيّين الذين وضعوا أسس إقامة إسرائيل، فهي تدمج بين السياسة والدين وبين الدين وبعض مقوّمات الصهيونيّة بمفهومها الذي قامت وفقه الدولة، بمعنى أنها تقول أنه يمكن أن يكون الشخص متدينًا وصهيونيًا معًا، أي أن يشجع الاستيطان، وأن يؤدي الخدمة العسكريّة، وأن يعمل لتسريع قدوم المسيح المخلّص، وهو ما يفسر ازدياد قوتها خاصّة في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، على حساب أحزاب الحريديم، ومنها "شاس" اليهوديّة الشرقيّة و"يهدوت هتوراة"، التي خسرت الكثير من مصوّتيها لصالح الصهيونيّة الدينيّة، وممثلَيْهَا بن غفير وسموتريتش، زعيمي حزب "الصهيونيّة الدينيّة"، التي تقيم مستوطنات زراعيّة، كما فعلت الأحزاب العماليّة قبل إقامة الدولة، وتنشئ مدارس دينيّة خاصّة، ومنظمات كشفيّة، وأطرًا تنظيميّة للشباب قبل الخدمة العسكريّة، ليختفي تنظيم " الحارس الشاب- هشومير هتسعير" العماليّ، وليستبدله تنظيم يمينيّ متطرّف ودينيّ يدعو إلى طرد العرب ومنع تمليكهم الأراضي، وهو تنظيم "الحارس الجديد" ، وأطُر أخرى تعمل لوضع تصوّرات وتتخذ استعدادات لما بعد القضاء على أيّ إمكانيّة لكيان فلسطينيّ في الضفة الغربيّة عبر استيطان يمنع أيّ حلّ يشمل كيانًا أيًّا كان للفلسطينيّين، ويحوّلهم إلى مواطنين داخل دولة يهوديّة من النهر إلى البحر، عليهم كما جاء في خطة بتسلئيل سموتريتش ، القبول بمكانة "الأغيار" ، دون حقوق وبإقامة مشروطة، وإمّا الهجرة، وإمّا القتال، في تعبير يكاد يطابق موقف "حماس" من اليهود بعد التحرير، فإمّا المسالمة والقبول أو المغادرة، مع الاحتفاظ باليهود العلماء والخبراء في مجالات الطبّ والهندسة والتكنولوجيا والصناعة المدنيّة والعسكريّة لفترة، وعدم تركهم يغادرون بالمعارف والعلوم والخبرات التي اكتسبوها، علمًا أنه من الواضح أن أحزاب الصهيونيّة الدينيّة اليوم تعمل من منطلق إيمانها أن الحكومة الإسرائيليّة السابقة برئاسة نفتالي بينيت ويائير لبيد ودعم القائمة العربيّة الموحدة، كانت محاولة ربما أخيرة، للحفاظ على النخب القديمة والدولة الديمقراطيّة، ولذلك وجب إسقاطها، كما أنها تدرك أن الحكومة الحاليّة وعلى ضوء الاستطلاعات قد تكون الفرصة الأخيرة لتحقيق مطامحها ومطامعها، ومن هنا الاستماتة في الدفاع عنها والعمل لضمان بقائها.
ما سبق يستعرض مسيرة التزمّت والتطرّف التي عاشها، وربما بالتوازي، الإسرائيليّون والفلسطينيّون، وصولًا إلى حالتنا اليوم من سيطرة للتوجّهات الخلاصيّة والتزمّت الدينيّ اليهوديّ في إسرائيل، وتفوّق واضح للتزمّت الدينيّ ممّثلًا بحركة "حماس" فلسطينيًّا وهو السبب الرئيسيّ والحقيقيّ لعدم إجراء الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة الفلسطينيّة، والنتيجة حرب أكتوبر الحاليّة وهي دينيّة بامتياز، ودون محاولة أيّ من طرفيها تجميلها أو إخفاء حقيقتها، متجاهلة خطر سيطرة التوجّهات الدينيّة على الصراعات الإقليميّة التي تدور حول أراض ما، ما يمنع أيّ حلّ وسط يصبّ في المصلحة المشتركة لطرفي النزاع، وهنا في حالة الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ، يصبّ في مصلحة الشعبين الإسرائيليّ والفلسطينيّ والمتمثّلة في إقامة الدولتين، فهيمنة الدين على هذا الصراع تعني إفراغه من جوهره السياسيّ، وتحوّله إلى حرب دينيّة لا تبقي ولا تذر، لا تنتهي دون قضاء طرف على الطرف الآخر، ولن تنتهي، بل ستؤول إلى جولات متكرّرة من الحروب وسفك الدماء، والأعمال غير الإنسانيّة التي ينفّذها أناس فقدوا انسانيتهم، يمكن وصفهم استنادًا إلى قول أفلاطون بأن الإنسان هو مخلوق يدبّ على اثنتين ودون ريش، بأنهم مخلوقات تدبّ على اثنتين يمكنها التصرّف بمنتهى الوحشيّة والظلاميّة والسوء، فإذا كانت الحروب الناجمة عن منطلقات أمنيّة وسياسيّة وحتى اقتصاديّة، وكما قال نابليون بونابرت، حروبًا همجيّة منظمة مهما حاولنا إخفاء ذلك، فكيف تكون الحروب الدينيّة؟؟؟ إنها الوصفة الأكيدة لإثبات صحّة قول ألبرت أينشتاين بأن الحرب تجعل الرجال غير إنسانيّين، وتدفعهم إلى ارتكاب الأفعال البشعة، فهل هناك من يعتبر أم أن غريزة الانتقام بحكم التزمّت الدينيّ أدخلت طرفي الحرب الحاليّة في حرب دينيّة ودوامة لن تُبْقي ولن تذَر؟
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: [email protected]